اٍذا كنت تجيد الكتابة وتحرر مقالات من انتاجك ويتم نشرها في جرائد أو مواقع تظهر للعامة فهناك خيارين أساسين . طبعا هناك خيارات وسطية لكن سوف لن نقف عليها لانها لا تغني ولا تسمن من جوع .
الخيارالاول وهو الاشد وطئا من غيره , فاٍذا كنت غزير الافكار وتكتب وتحلل المظاهر وتقف عند مواطن الخلل وتعطي البدائل والحلول , فاعلم أن العدوان عليك سوف يرتفع الى درجات كبيرة , وسوف يصبح اسمك معروف لكن مسجلا في اللائحة التي يتحاشاها المسوؤلون نظرا لكثرة النقد والملاحضات .ولو انها ملاحضات بناءة ومنطقية ولها من المحاسن اكثر من المساوئ , واعلم أن اسمك سوف يكون في لائحة المشاكسين الى الابد . وبالتالي سوف لن تتلقى لا دعوة ولا اعتراف ولا جزاء ولا تعويضات ولا …
الخيار الثاني : يصبح اسمك متداولا بقدر ما تكتب بقلم ناعم طبعا , لكن شرط ان يكون عكس ما يشتهيه الناس ,و عكس التقاليد والاعراف وعكس ما يمليه الدين والقيم , وأن تقف في وجه كل من يطلب الحق , وتضرب عرض الحائط بما يطالبه العامة من الناس ,وبكل ما هو واقع ومعاش .
تتملق بالمواقف والاراء, وتقلص درجة النقد والملاحضات الى الصفر , وتمجد المفسدين وتقترب من تصوراتهم وتحاول أن تبقى في مداراتهم بعيدا عن الاسئلة المحرجة .
في كثير من الاحيان أتسائل باستمرار عن ما هو أحسن واجمل ومفيذ للوطن, هل الكتابة عن الخصاص والظواهر التي يعاني منها البلد حتى ينكب المشرفون على دراستها والتصدي اليها .
أو أن تمجد وتعظم البلاد بدون سبب , ولا تعطي ولو اشارة واحدة بأن هناك مشاكل .
مهما كانت الكتابة فان الواقع يفضح المجال , وفوق كل اعتبار أظن أنه قد يكون في المتناول أن تكتب دائما بقلم وردي , لكنه ليس بالامر الهين أن تنتج أفكارا .لآن بين الوصف والابداع مسافات كبيرة .

في الدول النامية يتم الاعتناء بهذه الشريحة من البشر التي وهبها الله عين نافذة وبصيرة ثاقبة , وتستعين بها في تهيء البرامج ومعالجة الظواهر, وتستدل بارائها وأفكارها في مساءل عديدة , لكن ما يقع في الدول العربية هو العكس , التهميش والابعاد وانعدام الفرص كيفما كانت . والسبب بسيط لانه في الدول العربية لا احد يرحب بالنقد والمسائلة الادبية والقانونية , اٍنما كل ما هو مرغوب فيه هو التملق بالمسوؤلين حتى يكسب الانسان عطفهم ورضاهم وتأيدهم ويظهر ذالك جليا عندما تكون مناسبة كبيرة لاختيار نخبة من الكفاءات , حيث تتم المناداة على افراد لاعلاقة لهم بالمجال .
في المغرب مثلا هناك وزرات وادارات ومجالس وهيئات كبيرة يشرف عليها موظفون كبار , البعض منهم سامحهم الله في كثير من الحالات يقودون المراكب اٍما بسرعة دون الانتظارات , أو في اتجاه غير صحيح , ولتفادي العقاب والحساب يتركون العمل الذي يتقاضون عنه نظيرأتعابهم جانبا , ويتقمصون تأدية البيعة والولاء لملك البلاد , وذالك بغرض التهرب من المسائلة .
كانت هذه هي المعطيات جملة وتفصيلا في معظم الدول العربية , والان سوف نحاول جهد المستطاع الاقتراب من الدوافع والاسباب التي ادت الى هذا السلوك الغير السوي .

الترسبات التي ادت الى هذا المنحى كثيرة وفي مقدمتها ضعف العدالة الاجتماعية , وقد أثبثت دراسات بالارقام أن هناك نسب عالية من الموظفين يشغلون مناصب لا علاقة لهم بها , أو تم ادماجهم اٍرضاءا لتعليمات من جهات أخرى نافذة .
العامل الثاني في هذا الباب هو تركيبة الاحزاب السياسية في العالم العربي والتي تبرمت كثيرا عن المبادء والبرامج والقيم والجدية وأضحت بمثابة مشروع تجاري مدني يمكن تسيمته بمقاولة سياسية مفتوح أمام جميع المواطنين لكن بقوانين داخلية تتماشى مع مزاجات الامناء العامون .
العامل الثالث وهو عدم الاعتراف بأهمية الثقافة ومجرياتها وحركيتها في وسط المجتمعات العربية , وربما قد تكون هذه النقطة هي التي حطمت جميع المقاييس والاعتبارات والموازين , خاصة حينما نجد أن هناك من لا يجيدون القراءة بمفهوما الكبير يتبوؤون مقاعد البرلمانات العربية ومناصب اخرى بدون حرج ولا غضاضة .
العامل الرابع هو انعدام المحققون في تصنيف ثروات البلدان العربية بما فيها الادمغة والعقول والكفائات , ولو نظرنا مثلا الى الدول الاروبية كيف تتعامل مع الكفاءات وحاملي الافكار والمشاريع لكان ذالك أنفع وأجدى , لكن مع كامل الاسف ليست هناك متابعة للكفاءات البشرية المنتجة للافكار والتصورات بقدر ماهي عليه وثيرة متابعة الاشخاص في مادة الامن القومي ومحاربة الارهاب .
العامل الخامس هو عنصر الرغبة والجدية في تحقيق الاهداف , وهذا العامل يبقى هو الوازع الاول لانه كلما غابت الرغبة في الوصول الى أهداف معينة غاب كل شيئ , ومع الغياب طبعا تكون هناك فوضى وعشوائية لا تعود على البلد بالنفع العميم بقدر ما تعود عليه بالعمل العقيم .
خاتمة : هذه العوامل مجتمعة تؤدي الى تراجع المواطنة لدى المسؤولين , وطبعا هناك عوامل جانبية ساعدت ولازالت تساعد على تفشي الظاهرة .
الكل يبحث عن الغنى وعندما يصل الانسان الى ذالك يبحث عن الغناء الفاحش فيصير مدمنا , ويحاول أن يستعمل جميع الوسائل التي تفضي وتبقي عليه بوجه حق أو دون ذالك .
اختلاسات في الميزانيات وتلاعب بالارقام واستحواذ على مزايا نفعية بحكم استغلال السلطة , كالاراضي التابعة للدولة ورخص الصيد في اعالي البحار ومقالع الرمال والاحجار ,والانفراد بتسويق مادة او مواد حيوية , والاعفاء الضريبي على العقارات ورخص النقل العمومي وتملص من المسؤولية الوطنية ,و التدخل لحرمان البعض من الحقوق الوطنية , ومحاباة المسؤولين الكبار بالتملق المصطنع . وهكذا يمكن القول ان عقليات المسؤولين الكبار تطغى عليها الحسابات الشخصية اكثر من المواطنة .
لا احد ينكر المأساة الفكرية التي أضحت القوة المسيطرة على عقلية الناس في العالم العربي , ولا احد ينفي ان الحلول جد صعبة وتتطلب وقتا طويلا .

محمد بونوار كاتب مغربي مقيم بالمانيا