الأمين العام لمجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج الأستاذ عبد الله بوصوف.

 

يحتفي العالم في الفاتح من شهر ماي من كل سنة بعيد العمال، الذي يخلد نضالات الطبقة العاملة ومعاركها من أجل اكتساب الحقوق وتعزيز الكرامة، وإثارة الانتباه إلى الإشكاليات التي تعترضها في مختلف بقاع العالم.

ولأنه لا يمكن الحديث عن نضالات الطبقة العاملة بمعزل عن نضالات العمال المهاجرين في دول الإقامة وتضحياتهم في سبيل تحقيق المساواة والكرامة، فإنه من الضروري التأكيد على أن ذاكرة العمل ارتبطت بذاكرة الهجرة العمالية، خصوصا في أوروبا وأمريكا، ولا يمكن بالتالي فصل تاريخ الهجرة عن تاريخ العمل كيفما كان الحال.

ولا تخرج الهجرة المغربية بدورها عن نضالات العمال في بلدان الهجرة، إذ ساهم آلاف العمال المغاربة في معارك الطبقات العاملة واستطاعوا إدماج مشاكلهم ومطالبهم في أجندة النقابات العمالية، في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وهولندا…منذ سنوات الإقلاع الاقتصادي الذي عرفته هذه الدول مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحرر أوروبا من الفاشية والنازية.

إن التطرق لنضالات العمال المغاربة في الهجرة لا يقتصر فقط على فاتح ماي، ولكنها نضالات ممتدة في الزمان والمكان، وتختلف أشكالها باختلاف ظروف وفترات ودول الإقامة. وتاريخ الحركات العمالية في أوروبا شاهد على نضالات العمال المغاربة، سواء من أجل المطالبة بتحسين ظروف العمل، وبالمساواة في الحقوق مع زملائهم من الأوروبيين، أو من خلال النضال من أجل التجمع العائلي، ومن أجل الحق في التغطية الصحية، وهي نضالات مستمرة حتى بعد انتهاء الخدمة وبلوغ سن التقاعد، وتجسدها نضالات المتقاعدين المغاربة في سبيل المساواة في التعويضات وفي التغطية الصحية، والحق في التقاعد في البلد الأصلي.

وكما أن فاتح ماي مناسبة لاستحضار نضالات ومطالب العمال المغاربة في الداخل والخارج، فإنه أيضا مناسبة للوقوف على تضحيات العمال المغاربة من أجل المساواة والكرامة في بلدان الهجرة وكذا حفظ ذاكرة المغاربة الذين سقطوا ضحايا لعنصرية وكراهية الحركات اليمينية المتطرفة.

يوم فاتح ماي 1995، وخلال المسيرة العمالية التي جابت شوارع العاصمة الفرنسية باريس، وتوحدت فيها مطالب آلاف العمال من دون أي اختلاف بسبب العرق أو الجنسية، طالت أيادي العنصرية البغيضة عاملا مغربيا مهاجرا اسمه ابراهيم بوعرام، وقتلته بدم بارد مجموعة منضوية تحت لواء الجبهة الوطنية تسمي نفسها “حليقي الرؤوس”، ورمت بجثته في نهر السين، وسط العاصمة الفرنسية.

هز هذا الحدث العنصري الرأي العام الفرنسي، وخلف احتقانا لدى العمال وفي الأوساط السياسية، خصوصا أن هذه الجريمة جاءت على بعد أسبوع واحد من الانتخابات الرئاسية. واستعملت القوى اليسارية ورقة العنصرية وجريمة بوعرام في خطابها السياسي، وهو ما جعل الحزب الاشتراكي يتبوأ المرتبة الأولى في الدور الأول قبل أن يتمكن مرشح حزب “اتحاد من أجل حركات شعبية”، جاك شيراك، من الفوز في الدور الثاني بفارق صغير عن ليونيل جوسبان، مرشح الاشتراكيين.

ساهمت ضغوطات عائلة بوعرام وضغوطات القوى السياسية والمجتمعية المناهضة للعنصرية في فرنسا، خصوصا sos racisme، في الضغط على السلطات الفرنسية، وتوبع المتهمون بجريمة القتل وصدرت في حقهم أحكام تراوحت بين 5 و8 سنوات.

اليوم، وبعد مرور 21 سنة على هذه الجريمة العنصرية، مازال جثمان ابراهيم بوعرام يرقد في مسقط رأسه بمنطقة تيزنيت، ومازالت إحدى ساحات العاصمة الفرنسية تحتفظ بلوحة تذكارية شاهدة على جريمة القتل وعلى عنصرية اليمين المتطرف وعدائه الممنهج للمهاجرين.

كما أصبح تخليد ذكرى ابراهيم بوعرام ورمي باقات الورود في المكان نفسه الذي تم فيه رمي جثته في نهر السين، واحدا من تقاليد عدد من جمعيات العمال والجمعيات المناهضة للعنصرية في فاتح ماي.

لقد أعادت جريمة قتل المهاجر المغربي ابراهيم بوعرام وإلقائه في نهر السين إلى الأذهان جريمة أخرى سببها العنصرية والكراهية، كان نهر السين مسرحا لها؛ إذ هاجمت الشرطة الفرنسية يوم 17 أكتوبر 1961، بأمر من رئيسها موريس بابون، مسيرة سلمية خرج فيها آلاف المهاجرين الجزائريين وعدد من المهاجرين المغاربيين، احتجاجا على قرار حضر التجول الذي استهدفهم من دون غيرهم.

وتشير الكتابات التاريخية إلى قتل مئات من المتظاهرين والإلقاء بجثتهم في نهر السين، الذي اختلطت مياهه بدماء المهاجرين الجزائريين والمغاربيين. وسميت هذه المجزرة بمجزرة “مونبارناس”، نسبة إلى حي “مونبارناس” الشهير في العاصمة الفرنسية. ولازال الحي الفرنسي يحمل لوحة تذكارية لهذه الجريمة الشنيعة، ولازال نهر السين يحفظ تاريخ الألم والعنصرية والكراهية ضد المهاجرين.

“في مونبارناس مات خويا يا بويا، برصاص قناص عنصرية يا بويا، وبالحقد الأعمى تربى وعاش يكره الناس…”، بهذه الكلمات أبدع عملاق الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي في تكريم ضحايا مجزرة “مونبارناس”، هذا الحي الذي يؤرخ لكل الأجيال حالة العنصرية ولغة الرصاص والموت والدماء التي غمرت نهر السين في ستينيات القرن الماضي.

” كل مرة يموت صبح جديد..تغيب القمرة… ويتأجل العيد…في مونبارناس”، يقول عبد الوهاب الدكالي في رائعة مونبارناس.