الدكتور عبد الله بوصوف.

 

أدخلت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر ملف الصحراء المغربية منعطفا حادا، أبان عن تحيز واضح نحو أحد الأطراف لرئيس منظمة يفترض على أنها تقف على المسافة نفسها بين الأطراف جميعها. وضرب المسؤول الأممي بذلك عرض الحائط جميع المبادئ والقيم التي أنشئت من أجلها منظمة الأمم المتحدة، كهيأة دولية تهدف إلى حفظ السلم العالمي من خلال العمل على حل الإشكاليات الدولية بطرق سلمية تضمن مصالح كل المتنازعين.

 

تحيز الأمين العام للأمم المتحدة لجبهة البوليساريو واستخدامه لكلمة “احتلال” في حديثه عن الصحراء، وإن كان سيخرج بان كي مون من الباب الضيق للهيأة الأممية بعد أقل من سنة من انتهاء مدة ولايته، يتيح لنا الفرصة لإعادة الزخم لقضيتنا الأولى والتأمل فيما حققه المغرب من منجزات في تدبير هذا الملف وكذا تقييم أهم المحطات والاستراتيجيات وتغيير عدد من المنهجيات التي لم تعط أكلها في حسم هذا النزاع المفتعل.

 

أهم مكامن الخلل.

 

في عالم معولم تسيطر عليه المعلومات والصور، لا نستطيع رسم إستراتيجية تواصلية دون إدراك كيف ينظر العالم إلى المغرب، أي صورة المغرب في العالم، وأصداء ما يقوم به المغرب من مشاريع كبرى؛ سواء تنموية أو مرتبطة بحقوق الإنسان. إن إستراتيجيتنا التواصلية وتقديم صورتنا إلى العالم تنقصها الفعالية، فنجد أنفسنا أمام إنجازات هامة وذات تأثير عالمي كبير إلا أن التواصل المرتبط بها يبقى ضعيفا مقارنة مع حجم هذه المنجزات.

 

كما أن تقوية الإستراتيجية التواصلية لا يمكنها أن تتحقق من دون تقييم لبعض المحطات الكبرى ونتائجها، مثل المنتدى العالمي لحقوق الإنسان والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أو مشروع الجهوية. فهل أجرينا عملية تقييم لحضورنا في أشغال مجلس حقوق الإنسان في جنيف أو في اللجنة الرابعة في الأمم المتحدة أو لحضورنا السياسي في الاتحاد الأوروبي؟ وهل قمنا بتقييم موضوعي للجان المشتركة مع البرلمانات الدولية ولجان الصداقة ومدى فعالياتها من أجل الوقوف على نتائجها واستشراف ما يمكن تبنيه من برامج وسياسات لتحديد مكامن الخلل في إستراتيجياتنا التواصلية وكيفية تسويق منجزاتنا ذات البعد الدولي؟

 

في الإطار نفسه، فإن نجاح إيصال الصورة التي نريد إلى العالم يفرض علينا الانفتاح، إضافة إلى السياسيين، على المثقفين عبر العالم والمستثمرين وأهل الاقتصاد ونجوم الرياضة والفنون، باعتبارهم فاعلين أساسيين في تكوين الرأي العام الدولي. فما هو حجم حضورنا في الأوساط الأكاديمية التي تصنع الرأي العام؟ وما مدى تواجدنا داخل مراكز التأثير وصنع القرارات الدولية وكذا داخل مجموعات التفكير التي تشكل الرأي العام الدولي وتسطر توجهات اشتغال المؤسسات العالمية؟

 

إن مكامن الخلل في إستراتيجيتنا التواصلية تساهم في رسم صورة سلبية عن المغرب في العالم بالرغم من كل المجهودات المبذولة، ونقاط ضعفنا في التواصل تستغل بشكل كلي من قبل الخصوم الذين يعتمدون في أدواتهم التواصلية، إضافة إلى توزيع المال، على استغلال الأخطاء التي نرتكبها وهامش المناورة الذي تتيحه استراتيجياتنا التواصلية، وهناك أدلة عديدة حول هذا الأمر؛ لعل أبرزها قضية مخيم “اكديم إزيك”، وكيف تم الركوب على مطالب اجتماعية لسكان المنطقة وتحويل الملف إلى قضية سياسية.

 

إن تبني سياسة تواصلية دفاعية لم يعد بالأمر المجدي ولم يعطي نتائج جيدة لوجهة النظر المغربية ولوحدتنا الترابية، كما لم يتم تطوير عناصر خطاب موحد لدى جميع الفاعلين في الترافع والدفاع وإبراز الطرح المغربي على عكس إستراتيجية الخصوم المبنية على المبادرة إلى الهجوم وتفكيك خطابنا واستغلال أتفه الأسباب لتوجيه سهام النقد وتحريك الآلة الدعائية باستعمال كافة الوسائل.

 

من بين العوامل التي تضعف من موقعنا التواصلي في العالم غياب مراجع تاريخية وعلمية حول قضيتنا الوطنية تعبّر عن وجهة نظرنا، ذات المشروعية والمصداقية بشهادة مجلس الأمن، داخل البرلمانات الدولية، خاصة البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي واللجنة الأوروبية.

 

كما أن غياب إنجاز أطروحات داخل الجامعات العالمية، خاصة الأوروبية، تعبّر عن وجهة نظرنا يحد من انتشار المعرفة حول قضيتنا الوطنية في الأوساط الثقافية والعلمية التي تضطلع بدور محوري في قرارات الدول التي تنتمي إليها، على عكس الخصوم الذين استطاعوا أن يجعلوا من أطروحاتهم، بالرغم من دفاعها عن المغالطات التاريخية والسياسية، المراجع الوحيدة حول القضية داخل الجامعات الأوروبية، خاصة في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والدول الاسكندينافية.

 

هذا بالإضافة إلى عدم تطوير أدبيات تعبّر عن وجهة نظرنا بلغات عالمية؛ كالإنجليزية والإيطالية والإسبانية والهولندية، خاصة وأن هنالك جاليات مغربية كثيفة متواجدة في هذه الدول ولا تتقن اللغة العربية، والأدهى من ذلك هو أن حتى الخرائط المتواجدة في هذه الدول كلها مبتورة لا تربط المغرب بصحرائه، بحجة أن الأمر لم يحسم بعد على صعيد الأمم المتحدة، مما يجعل أبناء جالياتنا يتلقون بدورهم المعلومات المغلوطة نفسها في المدارس الأجنبية حول الصحراء.

 

مقترحات عملية.

 

لا بديل لنا من أجل تعزيز طرحنا العادل وتقديم وجاهة موقفنا من تقييم كل المبادرات الموجودة بغية تحسين أدائها والرفع من مستوى جاهزيتها؛ ولا يمكن أن يتأتى بناء استراتيجيات وطنية فعالة في الدفاع عن قضيتنا الوطنية من دون إشراك فعلي والتمكين العلمي لجالياتنا عبر العالم والرفع من مستوى جاهزية شباب الهجرة المغربية للترافع عن القضية الوطنية، من خلال تخصيص منح دراسية من أجل إنجاز الأطروحات من طرف طلبة الجالية المغربية في الجامعات الأجنبية حول قضايا ذات صلة بملف الصحراء.

 

كما تفرض علينا متطلبات المرحلة تكوين الشباب المغربي وتأهيله للمهن الأوروبية داخل مختلف المؤسسات المؤثرة في اتخاذ القرارات وبلورة توجهات السياسة الأوروبية، على رأسها البرلمان الأوروبي ومختلف المؤسسات فوق وطنية “supranationales” في الاتحاد الأوروبي، وإدخال أدبيات حول الصحراء بلغات أوروبية إلى المكتبات العامة.

 

ولا مفر للمغرب من تكوين رجال قانون ومحامين لهم قدرات الترافع عن القضية والانخراط بشكل كلي في الدفاع عن موقف بلادنا، كما تفعل الجزائر والبوليساريو عندما كلفت المحامي من أصل جزائري، شمس الدين حفيظ، بالدفاع عن الأطروحات الانفصالية أمام المحكمة الأوروبية، وكذا تشجيع التكوين الرفيع في العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية لحشد الحجج والتمكن من المنهجيات العلمية في الترافع الدولي، وتوجيه الشباب المنحدر من الجاليات المغربية نحو الاهتمام بالثقافة، وخاصة الفن بجميع تنوعاته (السينما والرسم والصورة)، وتشجيع النجوم المغاربة ذوي الصيت العالمي على تبني القضية وتقديمها في المحافل الدولية والتسويق لها في مواقع التواصل الاجتماعي.

 

إن السياق المركب الذي يطبع مسار قضيتنا الوطنية يفرض ضرورة تكوين البرلمانيين المغاربة الذين يشاركون في النقاش في البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي، في ملفات تخص ميكانيزمات اشتغال هذه المؤسسات وطرق إنتاج خطاب ذي قوة إقناعية، مع التمكن من اللغات الأوروبية التي تعتبر مفتاح ولوج الأوساط السياسية والاجتماعية والنقاشات الجانبية داخل أروقة المؤسسات.

 

بالإضافة إلى ذلك، فإن مراعاة الإرث الثقافي للمجتمعات الأجنبية في تعيينات السفراء والدبلوماسيين، يعتبر أمرا أساسيا يمكن الدبلوماسيين المغاربة من معرفة المسارات التاريخية وخصوصيات كل دولة على حدة؛ فالدول الاسكندينافية، مثلا، دول ملكية وغنية وبروتستانتية، لذلك نجدها تميل إلى مناصرة الضعيف، وهو ما يفرض أولوية أخذ هذه الأبعاد بعين الاعتبار في التعامل معها، وكسر خطاب المظلومية الذي روج له الخصوم باستغلال هذا الجانب، مما جعل الدول الاسكندينافية تعتقد أن البوليساريو تنظيم مضطهد من المغرب ويدافع عن حق مشروع… وهو أمر خاطئ، ولم يسبق أن أثبت التاريخ هذا الحق للبوليساريو.

 

في الوقت نفسه يجب التذكير بأن معاناة المحتجزين في تندوف هي نتيجة لمؤامرة جزائرية تستعمل الشعوب كأذرع بشرية في سياستها منذ حرب الرمال في الصحراء، والاضطهاد الحقيقي هو الطرد الجماعي للمغاربة من الجزائر من دون أي سبب فقط تمييزا وعنصرية اتجاههم بسبب مغربيتهم، وكذلك الطرد الثاني سنة 1975 واحتجاز المواطنين المنحدرين من المناطق الصحراوية في مخيمات تندوف التي تغيب فيها أبسط شروط الحياة فما بالك بالعيش الكريم. وهو ما شدد عليه الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء في العيون، الذي كان واضحا ورسم عناصر خطاب يحمل الجزائر المسؤولية في الحالة المزرية في المخيمات.

 

نموذج الملك المصلِح.

 

إن أحد العناصر الأساسية في تحسين صورة المغرب هو تقديم صورة الملك المصلح داخل الحقل الديني، باعتباره نموذجا فريدا ومتفردا في القرن 21، وتسليط الضوء على ما قام به من إصلاحات مهمة؛ بدء من مدونة الأسرة والمساواة بين المرأة والرجل ورفع جميع التحفظات في ما يتعلق بحقوق المرأة؛ ولا يمكن المرور بشكل عرضي على دوره في إرساء دعائم منع تدخل الديني والسياسي بالظهير الذي يمنع الأئمة من الدعاية السياسية، وكذا إرساء قواعد لدولة مدنية بمقتضى فتوى “المصالح المرسلة” التي أصدرها المجلس العلمي، وكذا ضمان حقوق الأقليات الدينية في إطار إمارة المؤمنين.

 

لقد جعل الملك محمد السادس من المغرب بلدا يقف درعا واقيا في صد انتشار التطرف والإرهاب، ونموذجا يحتذى به لمجموعة من بلدان العالم، خاصة الأوروبية.

 

إضافة إلى ذلك، وعلى المستوى الاقتصادي، استفادت مناطقنا الجنوبية في عهد جلالة الملك، أكثر من أي وقت مضى، من برامج تنموية جعلتها تحقق إقلاعا اقتصاديا، ومكنتها من التوفر على البنيات التحتية والمنشئات الاقتصادية، وساهمت في اندماج شباب هذه المدن في الحياة الاقتصادية وفي برامج التنمية المحلية الرامية إلى الرقي بكرامة الإنسان الصحراوي.

 

لقد أجاب الملك محمد السادس عن إشكاليات القرن التي تشغل بال العالم بأسره، وقدم حلولا للإشكاليات التي تسمم العلاقات الإنسانية وتعدد العيش المشترك، سواء داخل مكونات المجتمع الإسلامي أو مع العالم أجمع، ملك جعل من المغرب عنصر أمن واستقرار على الصعيد الجهوي والعالمي، واستطاع معه المغرب أن يفرض وجوده ويعزز قيمه في جميع جبهات بناء السلم العالمي، سواء عبر المشاركات في الحوارات العالمية حول السلام أو من خلال مسامة الجيش المغربي في بعثات حفظ السلم الدولي وفي القبعات الزرق في مختلف مناطق التوتر من أوروبا إلى إفريقيا والعالم العربي.

 

لذلك فمن الواجب على العالم وعلى مؤسسة الأمم المتحدة الوقوف إلى جانب ملك مصلح يشتغل على بناء أسس لمجتمع إنساني يرتكز على دعائم التعايش والتعاون والاحترام، وعدم الانحياز نحو فئة أثبتت مؤسسات أممية أنها تنهب المساعدات الإنسانية الموجهة إلى الأشخاص المحتاجين، وتمنع الإنسان من حقه في التنقل وفي التعبير وتهدد استقرار المنطقة المفتوحة على مناطق التوتر في وقت يتجه فيه المجتمع الدولي نحو السلم سبيلا لتحقيق التنمية وتحسين الأوضاع الإنسانية.

 

ختاما، تجدر الإشارة إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، يتحمل المسؤولية المعنوية على ما شاهده من تردي الأوضاع في المخيمات، واستغلال الأبرياء والمتاجرة في المعونات الدولية التي لن يؤدي جمعها إلا إلى مزيد من المعاناة الإنسانية وتكريسها.

 

ويبقى الحل الإنساني الذي يحفظ كرامة إخواننا في تندوف هو العودة إلى وطنهم المغرب، فوجودهم في المخيمات لا يخدم إلا أجندات قيادة البوليساريو، وكذا جهات جزائرية تستعملهم كورقة ضغط داخلية وتستغل قضيتهم في المناورة والضحك على ذقون الشعب الجزائري الذي لا يستفيد ولو من جزء بسيط من مداخيل بلاده من مواردها الطبيعية.