الدكتور عبدالله بوصوف  الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

مر شهر رمضان وبدأت بوادر العيد تحل في الأفق، في هذا المقال الذي نريده أن يكون تجميعيا ختاميا لمجموعة المقالات التي استضافها هذا الركن والتي حاولنا من خلالها تسليط الضوء على جوانب مشرقة من التاريخ الإسلامي، لكنها للأسف كثيرا ما يتم تجاهلها عمدا أو غير قصد، جوانب أكدت عليها النصوص الإسلامية ومحطات بارزة من تاريخ الأمة تؤكد بأن مبادئ التسامح والعيش المشترك واحترام الآخر لذاته ولإنسانيته، هي أسس ثابتة استمرت مع الإسلام على امتداد تاريخه منذ 15 قرنا، ووقائع سردناها تظهر بأن أصل التعامل الذي أكدته النصوص الدينية والتفريعات التي تولدت عنها، مبني على احترام الأديان الأخرى وعدم فرض دين معين على حساب دين آخر، وذلك حتى في أوج مراحل قوة المسلمين العسكرية والحضارية.

 

لقد أثبتت الوقائع والأحداث التي تطرقنا إلى جزء منها خلال الشهر الكريم، أن الإسلام دينا وتاريخا لم يكن أبدا مصدرا للحروب الدينية والإثنية، ولم يسعى في يوم من الأيام إلى إلغاء الآخر وإلغاء حقه في الوجود، وما الاستثناءات المؤسفة التي تثير الاهتمام في الوقت الحالي، أكثر من الأصول إنما أنتجتها سياقات سياسية خاصة بيت شرعيتها الدينية على سوء فهم للإسلام وعلى تأويلات بعيدة عن المقاصد والقيم يتحملها أصحابها. فالحالة العامة للتاريخ الإسلام تشهد على أن الإسلام فتح فضاءات للتعايش وللتسامح مع الأديان الأخرى، وضمنت مجتمعاته حقوق أهل الذمة وحرصت أعظم دوله على توفير السلم والأمن للمعتنقين للديانات الأخرى وخصهم بمعاملة حسنة مستنبطة من القيم الكبرى للإسلام؛ فكان بذلك المجتمع المسلم سباقا إلى وضع الأسس الأولى للعيش المشترك التي ستتبناها في ما بعد مجموعات بشرية أخرى، في مناطق جغرافية أخرى وهي تشكل اليوم قوام الحضارة البشرية ولبنات تعتمد عليها الدول في تنظيم الاختلاف بين مواطنيها.

 

وكان الهدف الأسمى من هذه الإسهامات البسيطة هو إعطاء صورة مغايرة عما يتم تداوله حول الإسلام، لتكون رسالة لكل دعاة الموت سواء من هذا الطرف أو ذاك، الذين يبررون القتل باسم الدين؛ فالمنظومة الإنسانية والمنظومة الدينية والتاريخية الإسلام، بريئة مما يدهون إليه وبضاعتهم الدينية مردودة عليهم، كما ـن دعاة صدام الحضارات لم يجدوا في يسعفهم لا في النصوص للإسلام ولا في التاريخ، من أجل تبرير هذه الأطروحات. لأن التاريخ الإسلامي بشهادة العدو قبل الصديق لم يقم بمجازر دينية أو تطهير عرقي ضد طائفة أو مجموعة إثنية، وأما وقائع العنف والتقتيل التي تلطخ بعضا من أوراق هذا التاريخ، والتي يريد البعض أن يجعلها مقرونة بالدين الإسلامي ويصورها على أن دوافعها كانت دينية، فما هي سوى وقائع ذات خلفيات سياسية وتخدم مصالح فئوية ضيقة لطائفة دون أخرى.

 

متمنياتنا في هذا المقال الختامي الذي يتزامن مع حلول عيد الفطر، بأن تكون هذه المناسبة فرصة لنا جميعا كمسلمين من أجل التصدي والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه استعمال الدين الإسلامي من أجل تبرير جرائمه سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو دول، وأن تكون خطوة إلى الأمام لإنقاذ الدين وعدم ترك الإسلام أسير فكر منغلق عدواني يدعو إلى الموت بينما الإسلام الحقيقي يدعوا إلى الحياة، ووضعه في إطاره الطبيعي الذي هو السلم والسلام العالميين.

 

في نفس الإطار، وبعد أن توقفنا على بعض من مظاهر العيش المشترك والتسامخ التي ميزت المجتمع المغربي منذ القدم، نتمنى أن نستطيع في المغرب فتح المزيد من النقاش المجتمعي المبني على الاحترام المتبادل، مع القناعة التامة بأن الدين هو مشترك مجتمعي لجميع المغاربة ولا يقتصر على فئة دون أخرى، وهو ما يحتم عليه أن يبقى في منأى عن المعارك السياسية، لأن احترام هذا المشترك المجتمعي يدخل أيضا ضمن احترام اختيارات المغاربة وتحصين النموذج المجتمعي المبني على التحاور واحترام الاختلاف والتعدد الذي نصبوا إليه.

 

ولأن المناسبة شرط، وبالتزامن مع كون بلادنا مقبلة على تنظيم قمة المناخ، فإننا نناشد القائمين على تنظيم هذا الحدث العالمي، من أجل تخصيص فضاءات أو لقاءات للتسامح، بالنظر للكوارث الإنسانية والطبيعية التي يخلفها التعصب والكراهية والإرهاب والحقد، والتي ربما تفوق أضرارها من ما تلحقه التغييرات المناخية. فالحروب الاستراتيجية والدفاعية والعدوانية يذهب ضحيتها ملايين من البشر، كما أن الحالة المزرية للمهجّرين والمتشردين وللاجئين وملايين الأشخاص عبر العالم تعود بالدرجة الأولى إلى الحروب والصراعات التي نشأت هنا وهناك. بالإضافة إلى ذلك فإن النزاعات المسلحة وما ينتج عن استعمال مختلف أنواع الأسلحة المدمرة من مآسي وأحزان تترك جروحا لا تدمل في جسد الإنسانية جمعاء، ونموذج نكازاكي وهيروشيما ليس عنا ببعيد.

 

فبقدر ما نحن بحاجة إلى نشر ثقافة مواطنة كونية من أجل المحافظة على البيئة بكل أبعادها وصد كل أشكال الإضرار بها وإلحاق الأذى بالعيش الكريم للإنسان، بقدر حاجتنا أيضا إلى نشر فكر التسامح والعيش المشترك لنساهم في الكف عن إراقة الدماء وتهديد الحياة الإنسانية، وبناء مجتمع يعم فيه الاحترام والوئام، لأن الإنسانية جمعاء مرتبطة بمصير واحد وكل ما من شأنه تهديد أمن وسلامة مجموعة من الأفراد هو في الحقيقة خطر يهدد الناس أجمعين، ولنا في حديث “السفينة” عبرة لكل من يسعى إلى خلق الفتن والتفريق بين الناس والتمييز بين مكونات لحمة واحدة هي الإنسانية : فعن النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)).