الدكتور عبدالله بوصوف  الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

فـي  سـنة 1979  سيُـسـافـر ” إنريكـو بـرْلينْغْويـر” الى دائـرة بباليـرمـو الايطاليـة ، حيث عـرف حزبه اليساري خسارة كبيـرة..وهُـناك خاطب الـجُمُوع بأن هـدفـه هـوالإنصات إلـيهـم ولـيس الكلام..كان يـود معرفة أسـباب هـزيمتهـم في باليـرمو، كان يـود معرفـة أين أخطـأوا….!!!

 

واقعة تحمل أكثر من دلالـة،  خـاصـة بـطبيعـة الـسياسي نـفسـه..أي بـرلينغـويـر الـيساري الايطالي الكبير الذي أثـر في الفكـر الـسياسي الاوروبي  بشكل عام ، و أصبح أيـقونة أوروبية إلى جانب انطونيــو غـرامشي صاحب كتاب ( الأمير الحديث ) وغيرهـم …

 

نستحضر هذه الشخصيات كمفكريـن و مـثقفـين أولا ،لأن الايديولوجيات السياسية ، قـد تتعرض للتغييرأو التعديل أو حتى للـتجاوز، لكن إرثهـم الفكري بـاق و يحتـفـظ  بجاذبيته و لا يتعرض للتقـادم…!

 

و هو ما يجعل منهم و من غيـرهم  من طينة  السياسي/ المثقف، ذاكـرة لا تُمحى وقُـدوة  أزلية  لكل الأجيال ، بل هُـم من يُحبب السياسة الى نفـوس الشباب…

 

إذن ، فالإفـتقـار للـقـدوة السياسية هو ما  يجعل أغلب الشباب ينفـر منها وينعتونها بأقـذر الأوصاف ، وهو ما يُـنعش العزوف عن ممارسة كل  فعـل سيـاسي…في حين يجب توجيه أصبع الاتهـام للسياسي وليس للسياسـة ، ومـن هُنا وجب توجيه سـؤال الأخلاق  للـفاعل السياسي…!!

 

لـقد مجَـد الايطاليـون بـرْلينْـغْـويـر وغيـره ممن يـنتمون الى طـيـنة “السياسة الجادة ” ، التي تحترم  تعاقدها مع المواطنين ، لأنه عندما ينعدم عُـنصر الـثـقـة بين المواطنين والمؤسسات ، يُـفْـسح المجال للشعبوية والغضب وللعنف الاجتماعي…

 

يـشـدنا الحنين في كل المحطات الديمقراطية ،الى شخصيات سياسية مازال إرثها الفكري يحتفظ بحيويته رغم رحيلها عنا لسنوات عـديدة.. فهل نـدق ناقـوس الخطر لحال الأجيال القادمة ، لـفرضية إفتقـادها للـقدوة الـسياسية الـمُجدة والمُـتخلقة…؟

 

يـشـدنـا الحنين ، الى حوارات و خرجات إعـلامية لـسياسيين كبار، بأسلوب واضح و سهـل و لـيس فـيه  شيء من التعالي… سيـاسيـون  يُـناقـشـون بكـل جـرأة  مـواضيع غـاية في الأهمية بكـل مسـؤولية  و دون  الـتورط  فـي تـراشق كلامي مع خصم  سيـاسي آخر..وبـأسلوب خال من الأستـاذية أو إعطاء دروس للاخريـن..!!

 

يـشـدنا الحنين الى مبارزات فكرية بيـن قـامات سياسية ، حيث يكـتب ميكيافيلي كتاب “الأميـر “والـقاعدة الأشهـر” الغاية تبـرر الوسيلة ” حيث يغيـب الإعتبار الديني أو الوازع الاخلاقي ..فـيرد عليه انطونيـو غـرامشي بكتاب ” الأميـر الحديث ” !!

 

لقد نمـتْ و ترعرعتْ  ظاهـرة الـعزوف عن الفعل السياسي في أجواء انفصلت فيها الاخلاق و الجدية عن الـسياسة ،  حتى أصبح العـزوف بطابع عـالمي.. فعوامل الـفساد والـرشـوة و الـفضائح …وغيرها ، جعلت الـعديـد من الـشباب الأوروبي يعزف عنها ، و يُـعـوضها بحركات إحتجاجية  حملت شعـارات  نجحت فـقـط  في  ضغضغة مشاعـر المواطن الاوروبي ، لكـن جُـلها  يـفتـقر للتجربة و للعرض السياسي الـواقعييْـن بكل من ايطاليا و اليونان و اسبانيا والمانيا….

 

واقـع سيـاسي بتراكمات الفضائح الاخلاقية ،سـاهـم في بُـطىء وثيـرة تجديـد الـنُخب السياسية ، هـذا رغم وجـود إشارات أمل في تـجديـد  و تشبيـب الـنُخب عبر قنوات انتخابية ، كجاستيـن تـرودو كندا 45 سنة و ماريو رينزي ايطاليا 41 سنـة و رئيسة جمهورية  الكوسوفـو 40 سنة و عمـدة لـندن صادق خــان 45 سنة… وغيرهـم من مختلف الاديولوجيات و التوجهات السياسيـة..

 

و إلى وقـت قريب ، اعتبرنـا الـشبيبات الحزبية المغربية بمثابة أقـسام تمهيدية ، لـتكوين كفاءات سياسية من رحم أحزاب مغربية، كوادر تدرجت في الفعل السياسي و احتكت بقيـاداتها للتعلُـم…بل واعتبرها الكثيرون مـشـتلا لـتجديـد الـنخب المغربية و تشبيبها…!!

 

نعتصر أسفـا و نحن نرى اليوم ، هـؤلاء الكفاءات الشابة أو” مشاريع القيادات السياسية ” تعيـش  في واقـع  سياسي تغلب عليه السخرية السوداء والفساد والطموح الممزوج بالغرور…!!

 

واقـع  بـتـراشق يومي بيـن فـرقـاء ، اعتبروا أنفسهـم أعـداءا و ليس خصوما سياسيـين…و بالتنافـس في نشـر فضائح بعض القيادات الحزبية ، فـساد إداري ( اختلاس ، رشوة…) أو فساد أخلاقي (تحرش او خيانات…) ، وبمعنى أوضح إنفصال السياسي عن فضائل الأخلاق..مما يعني هـشـاشة في الـقـدوة السياسية  للقيادات الشابـة…!

 

وفي غياب أي تنافـس حول البرامج الواقعية وغـياب عـرض سياسي حقـيقي ، فإن ما يُميـز واقـع الشبيبات الحزبية اليوم ،هو الهرولة لإحتلال مواقع متقدمة في اللـوائح الوطنية  لضمان مـقعـد في البرلمان بدون عناء المشاركة في الانتخابات ،وبـالـتالي غياب عامل الإستحقـاق…!!

 

فهل يعني تـثـبيـت شباب ذوي القربى من إخوة و أصهار في اللوائح الوطنية عنصرا جديدا  لـتشبـيب و تـجديـد النخبة السياسيـة المغربية…؟

 

أم أن عـدم وجود قـدوة سيـاسية جادة ، يُـبـرر حالة الاسترخاء الـفكري و السياسي التي تعيشها الـشبيبات الحزبية…!!

 

فـأن تكون سياسي قُـدوة ، معناه أن تكون جديا في تعاقـدك مع المواطنين و المؤسسات..وأن تكون كل هـذا، معناه أن  تكون  سيـاسي بأخلاق الفرسان..

 

” يجب أن نُحب الـسياسـة ،لأن الأب الذي يُعنف إبنه لا يعني أن الأبـوة سيئة ، بـل ذلك الأب هـو السيء…لذلك يجب أن نُحب السياسـة و نكره السياسي الفاسـد..” هكـذا جاء على لسـان أحد صُناع السخرية السوداء بأوروبا…!

 

فهل سنـرى قـادة أحزابـنا السياسية بعـد انـتخابـات 7 اكتـوبـرالــقادم.. يـبحثون في دوائرهم الانتخابية عـن أسباب فـشلهم في الاستحقـاق الانتخابي، كما فعـل  بــرْلينْغْويــر…؟

 

 وهـل الناخب المغربي تعود على السياسي المُتكلم و ليس السياسي الـمُنصت…؟

 

إن الوضع يتطلب جُرعة كبيرة من الإلتـزام التعاقــدي سـواء مع الأفــراد أو المؤسسات ، حتى نُحرك  واجب الانخراط  في الفعـل الـسياسي  لـدى الناخب ، ونخلـق الـقُـدوة السياسية الجادة لـدى الـشباب…!