قبل أقل من خمسة أشهر خلت نشرت مقالة تحت عنوان: حزب العمال الهولندي يخذل أتباعه المسلمين والأجانب، حاولت من خلالها أن أقدم صورة تقريبية حول هذا الحزب اليساري ذي التاريخ العريق، الذي أضحى ينعت في الأدبيات السياسية والإعلامية الهولندية بحزب الأجانب. ولم لا؟ وقد صار منذ ثمانينيات القرن الماضي يراهن على الصوت الأجنبي أثناء قدوم الانتخابات البلدية أو البرلمانية، مما مكنه في أكثر من مناسبة انتخابية من أن يكتسح مدن البلاد الكبرى، التي تسكنها أقليات مسلمة وأجنبية مهمة، كما صنع في انتخابات 2012 التي حصد فيها حوالي 30% من الأصوات في معظم هذه المدن.

غير أن هذه الوضعية سوف لن تستمر أمام تراجع استراتيجية الحزب فيما يخص قضايا الأقليات الأجنبية وإشكالاتها المتراكمة، إذ أصبح الحزب ينتهج في الآونة الأخيرة سياسة لا تختلف كثيرا عما هو سائد عند الأحزاب اليمينية، التي تتبنى رؤية صارمة وواضحة في ما يخص العديد من قضايا المسلمين والأجانب، كملف اللاجئين ومسألة الحجاب والذبيحة الحلال والتعويضات الاجتماعية والقضية الفلسطينية وغيرها، في حين يعتمد حزب العمال خطابا غامضا ينبني على اللف والدوران والازدواجية، يروج فيه أيديولوجيا بأنه ينبغي رد الاعتبار للهولنديين غير الأصليين وتحسين وضعيتهم السوسيو- اقتصادية وتأهيل أدائهم داخل التعليم وسوق العمل، غير أنه عندما يخلو إلى شركائه السياسيين يتجاهل الوعود التي قدمها لأتباعه المسلمين والأجانب.

والأفظع من ذلك كله، أن معظم السياسيين من الأصول الأجنبية الذين ينتظمون في هياكل الحزب يغضون الطرف عن معاناة المواطنين الذين منحوهم أصواتهم، وكان لهم الفضل في الفوز بالمناصب السياسية التي يتمتعون بها، ومن ثم دفع عجلة الحزب إلى الأمام ليكون من الأحزاب الأولى على الصعيد الوطني.

إن الانتكاسة العارمة التي حلت بحزب العمال عشية انتخابات 19 مارس 2014 البلدية لم تكن وليدة اللحظة، وإنما تمتد جذورها في طبيعة السياسة التي اتبعها الحزب في التحالف الحكومي الحالي، حيث تنازل عن العديد من المكاسب من أجل أن يستمر هذا التحالف الهجين، فكانت فئة الأجانب هي الأكثر ضررا ومعاناة، وقد رأينا ذلك بأم أعيننا في أكثر من مناسبة تم فيها استحداث وتمرير قوانين جديدة دون الرجوع إلى القاعدة الشعبية للحزب، لا سيما في المدن الكبيرة. وقد توقعت في مقالتي السابقة بأنه إذا استمر الحزب على هذه الشاكلة، فإن الأيام سوف تحمل له مفاجآت غير سارة. وهذا ما يتضح من خلال قولي هذا:

“ولعل ما يزيد الطين بلة هو سكوت الكثير من المستشارين البلديين والنواب البرلمانيين من أصول إسلامية (مغربية وتركية) عما يحصل، دون أن يتحركوا بجدية ويعارضوا بشجاعة تلك القوانين المجحفة بحقوق المواطنين، سواء عبر تقديم ملتمسات أو اعتراضات لدى المؤسسات الرسمية والحزبية التي يعملون فيها أم عبر نشر تصريحات في مختلف وسائل الإعلام، والسكوت بهذا الشكل علامة على الرضا التام لما يبيت للأقليات المسلمة والأجنبية. مما يعني أنه قد آن الأوان لأن يراجع حزب العمال سياسته الجديدة تجاه مختلف القضايا التي تهم الهولنديين المسلمين والأجانب، الذين يشكلون له ورقة سياسية رابحة خصوصا في المدن الأربع الكبرى، أما إذا هو استمر على هذا النهج الغريب، فإنه يلوح في الأفق أكثر من مؤشر على أن المعركة الانتخابية القادمة قد تحمل له مفاجآت سيئة!”

ومما لا شك فيه، أن حصيلة الانتخابات البلدية الأخيرة حملت لحزب العمال الهولندي مفاجآت أكثر من سيئة! وهذا ما يتجلى من خلال القراءة الأولية لما حققه الحزب من نتائج، سواء على صعيد المدن الهولندية الكبرى أم على الصعيد الوطني، إذ مباشرة عقب الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، حصل الإجماع لدى أغلب وسائل الإعلام الهولندية على الخسارة الهائلة التي حلت بالأحزاب التقليدية الكبرى، كحزبي العمال والحزب الليبرالي، لصالح ما يسمى الأحزاب المحلية التي تمكنت بعد عقدين من الزمن من أن تستقطب ما يقارب 30% من الأصوات، ويأتي على رأسها حزب ديمقراطيو 66 الذي انتقل من حوالي %2,7 من الأصوات قبل عام 2010 إلى %11,8 خلال الانتخابات المحلية الأخيرة. في مقابل ذلك، تراجع الحزب الليبرالي من 15,7 إلى %11,9، أما “الخاسر الأكبر” حسب توصيف الإعلام الهولندي، فهو حزب العمال الذي تراجعت أصواته من %15,7 إلى %10,2.

هذا على المستوى الوطني العام، أما على المستوى المحلي، لا سيما البلديات الكبرى التي كان يدير دفتها الحزب العمالي، وبالخصوص في مدن أمستردام، روتردام، دين هاخ، خرونينكن، أيندهوفن وتيلبورخ، فإنه خسرها كلها باستثناء بلدية أيندهوفن الكائنة في الجنوب، وقد انتقلت هذه البلديات إلى حزب ديموقراطيو 66 الذي أصبح يعتبر اليوم الحزب الأكبر على مستوى إثنا عشر من عشرين بلدية هولندية كبرى. ولعل ضياع مدينة أمستردام من أيدي العماليين يتخذ بعدا سياسيا ثقيلا ذا حمولة رمزية عميقة، إذ تربع هذا الحزب اليساري على عرش هذه المدينة الساحرة منذ تأسيسه ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك سنة 1946، مما جعل المتتبعين للشأن الانتخابي ينعتون ما وقع في أمستردام بـ “الحصيلة التاريخية”، أما رئيس الحزب السيد ديدريك سامسون فقد صرح لوسائل الإعلام بأنهم خسروا حقا الانتخابات، إلا أنهم لم ينهزموا!

ترى ما هي الأسباب التي وقفت وراء هذا الاندحار العارم الذي شهده حزب العمال الهولندي؟

إن ما يسترعي الانتباه أن النتائج الهزيلة التي حصل عليها حزب العمال في البلديات الكبرى التي تقطنها شرائح أجنبية عريضة هي التي ساهمت بشكل شديد في تراجع الحزب، أولا على الصعيد المحلي، ومن ثم على المستوى الوطني، مما يعني أن العامل الذي كان أكثر تأثيرا في انتكاسة العماليين يرتبط، بالدرجة الأولى، بالأقلية الأجنبية والمسلمة، التي كان يراهن الحزب على أصواتها منذ أكثر من ربع قرن. وهذا يعني إما أن العديد من الهولنديين من أصول مسلمة وأجنبية لم يصوتوا، كما كانت العادة، لحزب العمال، وأنهم منحوا أصواتهم لأحزاب أخرى، كالحزب الاشتراكي وحزب ديموقراطيو 66 أو صوتوا على البياض، وإما أن الكثير منهم لم يتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم 19 مارس 2014.

إذا كان السيناريو الأول واردا فبشكل نسبي، لأن ثمة أكثر من مؤشر على أن نسبة عريضة من الشريحة الأجنبية لم تتوجه إلى صناديق الاقتراع. حسب دراسة قام به كل من مكتب البحث والإحصاء التابع لبلدية أمستردام ومعهد الهجرة والدراسات الإثنية في جامعة أمستردام شهدت نسبة المصوتين من أصول أجنبية تراجعا ملحوظا، إذ صوت سنة 2006 حوالي 50% من الأقلية التركية، وسنة 2010 ما يعادل 44%، في حين انخفضت هذه النسبة إلى 35% أثناء الانتخابات الأخيرة. أما فيما يتعلق بالأقلية المغربية فقد تراجعت نسبة التصويت لديها من 37% سنة 2006 إلى 26 % خلال الانتخابات الماضية.

هذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن عزوف هذه النسبة الكثيفة من الشريحة المسلمة التركية والمغربية عن التوجه إلى صناديق الاقتراع أثناء انتخابات 2014 البلدية، يعني، بشكل أو بآخر، امتناعها عن التصويت، وهذا الامتناع من شأنه أن يحمل بين طياته أكثر من رسالة إلى النخبة السياسية الهولندية بوجه عام، وإلى حزب العمال اليساري بوجه خاص، ما دام أنه ينصب نفسه حزبا للأجانب، الذين راهن عليهم طويلا، فشكلوا ورقة أيديولوجية رابحة في مساره السياسي، غير أنه بمجرد ما تراجع عن الوفاء بوعوده، وراح يتلاعب بقضايا المسلمين والأجانب أثر ذلك بعمق شديد على أدائه الانتخابي. ولا يمكن تفسير تقهقره في المدن الكبرى التي كان يحكمها قبل أيام معدودات إلا بعدم مشاركة آلاف المسلمين والأجانب، الذين لو أنهم حضروا يوم الاقتراع لصوتوا لحزب الوردة الحمراء، غير أن كل من يزرع الريح سوف يحصد لا محالة العاصفة!

 

*باحث مغربي مقيم في هولندا، متخصص في قضايا الإسلام والغرب