الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

الحديث عـن صناعة “الرأي العام” يتطلب منا أكثر من وقفة تأملية، وأكثر من محطـة تاريخية، سواء شملت وقائع مُفجعـة كالحـروب والصراع عـن الـسلطة، أو وقائع فكرية وفلسفية…

 

ونتوقـف في حـدود القرن 16 للحديث عن البدايات الحقيقية لصناعة الـرأي العام الفرنسي، ونتوقف داخل “الغرفة الزرقاء” بضواحي مدينة باريس الفرنسية للماركيزا مادام دي رامْبُـويي…

 

رواد صالون مادام دي رامبوي كانوا أغلبهـم من النخبة: نبلاء، سياسيون كبار، شعراء كفرانسوا مالهيرب، أدباء وفلاسفة ونقاد كجـون شابلان، وسيدات المجتمع كمادام دي لافايت ومادام سيفينيـي…

 

وقد شكل “الصالون” بحق جزيرة السلام والهدوء لكل مرتاديه على اختلاف مراتبهم الطبقية والوظيفية، وقـد شكلت كل من المعاملة الحسنة واحترام المرأة والنقاش وفن الخطابة قانونا خاصا بالغـرفة الزرقاء … وخارجه كانت تعُم فوضى من النزاعات والصراعات والعنف، أما بداخله فهناك فقط الـنقاش بأساليب حضارية عن طريق مُقارعة الشعـر والأدب والنقد والفلسفة والمسرح …

 

نـشأ إذن الرأي العام الفرنسي بين جدران “الغـرفة الزرقاء” وأصبح بمثابة المحكمة العليا للضمير، لم تكن لها وسائل تنفيذية، لكنها تؤثر في الضمائر وتُشجع الأعمال الناجحة وتستنكر الجشع …

 

وبين صناعة “رأي عام” ينتصب كضمير جماعي هـدفه تحقيق قيم إنسانية وشـروط عيش كـريم بعـيدة عن الألقاب والطبقية والايديولوجيات المختلفة … نجد أنفسنا اليوم وسط كم هائل من صُناع الـرأي وصُناع القـرار وأيضا مـن المؤثرين في صُناع الرأي …!

 

ولنا في ظـروف ومضامين وشعارات الحملة الانتخابية الفـرنسية الأخيرة (تمهيديات حزب وسط اليمين في نونبر 2016) نموذجا صارخا لصناعة رأي عام، مُجردا من قـيم الأمل والثقة والتضامن، أو بمعنى آخر “صناعة الخوف”، وباسم الأمن العمومي يُحـرم المواطنون من العديد من الحقوق الأساسية، ومن ضمنها الحق في قراءة صحيحة للواقع والحق في النقد كإحدى التعابير الإنسانية.

 

لقد ساهم العديد من صُناع الرأي أو صناع الخوف في جعل ملايين المواطنين سُجناء داخل مدنهم، وقد استأنسُوا الخوف باستعمال أدوات تخدير جماعي، كالإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، وغيرها، كمنصات للخوف ..!!. ومن جهة أخرى، فقد ساهم العديد من الكُتًاب الفرنسيين في تـسميم العلاقات الإنسانيـة داخل المجتمع الفرنسي، وفي إشعال فتيل العنصرية والكراهية ضد الاسلام وضد الآخـر المهاجر والآخر اللاجئ … حتى أصبح المواطن الفرنسي يعتقد حد اليقين أن كل مصائبه أساسها جاره المهاجر المسلم، وأن ارتفاع البطالة وتقلص حجم الطبقة الوسطى، وتقلص أسباب رفاهية المجتمع، سببها المهاجر المسلم، مما ولد لديه الشعور بعدم الثقة في المستقبل، بل بنهاية العالم …!!!

 

العشرات من الكُتًاب الفرنسيين تخصصوا في الصيد في مياه عكرة، ويُعلنون جهرا عداءهم للإسلام وللمهاجـرين في قـنوات الراديو والتلفزة وقنوات التواصل الاجتماعي التي أصبحت قـنوات للتـصادم الاجتماعـي والديني …

 

فإيريك زمور، مثلا، يُمكنك سماعه في الراديو صباحا، وتشاهده في ذروة المساء في برنامج حواري، وتقرأ له في كُبريات الصحف الفرنسية وتُحقـق كتبه نسب شراء عالية.

 

ويشرب ميشيل ويلبيك من كأس إيريك زمور نفسه، ويُصدر كتابات مستفزة، ككتابه الأخير “استسلام”؛ حيث يتوقع وصول “محمد بن عباس”، زعيم حزب “الأخوية الاسلامية”، إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات 2022 في شكل تهكمي كبير!

 

ينضم إليهم فلاسفة وكتاب كبار، يختلفون معهم في الأيديولوجيات الفكرية، لكنهم يتفقـون حول عدائهم للإسلام وللمهاجرين، وينتصرون للهوية الفرنسية، ويعتبرون أن فكرة المجتمع متعـدد الثقافات هي حصان طـروادة الجديد!

 

كُتـاب مـن ايـديولوجيات يسـاريـة أو يمينيـة يعتبــرون أن الاسـلام هـو الـشيء الـقبيـح في هـذا العالــم، وأنــه يُـثيــر الـخوف، وأنه على وشك غــزو هــادئ لأوروبــا العجــوزة بمعدلاتهــا الــديمغرافية، وأن الجاليــات الـمسلمة هــي الأكـثــر إنجـابــا!

 

لـذلك فـقـد عملـوا على إضافـة جـرعة زائـدة من الخـوف عبر كتابـاتهـم، كـميشيل أونـفـري (التفكيـر في الإسلام)، وكتـابـات بيـرنـارد لــويس وآلآن فنكيلكـراوت وجيـل كيبيـل ورونـارد كـامـو وغيـرهـم كثيــر… كـالكاتبـة الجزائريـة أكويــلا في كتابهــا “من أجل عـالـم بــدون إســلام”!!

 

صناعـة الخـوف مُـربحة على الـمستوى الإعلامـي وتُـحقـق نـسب متـابعـة ومشاهـدة كبيرة، نـظـرا لـفكـرهـا الـمتطرف ولطابعهــا الاستفـزازي، ومربحـة على الـمستـوى الـسياسي حيـث الـيمين الـمتطرف أو الـشعبـوي يـتخـذ مـن مـواضيع الإســلام والـهجرة والهــويـة حطـبـا يُـشعـل بــه عـواطف النــاخب الفـرنسي العاطـل عن العمـل والمُـتأزم اقـتصاديا واجتماعيــا!

 

وليـس صدفـة أن يُـنعـت آلآن جيببـي بالإسـلامي “علـي جيـببـي” أثـناء حملة تمهيديات نوفمبر 2016، نظــرا لـسياسـة الانفتـاح التـي يتبنـاها في بـرنامجـه الانتخابـي، أو في مـدينــة بــوردو بصفتــه عُـمـدة لهـا.

 

لـقـد تـم إيـقـاظ عنصر “الخوف” لـدى النـاخب الـفرنسي، والاستفادة مـن “الـتهيـيء الـنفـسي” الــذي قــام بـه أصدقـاء إيـريـك زمور وميشيـل ويـلبيـك… وحـرمان آلاف الـمواطنين من إعمـال النـقـد وتعـريضهـم لـتخـديـر جمـاعـي!

 

وبـهـذا يـنْضـم الى كـتيـبـة صناعة الخـوف كـل مـن الـسياسي والكـاتب وبعـض الاعـلام، عنـد اعتبـار خـرق لقـانـون عـادي مـن طـرف مـواطـن فـرنسي مسلـم جريمـة لا تُـغتـفــر، ويُعتبـر الـفعل نفـسه مـن طـرف مـواطن فـرنسي من ديـانـة أخـرى أو بـدون ديـانـة مسألــة فيهــا نظــر، وربما الفـاعل تحت ظــروف نفسيـة وعصبيـة استثنـائيــة!!!

 

وتجمـع الـكتيبـة نفـسها على الإدانــة والـتحليل الـمضلل والـقراءة الأُحاديـة لـدراسات ارتفـاع اســم “محمد” بـيـن مـوالـيـد المهاجـريـن فـوق أرض أوروبا، أو للـتعليـق على مخاطــر حقـيقيـة أو مـزيفـة لهــا عـلاقـة بــالإسلام والمسلميـن، كالإرهــاب مثــلا!!

 

وهــو الأمـر الـذي سنشهـده بدون شـك في تمهيـديـات الـحزب الاشتـراكي في ينـايـر 2017 (إن أُجْـريـت)، وأيضا في الـرئاسيـات الـفرنسية في أبـريل ومــاي 2017. ستـكـون بـدون شــك مُحاربـة الإسـلام وتـشـديــد الـخنـاق على الـمسلمين ومـراقبـة دور عبــادة الـمسلمين، وتـشديـد شــروط منــح الـجنسية الفــرنسيـة، وغيرهــا، العـملة الـرابحة في البرامـج الانتخابيـة في مقـابـل الـهويــة الـوطنية والعلمانية وصعوبــة انــدماج الجاليـة الـمسلمة.

 

وصناعـة الخوف ليـست فـرنسيـة خالصة، بـل هـي عالميـة، وحيـث يــوجـد الـيميـن الـمتطرف والشعبـوي تـوجد صناعـة الخـوف. فإطلاق اســم “لُـنْـدنستان” على مـدينــة لنـدن أثنــاء الحملة الانتخابيـة الإنجليزية ليس مجــانيا، بل فيه الـكثير من دس السم في الطعــام الانتخابي!

 

إن بعض الـدراسات تقـول بـارتفاع نسبــة شــراء الـكتب الاسـلاميـة بفـرنسـا، مثلا، بثـلاثــة أضعاف بعـد أحــداث شارلـي إبـدو، والأمر نفسه كان بعـد أحــداث 11 سبتمبر 2001، في رد فعـل مـضاد على صناع الخـوف، ورغبـة كبيـرة من الـمواطنين في محاربـة الـجهل بـالإسـلام ومحاولـة تكـويـن صورة تقـريبيـة عـن الـــواقـع.

 

صحيح أن ظروف نشــأة الــرأي العـام الـفرنسي “بالغـرفـة الــزرقاء” لمـادام دي رامبويي تختلـف كُـليـا عـن ظـروف نشــأة كـل مـن إيــريـك زمور وميشيل ويليبك وأصدقائهـم في كـتيبـة صناعة الخــوف!

 

لكـن يبقـى الأمـل في عقـلاء يُـدافعـون عـن قــواسم الـعيش الـمشترك، ويذكرونهم عندما تنفـع الذكرى بأن أوروبا العلمانية القوية قــد بنت مجدها على أكتاف أجــداد المهاجرين كمحاربين في خندق الحرية للبلدان الأوروبية أو كبنــاة لاقتصاداتها المنهوكـة بـالحروب…قبل مولــد العــديــد من صنــاع الخــوف…!!!