أحمد جرار  صحفي.

أكثر من ديمقراطية عابرة.. أقل من ملكية دستورية

كثيرا ما حدثتني نفسي بزيارة المغرب والتعرف على البلد الذي توجد به مدينة تطوان.. تلك التي وعينا على الدنيا ونحن ننشد:
بلاد العرب أوطاني .. من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن … إلى مصر فتطوان

 

1

لكني لم أعتقد يوما أن زيارتي الأولى لها ستكون عبر بوابة الانتخابات وأنني سأراها بعيون الصحفي وليس بعيون السائح وأنني سأكون أحد ثلاثة مراسلين اختارتهم الجزيرة لتغطية الحدث الانتخابي هناك.

كنت أدرك أن أسوأ ما يمكن أن يقع صحفي به حين يزور بلدا لأول مرة لتغطية حدث سياسي فيها هو الوقوع في فخ الأحكام المسبقة، لذلك اجتهدت أن أستمع وأرى بعيني قبل أن أقدم حكما أو رأيا عن النموذج المغربي.

موقف الناس هناك من تجربة الإسلاميين وتحديدا حزب العدالة والتنمية فيها إنصاف وواقعية وابتعاد عن ترديد المفردات المبتذلة لخصوم الإسلاميين.

ربما ساعدني قدومي من دولة ملكية.. في فهم الواقع السياسي المتشابك في المغرب والتوازنات والمسارات الضيقة التي تتحرك بها القوى الفاعلة في الساحة المغربية.

لعل أبرز ما لفت انتباهي خلال الأيام القليلة الأولى.. هو منسوب الوعي المرتفع لدى الشعب المغربي.. فالمواطن يدرك لعبة السياسة في بلده حتى وإن اختار المقاطعة أو تجاهل الأحزاب وابتعد عن أخبار السياسيين ومناكفاتهم التي لا تنتهي، على أن الغرق في التغطية الانتخابية جعلني أقترب أكثر فأكثر من المشهد السياسي في هذا البلد الجميل لأسجل لاحقا الانطباعات التالية..

أولا، أننا كنا أمام مشهد انتخابي ساخن وليس مجرد محطة ديكورية عابرة يدرك الجميع نتائجها حتى قبل أن توضع ورقة الاقتراع الأولى في الصندوق.. فهناك أحزاب حقيقية على الأرض لديها برامج ومرشحين وأنصار وهناك دعاية انتخابية حامية الوطيس.. ومنافسة محمومة لنيل رضا الناخبين وأصواتهم.

 

3

ثانيا، أن موقف الناس هناك من تجربة الإسلاميين وتحديدا حزب العدالة والتنمية فيها إنصاف وواقعية وابتعاد عن ترديد المفردات المبتذلة لخصوم الإسلاميين في المشرق أو في الحالة المصرية، على سبيل المثال من قرر عدم انتخاب العدالة والتنمية قال لي بأن قراره جاء لأنهم فشلوا برأيه في تطبيق الشعارات التي رفعوها عام 2011 ولم يقدموا شيئا بملفات الفقر والبطالة وفشلوا في محاربة الفساد لأن المناصب “غيرتهم”، وهناك من قال بأنه سينتخبهم ليس لأنهم الحزب المناسب لقيادة الحكومة بل لأنهم برأيه “أفضل الأسوأ” ووجه لهم انتقادات قاسية لا سيما حول السياسات الاقتصادية التي أضرت بجيوب الكثير من المغاربة، وحتى من قال بأنه سينتخبهم لم يرجع ذلك إلى كونهم إسلاميين ولكن لأن “أيديهم نظيفة ” ولم يتلوثوا بالفساد برأيه.. رغم محدودية إنجازاتهم التي شعر بها المواطن العادي..

ما قصدته هنا.. أن الأجواء الانتخابية والمشهد السياسي عموما لم يصب بفايروس شيطنة الإسلاميين فمن يحبهم لديه أسباب مقنعة ومن يكرههم ويعاديهم لديه أيضا أسبابه الوجيهة.. لم يقل لي أحد مثلا أنه سيقف ضدهم بالانتخابات “لأنهم عملاء أمريكا وأنهم يريدون أخونة الدولة وحكم المرشد” أو أنه سينتخبهم لأنهم سيجددون “الزمن الأندلسي المفقود” وسيعيدون أمجاد الإسلام الغابرة.

الانطباع الثالث أن في المغرب يسار حقيقي -قد يكون انحسر وأفل نجمه- لكنه لا يقارن مطلقا ولا بأي حال مع اليسار في المشرق، صحيح أنهم ما زالوا يؤمنون بالدفاع عن الكادحين ومصالح طبقة البروليتاريا.. لكنهم لا يحترفون توزيع تهم العمالة على كل خصومهم.. ولا يعانون من متلازمة الإخوان أو الإسلاميين، لم أسمع مفردات الوهابية والاستبداد العثماني، تعرفت مثلا على شباب ينتمون لحزب شيوعي يدافعون عن تحالف حزبهم مع العدالة والتنمية ودخولهم في حكومة يقودها بنكيران وعلى قيادي في حزب يساري آخر اتهم الإسلاميين بالانحياز للسياسات الليبرالية في إدارة اقتصاد البلاد لكنه لم يقل أنهم عملاء للإمبريالية العالمية..

بالمجمل شعرت أن هناك قوى سياسية حقيقية تتنافس على مقاعد البرلمان وعلى أصوات الناخبين وتحل خلافاتها عبر صناديق الاقتراع وتؤمن فعلا لا قولا فحسب باحترام إرادة الناخبين ولا تطرح نفسها وصية عليهم أوعلى خياراتهم.

هل بؤس الواقع السياسي في الحالة المشرقية وطغيان الاستبداد والدموية عليه جعلني أنظر للمشهد المغربي بهذه الطريقة.. ربما.. لكن وحتى أكون واقعيا أكثر فإنني وجدت مغاربة كانت لهم نظرة قاتمة للمشهد السياسي في بلادهم، فهم يرون أن الدولة البوليسية لا تزال حاضرة في حياتهم وإن لبست قفازات ناعمة، وأن القصر لا يزال يمسك بكل مفاصل الحكم وأن حزب العدالة والتنمية قد قدم الكثير من التنازلات للبقاء قريبا من القصر، وأن أمينه العام عبد الإله بنكيران ارتضى أن يقود حكومة لا يملك ولاية كاملة عليها من أجل البقاء داخل اللعبة السياسية.. بل إنني وجدت مغاربة يعتبرون أن الحزب فقد هويته السياسية ومرجعيته الإسلامية وأصبح مجرد حزب سياسي يناور ببراغماتية عالية، وأن ثمة فجوة كبيرة بين ما كان يرفعه من شعارات في مرحلة ما قبل قيادة السلطة التنفيذية ومرحلة ما بعدها.

هل المشهد بهذه الصورة.. ربما.. شخصيا رأيته بعيون أخرى.. فنحن لا إراديا نبقى أسرى المقارنات.

في مدينة فاس عاصمة المغرب الثقافية والتراثية.. وحيث استوطنت عراقة الماضي في أحيائها من غير رغبة على الرحيل.. أتيح لي أن أحضر مهرجانا انتخابيا حاشدا لحزب العدالة والتنمية حضره عشرات الآلاف..

المهرجان كشف لي عن براعة كبيرة وقدرة عالية للحزب وكوادره في الحشد والتنظيم، الحضور كان من مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية ولم يقتصر مثلا على ما كنت أراه في مهرجانات حزب جبهة العمل الاسلامي في الأردن على سبيل المثال.

أسرّ لي بعضهم بعيدا عن الكاميرا أن الحزب المنافس لهم “أي الأصالة والمعاصرة” يروج لنفسه في بعض المدن لا سيما في الأرياف والمناطق الشعبية على أنه “حزب سيدنا” أي حزب الملك.

اللحظة الفارقة بالمهرجان هناك كانت ظهور الأمين العام للحزب.. بنكيران على المنصة.. استقبل حينها بعاصفة من التصفيق والهتاف لدرجة تساءلت فيها هل حقا هذا رئيس الوزراء الذي أفقرت سياساته المغاربة كما يردد خصومه.. بدا لافتا أن للرجل كاريزما واضحة فهو قادر على أن يشد الجماهير بكلماته.. تارة ينتزع منهم التصفيق وتارة الهتافات النارية.. وتارة أخرى الضحكات المجللة.. شعرت أنني أمام طراز غير تقليدي من الساسة في العالم العربي وبرأيي فإن شخصيته كانت أحد المفاتيح الرئيسية لنجاح الحزب في تكرار فوزه بالانتخابات.

على أن ما لفت انتباهي في تلك الليلة التاريخية في فاس.. الهتافات التي أطلقها أنصار الحزب ضد ما وصفوها بـ”قوى التحكم” استغربت حينها كيف يشكو حزب حاكم من قيام مسؤولين في إدارة الدولة بالترويج ضدهم؟ سألت من يقف وراء هؤلاء.. استمعت لإجابات متباينة وغامضة، لكن أسرّ لي بعضهم بعيدا عن الكاميرا أن الحزب المنافس لهم “أي الأصالة والمعاصرة” يروج لنفسه في بعض المدن لا سيما في الأرياف والمناطق الشعبية على أنه “حزب سيدنا” أي حزب الملك.. وأن بعض كبار الموظفين في الإدارة العمومية يرددون ذلك ويحرضون الموظفين على عدم التصويت لحزب العدالة.. لكنهم يستدركون القول بأن “جلالة الملك يقف على مسافة واحدة من الجميع” وأن القصر ضد هذه الممارسات.

بالنسبة لي فإن الرهان الأكبر على نجاح المغرب في اختبار الانتخابات كان في يوم الاقتراع.. هل ستكون هناك من شكاوى بالتزوير أو التدخلات الفجة للقوى الغامضة.. أو قوى التحكم شخصيا ومن خلال متابعتي لسير الاقتراع.. ومن ثم الفرز.. وتحديدا في مدينة طنجة الساحرة، شعرت أن المشهد مر بكل سلاسة وهدوء لم أسمع ولا شكوى واحدة لا أمام الكاميرا ولا بعيدا عنها.. بعضهم قال لي بأنه حتى اللحظة الأخيرة كان سيقاطع الانتخابات لولا ما وصفها بالدعاية الرخيصة التي شنتها جهات ضد حزب العدالة لذلك قرر القدوم والاقتراع لحزب “المصباح” أي حزب “العدالة والتنمية ” نكاية بحزب “الجرار” أي حزب الأصالة والمعاصرة.. فأخبرته مازحا أنني أنا من عائلة جرار.. فضحك كثيرا..

وترك على وجهي ابتسامة.. احتفظت بها حتى اللحظات الأخيرة من رحلتي في الأراضي المغربية.. وكلي أمل أن يديم الله على أهل هذا البلد الطيب.. نموذجه “الديمقراطي”.. لعله ينقل يوما ما عدوى “الاستثناء المغربي “.. للمشرق.