في يوم 21 جمادى الثانية من سنة 731 هجرية بعث أبو العباس أحمد بن تيمية رسالة شهيرة إلى سرجوان ملك قبرص سميت بالرسالة القبرصية، بعد أن أخذ هذا الأخير أسرى من سواحل المسلمين فيهم أيضا يهودا ونصارى، وهي رسالة تطالبه بإطلاق الأسرى ومعاملتهم معاملة حسنة، وتحتوي معاني كثيرة من مبادئ الإسلام القائمة على العدل والحوار والوسطية ومكارم الأخلاق والمساواة بين الناس من جميع الديانات.

a
والمطلع على هذه الرسالة وما تحمله من مضامين إنسانية وحوار الأديان لا يمكنه إلا أن يعيد النظر في الصورة يتم تقديمها عن ابن تيمية والتي أصبحت في الوقت الحالي مقرونة بأصحاب التأويلات المتشددة للإسلام وهناك من يعتبره واحدا من المراجع الإيديولوجية لهذا الفكر، فابن تيمية في الرسالة القبرصية يسعى إلى توضيح مطالبته بإطلاق سراح الأسرى بصفتهم أسرى وبغض النظر عن انتمائهم للإسلام أو للديانة اليهودية أو المسيحية؛ وهو المبدأ الذي يشدد عليه في الرسالة عندما يذكّر ملك قبرص بكتاب مماثل سبق وأن بعثه إلى التتار : وقد عرف النصارى كلهم أني خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي : لكن معنا نصارى، أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفذيهم، ولا ندع أسيرا: لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة؛ وأطلقنا من النصارى من شاء الله فهذا عملنا وإحساننا، والجزاء على الله”.

12
إن ما يمكن استنتاجه من هذه الرسالة هما بعدان أساسيان، أولهما بعد متعلق بحوار الأديان باعتبار أن ابن تيمية أبان في هذه الرسالة عن تمكنه من الديانة المسيحية في حديثه عنها، واستشهاد بمجموعة معتبرة من نصوصها وكأنه أحد علمائها، في حين أننا اليوم ومع كل الوسائل المتاحة لتسهيل العلم نفتقد للعالم المسلم المحيط بالأديان الأخرى. وجدير بالذكر أن حوار الأديان الذي نصبو إليه لا يمكن أن يقوم إلا بمعرفة الآخر انطلاقا من مصادره العلمية وانطلاقا من محاورته والإصغاء اليه وليس من خلال تصوراتنا عن هذا الاخر والتمثلات الذهنية التي نشكلها عنه.

وفي نفس الإطار تكشف رسالة ابن تيمية جانبا يعمد المستشهدين به اليوم على إخفائه، وتجاوز معانيه، وغض النظر عنه، وهو الجانب المرتبط بوحدة الديانات السماوية وتطابق رسالاتها حيث تضمنت الرسالة القبرصية واقعة بطلها النجاشي ملك الحبشة النصرانى، الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه من أخباره، ولما سمع سورة “كهيعص” بكى ولما أخبروه عما يقوله في المسيح قال: والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود”، وقال إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة”. كما أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا”.

أما البعد الثاني الذي يمكن أن نستشفه من الرسالة القبرصية هو عباءة العمل الإنساني والدبلوماسي التي ارتداها ابن تيمية وهو يخاطب سرجوان، فهو في هذه الرسالة يقدم مرافعة شاملة تنهل من القيم الإسلامية ومن المراجع المسيحية واليهودية ومن الأحداث التاريخية من أجل بناء بنية حجاجية قوية بلغة فيها تجمع بين المبادئ النظرية لحسن المعاملة في الديانات وبين الوقائع، وهو بذلك يلعب دور الوسيط الذي تطلع به اليوم المنظمات الإنسانية الدولية، من أجل تحرير الأسرى من جميع الأديان ومعاملة جميع هؤلاء بمثل ما يعامل المسلمين أسراهم، وهذا فيه رد عل من يقول أن أهل الذمة كانوا يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية في المجتمعات الإسلامية.

لقد كشفت الرسالة القبرصية منظورا آخر لفكر ابن تيمية، فكر قائم على الحوار بين الأديان وعلى الانفتاح على الآخر وعلى الدفاع عن الإنسان لإنسانيته وليس لدينه أو لعرقه، فكر يحترم معتقدات الآخر ويدعوا إلى المحافظة على دين الآخر، ومما جاء في آخر الرسالة : والذي ختم به الكتاب: الوصية بالشيخ أبي العباس، وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم، والرفق بمن عندهم من أهل القرآن، والامتناع عن تغيير دين أحد…”، وهو ما سبق وأشرنا إليه في هذا المقال بأن المعرفة الحقيقية تقتضي العودة الى المصادر وعدم الاكتفاء بالتأويلات التي يعطيها الأفراد لهذه المصادر.