أجمع العالم على إدانة الإرهاب بكل أشكاله، ونبذ كـل أشكال العنف والتنكيل بالنفس البشرية التي حرم الله قتلها، ورفعها درجة القداسة وربط مصير نفس واحدة بمصير البشرية جمعاء، فـ”مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”.

أحداث باريس الإرهابية في نونبر 2015 وأحداث مارس 2016 ببروكسيل ليست الأولى، ونخشى أنها لن تكون الأخيرة، إلا أن سياقها العام جعلها تـدق ناقوس الخطر وتشكل تهديدا حقيقيا لقيم التعايش السلمي في المجتمعات المتعددة الثقافات والديانات، حيث يعيش الجميع ويتمتع الأشخاص من جميع التوجهات بحقوقهم ويحترمون واجباتهم تحت سقف واحد؛ أي “الدولة” صاحبة السيادة والحامية للمواطنين.

لقد عقب هذه الأحداث الإجرامية إجماع على رفض الإرهاب وإدانته، لكن بالموازاة مع هذا الإجماع اختلفت ردود الفعل حول أسبابه، وتنوعـت مقترحات وأشكال الحد منه وطرق محاربته، سـواء على المستوى التشريعي بسن القوانين الزجرية وإجراءات عقابية جديدة، أو على المستوى الاجتماعي بإعادة النظر في سياسات الاندماج، وأيضا الانفتاح أكثر والاعتراف المتبادل بين الثقافات المتعددة المكونة لفسيفساء المجتمعات الأوروبية، والتي يمكنها أن تكون مصدر إغناء لهذه المجتمعات وليس سببا للتصادم.

وبقولنا إن الإرهاب جريمة تعاقب عليها جميع التشريعات الربانية والوضعية، فإنه بذلك يتموقع كظاهرة مركبة في تفسيرها، من حيث السلوك الإجرامي للإرهابيين وكذا من حيث تعدد أسبابــها وتداخلها بين الاجتماعي والنفسي…إلخ.

وليسمح لنا فقهاء علم الإجرام لتطفلنا العلمي وفضولنا المعرفي ونحن نفتـش في أوراق سيزاري لومبروزو وإنريكو فيري وجابرييل تارد و إيميل دوركهايم وغيرهم من رواد مدارس شهيرة في العلوم الإنسانية، ساعدت في فهم أسباب الجريمة وشرح السلوك الإجرامي. لقد وجدنا في مدرسة الوسط الاجتماعي بعـضا من الأجوبة على تساؤلات كثيرة كانت تؤرقنا؛ من قبيل هل الإرهـابي مجرم بالصدفة أم بالتكـويــن؟

في هذا الإطار، ذهب جابرييل تارد، مثلا، وهو من أنصار مدرسة ليون، إلى أن المجرم يكون ضحية يائسة للنظام الاجتماعي والاقتصادي القائم! وفي الاتجاه نفسه سار العالم إيميل دوركهايم، وهو مؤسس المدرسة الحديثة لعلم الاجتماع القانوني ومن أنصار الوسط الاجتماعي والتي ربطت الدور الأساسي في تحقيق الظاهـرة الإجرامية بالمجتمــع بعـدم قـيامه بالأدوار الملقاة على عاتقـه في تربية الفــرد وتهذيبه، باعتبار الفرد نتاجا طبيعيا لهذا المجتمع.

بدورنا ولمحاولة فهم الأحداث الإرهابية الأخيـرة كظاهرة إجرامية، نعتقد بأنه يجب التركيز على الجانب الاجتماعي، أي الفئة العمرية والطبقية وكذا المستوى التعليمي والحالة المادية والمهنية لهؤلاء الأشخاص… وأما قيام المدرسة التقليدية في علم الإجرام أساسا على منطق الربح والخسارة من خلال الربط بين حرية الاختيار والمنفعة التي يجنيها الفرد من هذا الاختيار، فـيجعلنا نقف على حقيقة مفهوم الاختيار وتحقُق عنصر الأهلية والقدرة على التمييز وأيضا الرغبة في الوصول إلى النتيجة مع المعرفة المسبقة بالنتائج من طرف الإرهابيين!

إن الهدف الأساسي من خلال هذا السلوك هو العمل على عــدم تكرار هذه الأحداث الإرهابية وهذا الجنوح نحو العنف من لدن الأشخاص، إذ يجب التأكيد على عامل الصدفة الذي يلعب دورا كبيرا في وجود الضحايا في مكان ارتكاب الجرائم الإرهابية، فقد نتواجـد نحن أيضا في الوقت والمكان الذي وجد فيه أي من الضحايا. الإرهابي في الغالب لا يختار “زبنائه” ضحاياه، فهدفه إرهاب الكل من خلال ضرب الجزء.

إن المنطق يفرض تبني سياسة اجتماعية اندماجية متكاملة تجيب على انتظارات كل الأوروبيين من أصل مغاربي أو من أصول أخرى؛ ومادام أن مرتكبي أحداث باريس وبروكسيل هم عرب مسلمون فهذا يجعلنا ننصح بقــوة بالاهتمام بالجانب الروحي أيضـا في واقع تختلط فيه اتجاهات فقهية وإيديولوجية يصعب على المغتربين، خاصة الشباب، فك رموزها، إما لعائق اللغة أو بسبب التواجد المحتشم للمرشدين الدينيين ذوي التكوين الديني الرفيع، أو غيرها من العوامل التي تجعل من الشباب الأوروبي المسلم لقمة سهلة للمتطرفين ولتجار الدين، ويتم استعمالهم كأذرع تخريبية تهدد قـيم التعايش المشترك.

من جهة أخرى، فإن الدول الأوروبية يجب أن تبرهن على احترام التعددية الثقافية لجميع مكونات مجتمعاتها من خلال ابتكار سياسات اندماجية قادرة على استيعابهم ودمجهم داخل منظومتها، والعمل على الاستفادة من هذا التعدد في الثقافات والحضارات الذي توفره بلدان الهجرة الأصلية وجعله قيمة مضافة وثروة غير مادية؛ فالعيش المشترك ممكن في مجتمع متعدد الثقافات ويؤطره سقف واحد هو الدولة بمؤسساتها، لأنه بكل بساطة ضرورة إنسانية أولا وأخيرا.

لكن دعنا نسلط الضوء على قضية بالغة الأهمية والحساسية وتقتضي من القانونيين وعلماء الاجتماع وغيرهم أن يدلوا برأيهم فيها. فبعد الأحداث الإرهابية التي استهدفت العاصمة باريس في نونبر الماضي وأمام حالة الحزن والغضب التي عاشتها فرنسا، طرح الرئيس فرانسوا هولاند ورئيس الحكومة مانويل فالس مشروع قانون يحمل عنوان “حماية الأمة”، ويقضي بإدخال تعديل دستوري يتضمن حالة الطوارئ وإمكانية إسقاط الجنسية عن الأشخاص مزدوجي الجنسية المدانين بالإرهاب. وفي أواخر مارس الماضي قرر هولاند التخلي عن هذا التعديل الدستوري الذي أثار جدلا واسعا ولم يكن حوله أي إجماع وطني.

بمجرد طرح التعديل الدستوري في البرلمان شهر فبراير الماضي، تبين أن هذه الخطوة سيعقبها انقسام داخل الأوساط السياسية الفرنسية، حيث إنه لم يتم تمرير القانون في الغرفة الأولى إلا بفارق 14 صوتا لصالح المشروع في وقت لم يصوت مجموعة من نواب الحزب الاشتراكي الحاكم نفسه على هذا القانون المثير للجدل. والتجسيد الأكثر دلالة على خطورة الانقسام حول هذا الإصلاح الدستوري كان استقالة وزيرة العدل إحدى قياديات الحزب الاشتراكي الفرنسي، كريستين توبيرا، من منصبها احتجاجا على تجريد الفرنسيين المتابعين في جرائم الإرهاب من الجنسية الفرنسية وما ينطوي عليه ذلك من مقتضيات وثغرات قد تمس حق المواطنة بالنسبة للعديد من الأشخاص.

إن هذا التراجع عن مشروع التعديل الدستوري دليل على أنه لم يكن مشروعا مبنيا على قناعة سياسية، أو نقطة من البرنامج الحكومي بقدر ما كان رد فعل على حالة الغضب والضغط السياسي الذي خلفته الهجمات الإرهابية على أكثر من نقطة في باريس. كما لم يكن مفهوما إصرار الرئيس هولاند ورئيس وزرائه فالس على تقديم المشروع للبرلمان على الرغم من المعارضة الشرسة التي لاقاها والشرخ الذي تجلى منذ الوهلة الأولى داخل الحزب الاشتراكي نفسه واليسار بصفة عامة، ناهيك عن معارضة جزء من المعارضة اليمينية ممثلة أساسا في حزب “الجمهوريين” الذي اعتبر أحد صقوره، الوزير الأول الأسبق وأحد المرشحين لخوض السباق نحو الرئاسة ألان جوبي، أن “الإصلاح لا طائل منه ويثير انقساما”.

لقد دفعت أحداث باريس الإرهابية الحكومة إلى التسرع في اتخاذ إجراءات لم تكن بالضرورة حاجيات اجتماعية ملحة، وترجمت عجز النخب السياسية اليسارية بإبداع أجوبة حقيقية وشاملة لمواجهة الأزمات المجتمعية.

إن التسرع لا يساعد أبدا على البناء وحل المشاكل، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمشاكل ذات طبيعة مركبة وتتداخل فيها متغيرات مختلفة؛ مثل مشاكل الإرهاب والتطرف. فعوض الغوص في عمق المشكل لمعرفته من جميع جوانبه وفهمه أولا، وفهم الأسباب المؤدية إليه، وتقدير حجمه قبل الحسم في اتخاذ القرار المناسب والسياسة الناجعة من أجل إيجاد علاج جذري له، جاء مشروع القانون القاضي بتجريد الأفراد المتورطين في الإرهاب من الجنسية الفرنسية حلا ترقيعيا لتصريف الأزمة ولإطفاء غضب الفرنسيين ومأساة أسر الضحايا، وليس لحل إشكالات العنف والتطرف والإرهاب.

وما استقالة كريستين توبيرا احتجاجا على التجريد من الجنسية وتمسكا بمبادئها التي ناضلت من أجلها سنوات في الحزب الاشتراكي، وما همست به في أذن شباب فرنسا من خلال إصدار مؤلف بعنوان “همسات للشباب” مباشرة بعد الاستقالة من وزارة العدل، إلا دليل على أزمة الايدولوجيا التي طرحها هذا القرار الذي تتجاوز رمزيته تجريد الإرهابيين من المواطنة وجعلهم أشخاصا من دون جنسية (apatride)، إلى تهديد آخرين “أولئك الذين يشتركون مع المجرمين المستهدفين في توفرهم على جنسية مزدوجة، ولا شيء آخر”، كما يضرب هذا القرار عرض الحائط التوجه اليساري للحزب الحاكم وقيم العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق التي يرتكز عليها الفكر الاشتراكي.

إن هذه التضحية بالمبادئ من أجل الكسب الانتخابي والخضوع لضغط اليمين المتطرف تبرز جليا الأزمة العميقة التي تمر منها النخبة السياسية اليسارية في فرنسا، خصوصا المؤمنة بقيم الجمهورية في بعدها الكوني، ويبرز افتقادها للأفكار والتصورات التي تجعلها قادرة على مواجهة الأزمات واكتفاؤها فقط بردود الفعل التي تكون أحيانا غير محسوبة العواقب، وهو ما قد يكلف الحزب الاشتراكي كثيرا في الانتخابات القادمة، ويفتح المجال أمام توسع اليمين المتطرف الذي يمشي بثبات لصدارة المشهد السياسي مستغلا أخطاء منافسيه خصوصا من اليسار.

وبالعودة إلى سحب الرئيس الفرنسي لمشروع الإصلاح الدستوري، وهو تراجع ليس بالأمر الهين من الناحية السياسية بالنسبة لمؤسسة رئاسة الجمهورية، نستنتج أن هذا السحب جاء نتيجة لضغوط تعبّر عن وجود تيار قوي داخل المجتمع الفرنسي متمسك بمبادئ الجمهورية، وبالقيم الكونية التي كانت فرنسا مهدا لها منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومدافع عنها وليس له استعداد للتنازل عن جزء منها.

إن هذا التيار ممثل في جميع أطياف النسيج الاجتماعي الفرنسي ويجمع سياسيين ومفكرين وفنانين وكتاب وبرلمانيين… وعلى الجاليات في فرنسا العمل على تعزيز التلاحم مع هذا التيار من أجل بناء جبهة واسعة من المدافعين عن هذه المبادئ الإنسانية لبناء مجتمع تسود فيه “الحرية والأخوة والمساواة”، في بلد المبادئ الثلاثة.