عند الحديث عن طبيعة العلاقة بين المجتمع السياسي وبين المجتمع المدني، نجد أنفسنا ومن حيث لا ندري نتكلم عن علاقات التكامل أو التضاد بين الفاعل السياسي وبين المجتمع المدني، ونجد أنفسنا أيضا في معمعة إجابات عن أسئلة قديمة/ جديدة؛ بدءا من أرسطو وهُوبس والإسكتلندي آدام فيرغـوسن وهيجل وماركس وجاك روسو وغرامشي، وغيرهم كثير ممن ساهموا في تراكم كرونولوجي للفكر الإنساني، وجعلوا من مصطلحات “الصالح العام” و”المواطنة” و”المجتمع المدني وعلاقـته بالدولة”، وغيرها، منصات اشتغال غيّرت الكثير من المعادلات، ورجحت كفة الصراع، سواء إلى هذه الفئة أو إلى الأخرى، تبعا لإيديولوجيات تطور الفكر الإنساني.

 

وبالرغم من تطور الفكر السياسي عبر الزمان، فقد بقي الاقتراع الانتخابي هو أحد أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني لإشراك المواطن العادي في الممارسة السياسية؛ فلا يُوجد أي ميكانيزم آخر، بعيدا عن آلية الانتخاب، يضمن للمواطن ممارسة سيادته والاضطلاع بدور محوري في اختيار ومراقبة ومحاسبة من ينوب عنه ويمثله أمام المؤسسات. وقد كان هذا الإشراك، إلى غاية منتصف القرن العشرين، يقتصر على الرجال ويقصي المرأة من مباشرة هذا الحق.

 

لقد حاولت العديد من الدول استيعاب تطور حاجات المواطنين، وخصصت لهم بشكل تدريجي هامشا كبيرا في المشاركة في الشأن العام، حتى كادت أن تتحـول المصافحة بين المجتمع السياسي وبين المجتمع المدني في أكثر من مرة إلى “لعبة التحدي” ومن يقوى على احتواء الآخر. وهذا التنافس دفع الفاعل السياسي، ممثلا في الأحزاب، إلى خلق أذْرُع مدنية تحت عباءة جمعيات مدنية وتطوعية ونقابات مهنية لمحاولة تطويق المجتمع المدني. ولم تخرج الكنيسة أيضا عن هـذا التقليد بإنشائها لمجموعات تأثير، تحت عباءة جمعيات ومُنظمات خيرية، تُبرر بها شرعية ممارستها للسياسة ووسيلة للانتشار في صفوف مختلف فئات المجتمع.

 

لقد حصرت الممارسة الفعلية للديمقراطية التمثيلية (البرلمان)، منذ قرون، دور المواطن في حق الاختيار فقط؛ وهو ما دفع به إلى الإحجـام عن المشاركة السياسية أو القيام بالتصويت الاحتجاجي أو العقابي، ليصل في نهاية المطاف إلى العزوف عـن المشاركة. وهكذا، أصبح العزوف هو الخصم الأول لكل الأحزاب السياسية في جميع الدول تقريبا، وأدخل الفاعل السياسي في أزمة مصداقية وأزمة قيم أخلاقية، وطرح إشكال شرعية القرارات المتخذة من لدن الفاعل السياسي؛ بما أنها لا تعبر إلا عن النسبة القليلة من المجتمع التي اختارت المشاركة.

 

وفي السنوات الأخيرة، تطور مفهوم آخر للممارسة السياسية ولتدبير الشأن العام فرض نفسه على الفاعل السياسي أو الحزبي، مفهوم يستمد مضمونه بالأساس من مبدأ إشراك المواطن في تدبير شؤونه العامة؛ حتى لا يقتصر دوره فقط على الاختيار. وهكذا، أصبح مصطلح الحكامة (Gouvernance) يزحف شيئا فشيئا على مفهوم الحكومة (Gouvernement) كسلطة تنفيذية مخول لها اتخاذ القرارات تحت مراقبة البرلمان.

 

إن تدبير الشأن العام لم يعد يقتصر فقط على سلطة منتخبة تشرع القوانين، وعلى سلطة تنفيذية منبثقة عنها تنفذ هذه القوانين وتتخذ القرارات المرتبطة بالشأن العام؛ بل أصبح التحدي هو جعل هذه القرارات مقبولة من لدن المواطنين وغير مرفوضة. ليكون الحل هو الديمقراطية التشاركية وتوسيع هامش المواطن في استعادته لممارسته للسيادة، عبر الاقتراح والتتبع، وأيضا الانتقاد، مُعتمدا على آليات العرائض والتوقيعات ومقترحات تشريعية؛ بل إن راوول بونت، العمدة السابق لمدينة بُورْتو أليغري بالبرازيل، سيذهـب أبعد من هذا باعتماده على “الميزانية التشاركية”. وهناك تجارب مشابهة لتجربة بونت، الذي نشر كـل أفكاره وتفاعلاته في كتاب “الديمقراطية التشاركية”، سنة 2005، في كل مـن سويسرا وإيطاليا والدول الإسكندنافية وغيرها.

 

لقد حاول مهندسو الديمقراطية التشاركية، كحل لأزمة الديمقراطية التمثيلية، أن تكون الأولى مُكملة للثانية ولا تُعارضهـا. وقد جاء الدستور المغربي لسنة 2011 ليؤكد أهمية هذا الميكانيزم ويؤسس له في الممارسة السياسية اليومية، من خلال التنصيص على هذا المبدأ، سواء في تصديره “… الديمقراطية المواطنة والتشاركية…”، أو في عدد من فصوله، مثل الفصل الـ12 الذي يُقر بدور الجمعيات (الفاعل المدني) في إطار الديمقراطية التشاركية بإعداد القوانين وتفعيلها وتقييمها. كما أن المشرع، سواء في الفصل الـ13 أو الفصل الـ139 (الخاص بالجهوية الموسعة)، شدد على إحداث آليات الحوار والـتشاور قصد إشراك الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية. هذا بالإضافة إلى الملتمسات بالفصل الـ14، وتقديم العرائض من خلال الفصل الـ15 كآليات للديمقراطية التشاركية؛ لكن ما زلنا ننتظـر تنزيل قوانينها التنظيمية المرتبطة بهذه الفصول من أجل تجسيد هذه الآليات على أرض الواقع، كما أكد على ذلك الفصل الـ146 من الدستور.

 

وبعيدا عن أيّ انفعال عاطفي، يبدو، من خلال استقراء نتائج تشريعيات 7 أكتوبر 2016، أن تنزيل آليات الديمقراطية التشاركية أصبح ضرورة ملحة وعاجلة، خاصة أن النسبة المرتفعة للمقاطعين تحمل رسالة قوية مفادها بالأساس الرفض وعدم القبول والقطيعة؛ القطيعة مع البرامج المتشابهة في كل شيء، ومع النخب الكلاسيكية التي تقود الإطارات الحزبية منذ عقود، وكذا القطيعة مع كل تواصل سياسي تقليدي لم يتماش مع التطورات التكنولوجية المتسارعة التي تفرض نفسها على الجميع.

 

إن نسبة 43 في المائة المشاركة في الاستحقاقات الأخيرة، بالرغم من التعبئة والدعوة إلى الانخراط بكثافة في المسلسل الانتخابي، هي أيضا نسبة تستدعي وضع بعض علامات الاستفهام، وتستدعي أيضا من الفاعل السياسي المغربي تدارك قيمة الفاعل المدني وحاجته لهامش أوسع للاستماع إلى انتظاراته والإجابة عن تساؤلاته ولإشراكه أكثر في تسيير الشأن العـام. وكل هذا يجب أن يتم بالتوازي مع إخراج نتائج الحوار الوطني حول المجتمع المدني للعموم، وتحديث المنظومة القانونية للمجتمع المدني، وتقوية دوره إلى جانب القوى السياسية.

 

من خلال قراءة أولية في نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016 وتخلف أكثر من 50 في المائة من الكتلة الناخبة عن أداء حقها في التصويت، يظهر أن هذا السلوك السياسي هو احتجاج ضمني على هزالة العرض السياسي للأحزاب، وخسوف دورها التأطيري وامتدادها داخل المجتمع، وتقوقعها على نفسها في إعداد البرامج بعيدا عن الفاعل المدني في إطار “التوزيع العادل للسلطة”. ولأن الصراحة تلزمنا بتسمية الأشياء بأسمائها، فإن الجرأة الحقيقية هي أن يقوم الفاعل السياسي اليوم بنقد للذات دون جلدها، ويضع اليد على مكامن الخلل التي جعلت الأحزاب بعيدة عن المواطنين، والنقائص التي تطبع طريقة تدبير الإطارات الحزبية للعملية الانتخابية، سواء تعلق الأمر بإعداد البرامج أو الحملات التواصلية، أو حتى الأدوات المستعملة في إيصال الخطاب. فليس من المهم اليوم تحديد الفائز من الرابح؛ ولكن الأهم هو وضع الأسئلة بكل شجاعة وموضوعية، فهل سينزل الخاسرون اليوم إلى قواعدهـم الانتخابية لمعرفة مواطـن الضعـف وأسباب الإخفاق؟ أم سينحنون إلى غاية مرور العاصفة وتعود دار لقمان إلى حالها، وبالتالي يعيدون الأخطاء نفسها في الاستحقاقات المقبلة؟

 

إن المواطن المغربي لم يعد يقبل بتراشق جديد بين الأطراف المتصارعة أو باتهامات ونعوت غير أخلاقية، ولم يعد يصدق تصدير أسباب إخفاقات الأحزاب إلى عوامل خارج المتعارف عليه من شروط التنافس الشريف. لذلك، فالمطلوب اليوم هو مصالحة الفاعل السياسي مع الناخب (المواطن)، عبر فتح الفاعل السياسي أبواب حصونه المنيعة في وجه الفاعل المدني وتبني سياسة حقيقية للقرب كإستراتيجية عمل، وليس كأنشطة مناسباتية وفلكلورية تتناسل كلما اقترب موعد الانتخابات، والمطلوب أيضا هو الفورية لأن الحملة الانتخابية لتشريعيات 2021 تبدأ من 8 أكتوبر 2016.

 

الدكتور عبدالله بوصوف  الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.