الدكتور عبدالله بوصوف  الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

 

تعد مسألة التعدد الديني والاختلاف العقائدي واحدة من الخصائص المميزة للمجتمع المغربي منذ قرون، ولم يسبق أن شهد المغرب صدامات أو حروبا تحت ذريعة الدين أو صراعات بين الطوائف رغم احتضانه أشخاصا منتمين إلى مجموعات دينية عديدة.

 

ولم يكن يوما اختلاف العقيدة سببا يعيق السلم والتعايش بين المغاربة، بل على العكس تماما، إذ يشهد التاريخ على التعاون والتآزر الذي جسدوه في مختلف المحطات، ما يجعل من المجتمع المغربي نموذجا في العيش المشترك واحترام الاختلاف.

 

اخترنا أن يكون منطلق الحديث عن قيم التسامح والعيش المشترك في المجتمع المغربي من مؤتمر الأقليات الدينية الذي احتضنته مؤخرا مدينة مراكش، والذي يشرف عليه منتدى السلم العالمي الذي يوجد مقره في أبو ظبي، في الإمارات العربية المتحدة، وفيه حث ممثلو مختلف الملل والديانات والطوائف على التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وخطابات التحريض على الكراهية والعنصرية، وأكدوا على ضرورة عدم توظيف الدين في تبرير أي عمل من شأنه النيل من حقوق الأقليات بالبلدان الإسلامية. كما تبنى المؤتمر “صحيفة المدينة” التي خطها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة كمرجع أساسي لحقوق الأقليات في الدول الإسلامية…

 

إن اختيار المغرب لعقد هذا المؤتمر لا شك أن له أسبابا عديدة، من بينها سمعته في مجال التعاطي مع الأقليات، بحكم كونه من البلدان القليلة في العالم العربي التي حافظت على روح صحيفة المدينة في ما يتعلق بمكانة أهل الذمة في مجتمع ذي أغلبية مسلمة؛ والتي يمكن اعتبارها أصلا للتأسيس للمواطنة بين جميع الديانات داخل المجال الجغرافي نفسه، إذ تدعو إلى إشراك جميع الطوائف والأديان، رغم اختلافاتها وتشعباتها، في الانتماء إلى الوطن نفسه.

 

لقد نصت صحيفة المدينة في عمقها على أن اليهود والمسلمين أمة واحدة، وشددت على المحافظة على السلم في التعامل مع الأقليات الدينية داخل المجتمع المسلم، سواء بالتنصيص على أنه “من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم”، أو التأكيد بالواضح على أن “يهود بني عوف وباقي المجموعات اليهودية الأخرى أمة مع المؤمنين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم …”، وهي المضامين التي طالما التزم بها المغرب على امتداد تاريخه، بانيا مجتمعه على أساس العيش المشترك بين المواطنين من المسلمين وغير المسلمين في المدن والأحياء نفسها، دون تبخيس أو تمييز قائم على الدين، وكفل للجميع حقوق المواطنة نفسها.

 

ولنا في الملك الراحل محمد الخامس نموذج لهذه الروح، إذ مازال موقفه الرافض للانصياع لحكومة فيشي بتهجير اليهود خالدا في الذاكرة العالمية، باعتبار أنه لا يوجد تمييز على أساس ديني بين جميع المواطنين المغاربة الذين يشكلون أمة واحدة..لذلك يمكن القول إن النظام في المغرب في عمقه مبني على النموذج الإسلامي الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وجسدت معانيه صحيفة المدينة.

 

وفي الإطار نفسه فإن الرسالة الملكية للمشاركين في مؤتمر السلم العالمي تزكي هذا الطرح من خلال تأكيد صاحب الجلالة على “أننا في المملكة المغربية لا نرى مبررا لهضم أي حق من حقوق الأقليات الدينية، ولا نقبل أن يقع ذلك باسم الإسلام، ولا نرضاه لأحد من المسلمين. ونحن، في اقتناعنا هذا، إنما نستلهم الفهم الصحيح لمبادئ الدين، كما نستلهم تراثنا الحضاري وتاريخ هذه المملكة العريقة في التعامل النبيل بين المسلمين وبين غيرهم من أتباع الديانات”.

 

لقد ساهم هذا اللقاء في تعزيز إشعاع المملكة المغربية في مجال احترام التعدد الديني وتدبير شؤون الأقليات، وحظيت بإشادة واسعة تجاوزت الحدود المغربية، ونوه بها ممثلو الديانات السماوية، وشخصيات عالمية بارزة، إلى درجة أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، لم يدع فرصة حضوره في حفل أقامته الجالية اليهودية في واشنطن من دون الإشادة بمؤتمر مراكش، وبجهود المغرب في باب احترام الأديان.

 

إن الإرث التاريخي الذي يتمتع به المغرب في احترام الأديان وحفظ حقوق الأقليات جسده على الصعيد التشريعي دستور 2011، الذي جاء ليؤكد بالملموس مدى التزام الدولة المغربية بواجبها التاريخي وتشبثها بمهمتها الحضارية في احترام الأديان وتعزيز التسامح؛ فأصبحت ديباجته مرجعا أساسيا لهذا الاختيار من خلال التأكيد على أن المملكة المغربية متشبثة بصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية؛ ما لا يدع مجالا للشك في توجه الدولة الثابت وحرصها على الاعتراف بمكوناتها وصيانة الاختلاف داخل منظومتها المجتمعية.

 

والمغرب يعتبر من الدول القلائل التي تنص دساتيرها على التعدد والاعتراف بالروافد بمختلف تشعباتها؛ وهو التوجه الذي يزيد من توطيده حرص أمير المؤمنين على إيلاء عناية خاصة بالمغاربة غير المسلمين، وعلى المحافظة على موروثهم وضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية دون قيد أو تضييق.

 

إن التعدد الديني الذي يتمتع به المجتمع المغربي ساهم بشكل واضح في إغناء الحضارة المغربية وحصن المجتمع من نعرات التفرقة والكراهية والعنصرية، وخلق التربة الخصبة لزرع بذور الاحترام بين الأديان والتسامح والعيش المشترك داخل المجتمع الواحد. وسنحاول في المقالات المتبقية في هذا الركن تسليط الضوء على جوانب من حياة المغاربة غير المسلمين داخل المجتمع، وصور من احترام الآخر وضمان الدولة المغربية للحرية الدينية للمجموعات الدينية، خصوصا المسيحية واليهودية.