نعلم جيدا كيف أصبحت الجالية المغربية تلمس أنها اليوم مستهدفة أكثر من أي وقت مضى من طرف أحزاب عنصرية ، ويمكن على حد ما تفهم هذه المسألة ، لكن يصبح الأمر أكثر خطورة عندما تصطدم الجالية المغربية بدسائس ومؤامرات أهل الدار – كما يقال – والتي ضاعفت معاناتهم وكما يقول الشاعر ” وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند ” ، وما حدث مؤخرا من تآمر على بيت من بيوت الله بالديار البلجيكية والأمر يتعلق بمسجد ” البراق ” بمالين دليل  على ما يدبر ضد جاليتنا المغربية من طرف محسوبين عليها.
 
تصفحت  ما سمي ب”بيان” يتعلق بمسجد البراق بالديار البلجيكية لأجد قيئا من الأفكار الملوثة بإيديولوجية متخلفة ،ومن خلاله استغربت لما ابتلينا به من ممارسات مشوهة لصورة الإسلام أولا ، ولقيم الأخلاق في زمن أصبحنا فيه أشبه بلعبة في غمار الحياة ، زمن اختلط فيه الحابل بالنابل ..زمن ضاعت فيه الأخلاق والمبادئ وحتى الإنسانية.
وظهرت في عصرنا وزمننا هذا ظواهر دخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية ، لعل أكبرها وأخطرها ، أزمة أخلاق.
أتفق أن البشرية لم تكن في يوم من الأيام مجتمعا ملائكيا خاليا من العيوب والمعاصي والتصرفات الغير المحسوبة النتائج ، وأنها كانت تعاني منذ القدم من مشكلات أخلاقية مختلفة ، لكننا اليوم نواجه انحرافات تحولت بعضها إلى ظواهر مقلقة مطالبين بالتصدي لها بجميع الوسائل.
 
والكمشة التي كانت وراء هذه الزوبعة التي استهدفت استقرار وتعايش المسلمين بمسجد “البراق” ، لم يكن تحركها إلا البحث عن الشماعات التي يعلق أفرادها عليها فشلهم ، وإن اقتضى الأمر ذلك إشعال فتيل الحروب الوهمية واستغلال مقومات مغاربة العالم الدينية والحضارية المحسومة بمقتضى الدستور ، والتي لا تحتاج لمن ينصب نفسه وصيا عليها لأغراض غير خافية على أحد ، خصوصا وأنها تصدر عن مدعين ينصبون أنفسهم أوصياء على عمار بيوت الله ومسجد البراق واحد منها.
 
وقبل الدخول في تفاصيل أدق حول ما جاء في ” البيان ” الفضيحة والذي يرمي إلى بخس كل المجهودات التي قامت بها لجنة مسجد “البراق” برئاسة السيد حسن مصباح ، الموثقة بالوقائع والصور والمنشورة في مختلف المواقع الإلكترونية ، أود أن أتساءل عن الجهة الحقيقية التي تقف وراء الهجمة الشرسة على لجنة عملت ما في وسعها على خدمة المسجد والانفتاح على المحيط ، وأكيد أنها هي التي عانت وتعاني من إفلاس فكري وعداء للإسلام من خلال ممارساتها واعتمادها على أسلوب الكذب والتضليل والخداع والمغالطة وهي الفاقدة للمؤهلات العلمية الشرعية وتنصيب نفسها وصية على عباد الله.
 
ولا غرابة في هذا ، وقد فقدوا بوصلة التوجيه الصحيح في الدين الإسلامي الحنيف ، وصاروا لا يرون إلا الظلام ، فصدقوا أن ما يرونه هو عين الصواب ، ويحاولون فرض وصايتهم على المساجد وعلى الدين أنه ظلام لا يتحرك فيه إلا خفافيش الظلام .
 
لقد حاول هؤلاء وهم فعلا من خفافيش الظلام ، أن يجعلوا كل من اطلع على بيانهم ” المهزلة ” ينخدع بما يتقيأونه بعيدا عن الحقيقة وخدمة منهم لأجندة فاشلة تسعى إلى بسط اليد على المسجد وهم لا يدركون حجم الآية الكريمة  التي يقول فيها عز وجل ” وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا ” .
 
أقول هذا وقد نسي أو تناسى هؤلاء أن ثقافة المسلمين الحقيقيين هي ثقافة السلام والبناء والحوار والانفتاح ، وليس ثقافة الظلام والتدليس والتآمر في الخفاء ، وهذه هي السنة الجديدة التي يحاول هؤلاء زرعها في مسجد البراق و في صفوف إخواني المغاربة ، وهي سنة سيئة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث شريف ” من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة “وما دام هؤلاء لا يسعون من خلال ممارساتهم وتحركاتهم إلا إلى إحداث الشقاق والنفاق بين عمار بيوت الله ، فهي سنة سيئة .
 
وأنا لازلت أتابع نص ما جاء به “بيانهم “الفضيحة ، من توصيات وقرارات يحاولون  الظهور بمظهر العالمين بالسر وبما أخفى ،ويعتبرون أنفسهم أوصياء على العلاقة بين الله وبين المؤمنين به ، فهم الذين يسجلون هل المؤمن من أهل الجنة ، أو من أهل النار ؟ وهم الذين يقررون إثبات الذنوب أو غفرانها كما هو الشأن بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ، حيث كان الأوصياء على الدين المسيحي يوزعون صكوك الغفران على كل من يدفع أكثر ، ولا أحد كان يجرؤ على مناقشة ذلك ، لأنه حينئذ سيكون مستهدفا بالكفر والإلحاد ويجب الاقتصاص منه بالقتل أو بأي شكل من أشكال العقاب الأخرى.
 
ما جاء به ” بيان ” هذه الكمشة الحريصة بكل الوسائل مهما كانت دنيئة ومنحطة على الوصول إلى ” الزعامة ” ، يجعلني أتأكد على أرض الواقع ، أن الدين الإسلامي وما يدعو إليه من انفتاح وتعايش شيء ، وأن هؤلاء الانتهازيين شيء آخر ، لأن الدين الإسلامي يهدف إلى نشر القيم النبيلة التي ترفع مكانة الإنسان من خلال الحوار بمختلف المعتقدات ” يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله “.
 
” عدم نسج علاقات مع المجلس البلدي ، مع السفارات والقنصليات وممثلي البعثات الدبلوماسيسة الأخرى “ماذا يقصد به هؤلاء الانتهازيين ؟ ألا يعلمون بأن الدين الإسلامي هو دين قائم على أساس بث القيم النبيلة بين الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، ومعتقداتهم ومذاهبهم ؟ألا يرون بأن العالم كله صار يحرص على أن تحترم القوانين الدولية المتمثلة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية عن طريق ملائمة القوانين المحلية مع تلك المواثيق انطلاقا من الدساتير و انتهاء بأبسط القوانين الإجرائية المطبقة يوميا في جميع مناحي الحياة ، والمجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تستثنى من ذلك ، لأن التطور فرض عولمة اقتصاد السوق ، وعولمة الإعلام ، وعولمة وسائل الاتصال …
 
لقد سعت لجنة مسجد “البراق” مشكورة برئاسة الأخ حسن مصباح إلى الانخراط الإيجابي من أجل تحقيق علاقات أوسع مع مختلف الحضارات والديانات والمجتمعات ، من أجل الحرية بكل دلالاتها وأبعادها ومضامينها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية ، والانطلاق في أفق الإبداع في مختلف هذه المجالات السالفة الذكر من أجل صياغة وجه جديد لمجتمعنا ، وخطى في سبيل تحقيق ذلك خطوات مشكورة عنها ..
 
وتحدث” بيانهم ” وبكل وقاحة عن ما سموه ب ” عدم قبول رحلات التقرب إلى المغرب أو مكة المكرمة ” ، وبهذه العبارة المستعملة في ” منشورهم ” الأعمى ، يكون هؤلاء قد تطاولوا على ركن من أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها الدين الإسلامي ، وهو أداء فريضة الحج على من استطاع إلى ذلك سبيلا ،   فبالله عليكم ما الذي يجمعنا بمكة المكرمة غير أداء هذه الفريضة ؟ وهم لم يتحدثوا عن العربية السعودية ، أو الرياض ، بل عن ” مكة المكرمة ” وينسى هؤلاء الانتهازيين أن هذه الأخيرة تحظى بمكانة سامية ومقدسة لدى المسلمين ، فهي قبلتهم جميعا وفيها الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ، وفيها تقام مناسك الحج فيقبل عليها الحجاج من مختلف بقاع الدنيا وتقام فيها مناسك العمرة ، وبالقرب منها ، غار حراء الذي شهد نزول الوحي لأول مرة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويكفيها ثناء ما قاله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عاد إليها فاتحا محررا من رجس المشركين وأوثانهم ” والله إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إلي “.
 
وأما منع زيارة المغرب ،فيحضرني اللحظة المثل الشعبي الذي لطالما ردده أبناء الجالية المعتزين بوطنهم ” قطران بلادي ولا عسل البلدان ” هذا إن كان عسل البلدان عسلا مصفى ، أو كان به عسل في الأصل ، وصدق قائل المثل ، حقا قطران بلادي عسل ، حين تتجرع سم الاغتراب كل يوم ، وتموت ألف مرة حسرة  و شوقا ، ووحدة ، قطران بلادي عسل فابتسامة الآهل تنسيك مرارته ، وزهر الحقول ينسيك سواده ، وزرقة البحر تطفئ حريقا يشعله …
 
 
ترون إلى أي حد وصل هؤلاء في الشماتة والدناءة ، وهم يجهلون بأن حب الوطن من الأمور الفطرية التي جبل الإنسان عليها ، فليس غريبا أبدا أن يحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه ، وشب على ترابه ، وترعرع بين جنباته ، كما أنه ليس غريبا أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يغادره إلى مكان آخر ، فما ذلك إلا دليل على قوة الارتباط وصدق الانتماء.
 
وحينما كان الأخ حسن مصباح يتوافد على وطنه الأم المغرب صحبة ممثلين لحضارات ومعتقدات دينية أخرى ، فإنه كان يؤمن أولا بأن حب الوطن الذي ينتمي إليه واجب شرعي وديني وأخلاقي ، هذا الحب أراد الأخ حسن مصباح أن يترجمه إلى واقع وإلى أفعال تؤكد هذا الحب وذلك الانتماء ، حب الوطن هو شعور لا يجب أن يظل حبيسا في الصدور ومكنونات النفس ، وبالتالي فالوطن يستدعي منا جميعا أن نعبر عن هذا الحب وأن يكون هذا الوطن ومصلحته وبقاؤه هو هدف أسمى لنا جميعا ..
 
 
وهذه الكمشة من الانتهازيين كان عليهم وهم ” يفتون ” بمنع زيارة المغرب ، بعد مكة المكرمة ، أن يعلموا جيدا بأنه ليس من حب الوطن معادة الوطن وأهله ، وليس من حب الوطن العمل على الفرقة بين أبنائه المهاجرين بالخصوص وغرس ونشر ثقافة الكراهية والحقد والبغضاء ، وليس من حب الوطن أيها الجبناء أن نبتز الوطن من أجل مصالح أنانية أو ذاتية ، وليس من حب الوطن الاستقواء بايديولوجيات مؤدى عنها سلفا ، وثم أن الفارق بين حب الوطن وخيانة الوطن أمر واضح جلي لا يحتاج منا إلى إجهاد فكر حتى نتوصل إليه ، وحتى لو كانت النوايا حسنة في حب الوطن ، فلن تشفع أبدا في اختيار الوسيلة غير المناسبة للتعبير عن ذلك الحب.
 
أخيرا ، أعتقد جازما بأن وجود هذا النوع من الانتهازيين والمتآمرين على استقرار بيت من بيوت الله ، يرتبط بانتشار الأمية في مجتمع معين من مجتمعاتنا الإسلامية ، ووجودهم مرتبط باستمرار تلك الأمية ، أما إذا انتشر التعليم وصار الناس يمتلكون قسطا مهما من المعرفة ، فإن هؤلاء يصيرون متجاوزين وتصير أهميتهم غير واردة.
 
وعليهم أن يدركوا أيضا وهم يسيئون إلى رسالة الإسلام الحقيقية ، بأن الله عز وجل الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ، لم يكلف أي شخص أو أي جماعة سياسية بالقيام بدور الشرطة الدينية التي يحاول هؤلاء سنها لقطع الرؤوس باسم الدين.