الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج  الدكتور عبدالله بوصوف.

 

أفرزت انتخابات 26 يونيو 2016 في إسبانيا أخبارا غير سارة لليسار، وخصوصا اليسار الجذري المتمثل في حزب “بوديموس” المنبثق عن الحركات الاحتجاجية الداعية إلى التغيير التي شهدها هذا البلد الأوروبي تزامنا مع الربيع العربي، والذي كانت جميع الاستطلاعات تتوقع إحداثه لمفاجأة أكثر من تلك التي أحدثها في انتخابات 20 دجنبر 2015 عندما فاز، في أول مشاركة له، بـ92 مقعدا، لكنه مع ذلك فشل في أن يكون طرفا في تحالف حكومي يقوده الاشتراكيون أو حتى اليمينيون، مما أدى إلى إجراء انتخابات جديدة بعد أزيد من ستة أشهر من الفراغ الحكومي.

v

وبالعودة سريعا إلى نتائج اقتراع 26 يونيو، فقد احتل المرتبة الأولى في هذه الانتخابات الحزب الشعبي الحاكم بقيادة ماريانو راخوي، بعد حصوله على 137 مقعدا؛ أي بإضافة 14 مقعدا عن الانتخابات السابقة، في حين نال الحزب الاشتراكي 85 مقعدا مقابل 90 مقعدا في انتخابات 20 دجنبر، بينما لم يحصد تحالف حزب “بوديموس” واليسار الموحد سوى 71 مقعدا، وجاء في الصف الرابع الحزب الحديث بدوره “المواطنون” بقيادة الشاب ألبيرتو ريبيرا بمجموع 32 مقعدا مقابل 40 مقعدا في دجنبر.

إن نتائج الانتخابات الإسبانية وإن كانت تعيد البلاد إلى نقطة البداية بما أنها لم تستطع إفراز حزب أغلبي أو تحالف منطقي بين تيارين متقاربين قادرين على تشكيل حكومة أغلبية، إلا أنها أبانت بالواضح أن بريق العرض السياسي للأحزاب الاحتجاجية لم يعد يستهوي الناخبين الإسبان. فحزب “بوديموس” الذي رأى فيه بعض الإسبان، في البداية، بديلا مقنعا لكسر الثنائية الحزبية التاريخية في سياق سياسي مطبوع بارتفاع نسبة البطالة التي بلغت سقف العشرين بالمائة وبتعدد الفضائح السياسية وتهم الفساد التي لاحقت مجموعة من قيادات الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي، أثبت محدودية برنامجه الاقتصادي وعدم وضوح برنامجه السياسي وسياسته الخارجية، ففضل الإسبان، يوم الحد الماضي، التصويت على الحزب الشعبي، وأجلوا انهيار الحزب الاشتراكي الذي احتفظ بالمركز الثاني، وهو ما يعني أن الإسبان لم يرغبوا في وضع مصيرهم بين يدي من يمكن أن يسيروا به نحو المجهول.

وإذا كان المسار الديمقراطي في إسبانيا قد تميز، نهاية سنوات السبعينيات، بالتوافقات وتقديم تنازلات من طرف جميع الفاعلين من أجل تمكين المملكة من طي صفحة الدكتاتورية ووضع نفسها في مسار الدول الديمقراطية، فإن الانتخابات العامة الأخيرة أثبتت أن النسيج السياسي والمجتمعي الإسباني لا يمكن أن يراهنا على بناء مشروع مجتمعي انطلاقا من نقد ما هو موجود، ورفض كل ما يطرحه باقي الفاعلين من دون اقتراح بدائل واقعية وقابلة للتطبيق، كما دأبت على ذلك القيادة الشابة لـ”بوديموس”. فالإسبان قد أخذوا الدرس من التجربة اليونانية التي لم يوصلها اختيار اليسار الجذري، ممثلا في حزب “سيريزا” وزعيمه تسيبراس، سوى إلى مزيد من التقشف والبطالة وانهيار اقتصادي كاد أن يهدد مكانتها بين دول الاتحاد الأوروبي.

إن الشعارات الرنانة وإيديولوجية الرفض الرافعة لشعار التغيير من دون إرفاقه ببرنامج واضح وقابل للتحقيق، لم تعد كافية لاستقطاب الناخب، لأن ما يطمح إليه المواطنون يتجاوز حماس الشباب الذي لم يقدم برنامجا مقنعا بالرغم من وعوده المتكررة بالرفاهية والازدهار. فالمشروع السياسي لا يمكن أن يعتمد فقط على المظاهر، كما أن التصويت الاحتجاجي لم يعد وسيلة للتعامل أثناء علمية التصويت، على الرغم من كونه يقدم طبقا إعلاميا دسما تستفيد منه وسائل الإعلام وتبنى عليه استطلاعات الرأي.

من جهة أخرى، أكد تصويت الإسبان يوم 26 يونيو الماضي أن البرامج الحزبية التي بنت سياستها الخارجية على قضايا داخلية لدول أخرى أثبتت محدوديتها. فمناوشات أحزاب اليسار، على رأسها “بوديموس”، ضد الوحدة الترابية للمغرب، ودعمها لطرح طرف دون آخر في قضية الصحراء، وتقديمها لوعد بدعم الانفصال، كلها أمور لا تدخل في صلب اهتمام الناخب الإسباني الذي أعطى أغلب أصواته للحزب الوحيد الذي لم يوقع أعضاؤه عريضة حول الصحراء، والذي يعتبر المغرب شريكا حقيقيا وجارا يعتمد عليه وأثبت أهميته في العديد من القضايا المشتركة.

إن التحديات المطروحة على الأحزاب السياسية في إسبانيا مرتبطة، أساسا، بارتفاع نسبة البطالة وتدني مستوى عيش السكان وانخفاض جودة الخدمات الاجتماعية والصحية، ولا وجود لإمكانية من أجل مواجهة هذه التحديات دون التوافق على حكومة وحدة وطنية تتجاوز العناد الشخصي للقيادات الحزبية وتضع على رأس أولوياتها مصلحة المواطن الإسباني، وهو الاتجاه نفسه الذي يذهب إليه الاتحاد الأوروبي الذي لا يحتمل، في هذه الفترة على الأقل، مواجهة إشكاليات سياسية داخلية قد تدفع إلى التفكير في الخروج من الاتحاد والانكباب على البيت الداخلي، على نهج استفتاء بريطانيا.