الدكتور عبدالله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج.

وقّع 228 نائبا في البرلمان الإسباني يمثلون جميع الفرق النيابية، باستثناء فريق الحزب الشعبي، على “إعلان دعم الشعب الصحراوي”، يطلب من حكومة تصريف الأعمال التي مازال يترأسها الحزب الشعبي في شخص ماريانو راخوي، “أن تلعب دورا فعالا في مجلس الأمن من أجل إيجاد حل لنزاع الصحراء” يدعم تقرير مصير ما أسماه الإعلان بالشعب الصحراوي.

أول ما يثير الانتباه والغرابة في هذه القضية، ليس هو فقط تدخل النواب الإسبان في شؤون دولة أخرى صاحبة سيادة، بل أيضا تلك القدرة الغريبة على التوافق التي جمعت جل الأحزاب الإسبانية، باستثناء الحزب الشعبي، على قلب رجل واحد في قضية بعيدة كل البعد عن اهتمامات وهموم المواطن الإسباني، في وقت عجزت فيه هذه الأحزاب، منذ خمسة أشهر تقريبا، على التوافق حول تكوين أغلبية تدير الشأن العام في إسبانيا، والتي لا تتطلب سوى 176 نائبا، وتعيين حكومة جديدة وإخراج البلاد من الفراغ السياسي الذي يجعل سيناريو إعادة الانتخابات أقرب إلى التحقق، في ظل تشبث كل حزب بموقفه، وعدم قدرة القيادات السياسية على الاتفاق على مرشح يشكل الحكومة، ويرفع الحرج عن البلد وعن الملك فيليبي بالدرجة الأولى.

إن توقيع إعلان سياسي حول قضية لا تعتبر من أساسيات الشعب الإسباني، المتخبط منذ 2008 في أزمة اقتصادية أجبرته على الخضوع إلى إجراءات تقشفية ودفعت بالكثير من أبنائه الذين وجدوا أنفسهم في حالة بطالة إلى الهجرة نحو دول أخرى، يبرز مدى عجز النخب السياسية الإسبانية على الوفاء بوعودها الانتخابية التي قطعتها للمواطنين بتنزيل مشروع مجتمعي يحقق، بالدرجة الأولى، الانتظارات الاقتصادية للشعب الطامح إلى طي صفحة الأزمة وتجاوز إملاءات المؤسسات المالية الأوروبية والدولية.

ولا غرو في كون برامج الأحزاب المشاركة في انتخابات 20 دجنبر الماضي قد ركزت، بالدرجة الأولى، على استراتيجيات الإقلاع الاقتصادي وبرامج الرفع من مناصب الشغل أكثر من أي شيء آخر، وهي الانتخابات التي أوصلت هؤلاء النواب إلى البرلمان، وجعلتهم يضربون عرض الحائط وعود التغيير التي أطلقت خلال الحملة الانتخابية مع الكثير من حماس الشباب والشعارات الرنانة، ويتوافقون على نقطة واحدة هي المس بسيادة المغرب.

فأي معنى لتوقيعات لم يستطع أصحابها الالتزام بالعقد الذي يجمعهم بالناخبين وعجزوا عن التغيير والتدبير الأمثل لشؤون البلاد؟ وأي شرعية لهذه التوقيعات في حال لجأت البلاد إلى إعادة الانتخابات، وبالتالي إمكانية إسقاط عدد كبير من هؤلاء النواب الموقعين؟

بعيدا عن الخطاب العاطفي والصيغ الدبلوماسية المنمقة، ولأن العلاقات بين الدول تنبني على المصالح وليس على المشاعر، فإسبانيا لا يمكنها الاستغناء عن المغرب لما تجمعها به من مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية. وحماس هؤلاء النواب الطائش، أغلبنهم ينتمي إلى اليسار، ونزعتهم الحقوقية الزائفة، لم يأخذا بعين الاعتبار أن الأمر يتعلق بدعوة إلى تخلي المغرب عن جزء لا يتجزأ من أراضيه، وإعلان يمس السيادة الوطنية والوحدة الترابية للمغرب، وقد يهدد العلاقات الثنائية مع أول شريك اقتصادي لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوروبي وأول سوق إفريقي للمنتجات والمقاولات الإسبانية.

على صعيد آخر، فإن مبادرة النواب الإسبان تضعهم في حرج مع المواطنين الإسبان أولا، قبل أن تضع دبلوماسية بلدهم ومصالحه الإستراتيجية في حرج مع دولة جارة وشريك أساسي. فعدد من المدن الإسبانية، خاصة في الجنوب، تعيش بما توفره السواحل المغربية من ثروات لأسطول البواخر الإسبانية وتخلق الثروة ومناصب الشغل للعديد من العائلات والمقاولات.

نعم، فالمغرب شريك “جميل” عندما يضع مياهه الإقليمية رهم إشارة بواخر “أندلوسيا” التي لا تضع حدودا بحرية تفرق شماله عن جنوبه. ونِعم الجار عندما يتصدى لموجات المهاجرين بشكل غير قانوني الطامحين إلى الحلم الأوروبي ويستقبلهم على ترابه حتى لا تجتاح جثثهم شواطئ “لا كوسطا ديل صول”. والمغرب شريك استراتيجي عندما تفكك سلطاته الأمنية خلايا إرهابية تهدد استقرار المواطنين الإسبان وتقدم مساعدتها الأمنية إلى الأجهزة الإسبانية حفاظا على سلم وأمن جاره الشمالي، من دون أي اعتبار سياسي. لكن سياسة الكيل بمكيالين التي ما زالت تسكن عقلية بعض السياسيين الإسبان لا تفوت أي فرصة لشيطنة المغرب والمس بوحدته وإيكال الاتهامات إليه، وإحياء عناصر تجاوزها التاريخ والواقع من المخيال الجماعي لإسبانيا التي مازالت ترى فيه الجار العدو الذي يقف على أعتاب الضفة الأخرى.

إن النزوح نحو شغل الرأي العام الإسباني بقضية خارجية لا تأثير لها على المعيش اليومي للمواطن الإسباني هو تصريف للأزمة السياسية العميقة التي تعيشها البلاد. وإذا كان دافع هذه الحملة حقوقيا، فلماذا لم يهتم هؤلاء النواب بتوقيع عريضة تطالب بإنهاء احتلال سبتة ومليلية؟ المدينتان الإفريقيتان اللتان لا تجمعهما بأوروبا سوى العلم الإسباني المرفرف فوق أرض مغربية. وإن كانت قلوب يساريي البرلمان الإسباني تخفق من أجل حرية الأفراد في تقرير مصيرهم، أليس من المنطقي أكثر أن تدعم قضية مماثلة داخل التراب الاسباني وتهم نسبة كبيرة من الناخبين الإسبان، هي استقلال كاتالونيا!؟

إن سياسة حسن الجوار المبنية على تبادل المصالح يجب أن تبنى على الاحترام المتبادل، واحترام السيادة يأتي في طليعة مبادئ حسن الجوار، والتعاون وبناء جسور الثقة وتشجيع الترابط بدل زرع بذور التفرقة، لأن التاريخ المشترك للمغرب وإسبانيا يفرض على النخب السياسية للبلدين مصيرا مشتركا لمواجهة التحديات المشتركة.