لا أحد ينكر الطفرة التي حققها المغرب في عهد العاهل المغربي محمد السادس على مستوى البنيات التحتية سواء في أقصى الشمال , أو  في أقصى الجنوب , ولا أحد ينكر التحسن المعيشي الذي عرفته شريحة كبيرة من المغاربة الى درجة أن قوارب الموت التي كانت تقل الشباب المغربي الراغب في مغادرة المغرب نحو أرويا  أندثرت تقريبا بشكل نهائي, ولا يجادل عاقل في ربط المغرب علاقات جديدة مع دول الساحل في افريقيا وهو ما يعرف بجنوب – جنوب في لغة الاقتصاد والسياسة , وكذا علاقات مع دول في اروبا , وهو ما يعرف بجنوب – شمال .

هذا الحاصل كتبنا عنه وكتب عنه بعض الاجانب , وهو ما يدفع المستثمرين الى التفكير الجدي باستغلال الفرصة المواتية , والتي تتمحور حول الاستقرار الاجتماعي الذي ما فتئت دول المنطقة تأمله وتصبو اليه باستمرار , لآنه يجلب الشركات وينمي السياحة ويطمئن السياسيون على النهج المتبع في مجالات مختلفة .

لكن , هذا الاستقرار  , يجب أن يستغل بطريقة جدية , لآنه مناسبة  لتقليص المسافات ورفع الايقاع السياسي و تفعيل التفاعل الاجتماعي وصقل الموارد البشرية  , وهذه الصفات مجتمعة هي التي ترفع من درجة الوعي وبالتالي التقدم في سلم الركب الحضاري .

معنى استغلال الاستقرار يتلخص في تفعيل المسطرة بشكل جدي , سواء في مسالة حقوق الانسان والحريات , أو في الحياة العامة بشكل عام .

صادقت الحكومة مؤخرا على قانون يسمح بتحالف الاحزاب في الانتخابات المقبلة , وذالك من خلال الاتفاق المسبق بين أحزاب متحالفة في تشكيل لائحة مشتركة  وعرضها على  المواطنين  حتى تصوت عليها , ونفس المصادقة الحكومية شملت الاشخاص الفرديين , وهو انتهاك لحقوق الانسان في المجال السياسي , علاوة على خرق سافر لبنود الدستور الذي ما فتئ يردد كلمة – سياسة القرب – في بنوده المتعددة .

فكيف يعقل لمواطن لا يجد مرشحه المفضل في اللائحة , أن يصوت على مرشح من حزب آخر بذريعة التحالف السياسي المؤقت للفوز بالانتخابات .

مع قدوم الثقافة الرقمية , تراجعت القرائة , فتولد عن ذالك أطر سياسية شبه فارغة , لا تحمل تصورات كبيرة , ولا تترجم متطلبات الشارع الى جمل مفيدة , او مقترحات بناءة .

والغريب في الامر أن الفئة المثقفة  التي من المتعارف عليه في جميع البلدان أنها  تساهم في تخليق الحياة العامة , لا تشارك بآرائها , ولا تحرك ساكنا , وكأنها أصيبت بشلل جماعي .

هناك أمور لا يمكن السكوت عليها , ولو بلغ اليأس و الاحباط  درجة الحضيض الاسفل ,منها مثلا معالجة التعليم التي تبقى مسؤولية الجميع , ولذا وجب التحرك والادلاء بالرأي ولو من باب المتابعة .

أساتذة التعليم يتلقون الضربات تلو الضربات , والتحرشات تلو التحرشات, والتهديدات بالسلاح والهراوات من طرف تلاميذ تهم, ومطاعم تقدم لزبنائها لحم الحمير , وأطفال صغار يتم اغتاصبهم في واضحة النهار , وحوادث سير بالجملة في الشمال والجنوب .

يتسائل معضم الناس عن الحلول الناجعة لهذه المشاكل مجتمعة , وكيفية تقليص فواجعها .

الحل يكمن في كلمة واحدة وهي الصرامة في تطبيق القانون وعدم التسامح والتغاضي عن أي صغيرة وكبيرة , وأيضا متوسطة .

في جميع كبيريات المدن المغربية , يلجأ أبناء المدارس والثانويات الى تكسير نوافد الحافلات وتعطيل معداتها , ناهيك عن امتطاء وسائل النقل بدون تذكرة , هذه المخالفات حينما لا يتم متابعة مقترفيها قضائيا , تنمو لديهم فكرة الفوضى والاجرام وتخريب ممتلكات الدولة , وتنتقل فكرة التحطيم والتخريب من الاليات الى الاساتذة  .

لو كانت سياسة الردع بدون تمييز بينهم لما استقاموا , لان تطبيق القانون بالصرامة هو صمام الامن والاستقرار في عقلية المواطنين كيفما كانوا  .

قرب المغرب من القارة الاروبية يفضي الى انتقال الاجرام بسرعة .

كيف ذالك ؟

مكن المغرب موقعه في أقصى شمال إفريقيا واقترابه للقارة الافريقية 15 كلم كمسافة أدنى وملامسة أراضيه للبحرين ، المحيط الأطلسي والبحر الابيض المتوسط ، مكانة عالية في برامج الاتحاد الاروبي

كثير من المحللين لا يبالون بما يسمى  – مقاربة البعد الجغرافي وما يحويه من واقع جيوسياسي – والذي من خلاله يتم ربط علاقات تاريخية واقتصادية وتاريخية واجتماعية وحضارية وثقافية .

وفي مقدمة هذه العلاقات والتواصل بحكم القرب الجغرافي, وبحكم تواجد الجالية المغربية التي تتنقل طوال السنة وتمر عبر مضيق جبل طارق , تأتي عملية نقل الافكار , وهذه الافكار فيها ماهو ايجابي وماهو سلبي , ومن ضمن السلبيات هو الاجرام المنظم بما فيه تبيض الاموال والمتاجرة في المخدرات و بيع الاسلحة بدون ترخيص وتهريب البشر من دولة الى أخرى .

من الطبيعي والعادي في هذا الاطار ان تنتقل الافكار والعادات والتقاليد والثقافة وطريقة العيش ونمط التفكير الى المغرب بسرعة هائلة , علاوة على  قلة نجاعة المراقبة الاخلاقية من طرف الشرطة الوطنية , أو ربما انعدامها كليا .

في هذه الظروف المتشابكة , يرجع طلبة مغاربة من الخارج مدججين بمختلف العلوم , وحينما تسند اليهم المناصب القيادية في التخطيط ووضع الأسس الاولية للرقي والتقدم بدولة المغرب , يميلون الى تطبيق اللغة الاجنبية في معاملاتهم وتعاملهم مع ملفات وطنية كبرى ,وبدون قصد يخربون المقومات الاساسية للهوية والانتماء والوطنية , وهو ما يصطلح عليه أيضا القيم الحضارية , والتعليم بالمغرب يعتبر كنموذج لهذا العمل .

, ولا أرى مانعا أن أذكر بعض القطاعات التي تتألم من الغزو الفكري  والتي تهم قطاع التعليم والسياحة والاقتصاد ووسائل الاعلام وكذا قطاع المواصلات والتواصل و الابداع والثقافة .

فاٍذا كانت ميادين متعددة قد ثأثرت بالغزو الفكري , فما بالك بشرائح المجتمع التي تقلد أنماط حياة دخيلة عن مجتمعه وتقاليده وثقافته وهويته و رمزيته وجذوره , و تتبنى عادات وطبائع مستوردة ,وايديولوجيات تم نقلها بالحرف,وأفكارا  لا تتلائم وخصائص المجتمع الاصلي .

الاخلاق والطبائع تبقى هي الميدان الاكثر تأثيرا من غيره , وزاد من ذالك عدم وجود شرطة الاخلاق , فتيات الثانويات والجامعات اللواتي ترتدين لباس شفاف أو ضيق , أو قصير أو …. لا أحد يجرأ على أيقافهن , لانه لا توجد أصلا  نصوص تنص على تحريم ذالك .  بعض المعاهد والمؤسسات التعليمية  تلجأ الى محاربة الظاهرة بسن قانون اللباس الموحد للفتيات اليافعات  , لكن بمجرد الخروج من باب الثانوية ينزعن المفروض ويظهرن المحظور  , وتنتهي غاية المسطرة الاخلاقية .

…الشباب المغربي عامة لم يسلم من هذه الافة سواء في اللباس أو المعتقدات أو الفكر , وذالك راجع الى قرب أروبا من المغرب حيث الافكار تنتقل بسرعة البرق . من جملة الافكار الرئيسية التي ترسخت في ذهنية الشباب المغربي واحتلت في ذهنه مكانة هامة تأتي فكرة الجري وراء المادة لتغطية مصاريف متطلبات الحياة التي فرضتها  ثقافة العصر : لباس من النوع الممتاز يجلب الانظار , سيارة فارهة تلفت الابصار , هاتف من آخر صيحات الموضة يليق للفخر والانبهار , و سيولة في العملة للتفوق على الازمات المالية ونكبات الدهر الغدار.

اٍذا أردنا أن نقسم الميادين التي شملها الضرر الناجم عن كل ما له علاقة بالغزو الفكري , تأتي الايديولوجية في المرتبة الاولى , ثم العقيدة في المرتبة الثانية , وأخيرا العادات والتقاليد وأنماط الحياة المستوردة .

طبعا كانت وستكون لكلمة الديموقراطية الوازع الاهم الذي يشكل الرافعة الاولى لكل منحى بدون عناء أو مشقة في توضيب وتطبيع وتقليم كل موضوع حسب ما تمليه قواعد اللعبة بدون مراعاة لما هو أخلاقي أو ديني أو سوسيو اجتماعي . في المغرب الحبيب ظهر الفكر العلماني من جراء الاحتكاك بالثقافة الاروبية وتقاليدها وعاداتها ونمط عيشها ,  التي تطبق مبادئ الديموقراطية المادية بدون اكتراث للثوابث والمقومات والقيم .

بذريعة حق الراي و حرية التعبير وحق الاختلاف والمساوات بين الرجل والمرأة, والفصل بين الدين والعلم , صعدت أسهم الفكر العلماني في أوساط المجتمع المغربي , فظهرت جمعيات تنادي بالافطار العلني , و اٍباحية الجنس خارج العلاقة الزوجية , و منادات  الاعتراف بالمثلية والسحاق ,وحرية التدين والمعتقدات .

كما جاء في بداية المقال هناك استقرار اجتماعي ظاهري بالمغرب , لكنه يجر وراءه مشاكل حساسة من نوع فريد تتشابك فيها معطيات وحمولات وترسبات ومؤثرات , البعض منها داخلي , والاخر خارجي .

اٍذا كان المغرب قد قاوم بسلاسة رياح الربيع العربي بسلام , فهل يا ترى يجرؤ على التصدي لحمولات الغزو الفكري التي بدأت تظهر نتائجه في أوساط المجتمع .

محمد بونوار

كاتب مغربي مقيم بالمانيا