تعيش أكثر من منطقة في العالم مخاضا فريدا وتحولات متسارعة يطبعها تسارع الأحداث الدولية وتشابك الفاعل السياسي بالمؤشر الاقتصادي والمؤثرات الاجتماعية وتفاوت درجات القوة والتأثير بين هذه المكونات، إضافة إلى كثرة تسخير كل طرف للأذرع الإعلامية والمنظمات التابعة له للخوض في كل شيء وشن حرب مفتوحة على الطرف المقابل باستعمال جميع الأساليب حتى الدنيئة منها؛ وهو ما يجعل الفاعل السياسي، خصوصا المرشحين للانتخابات، يتفنن في وسائل “التنكيل الانتخابي” لتحقيق غاية الفوز بعدد أكبر من الأصوات حتى وإن كان ذلك على حساب التوجه الإيديولوجي أو البرنامج السياسي الذي بني عليه الإطار الحزبي.

 

إن العرض السياسي الذي أصبحنا نلحظه في العديد من الدول الأوروبية، التي يفترض على أنها نماذج عريقة في الديمقراطية والعمل السياسي، لم يعد مبنيا على توجه إيديولوجي يرسم خارطة طريق الأحزاب ويحدد حلفاءها وخصومها ويقدم برنامجا مجتمعيا متماسكا وفريدا؛ بل أصبح مسودة قابلة للمراجعة والتعديل في أي وقت تحت تأثير المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياق السياسي، وهو ما تكون له في الغالب نتائج سلبية أكثر مما يمكن جنيه من مصالح.

 

على سبيل المثال، الوزير الأول البريطاني دافيد كامرون انتهى سياسيا واختفى من الـساحة بسـرعة البرق، بعد فوز استفتاء خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي؛ وهو الاستفتاء الذي لم يكن في حسبان كامرون أنه سيخرجه من النافذة وينهي مساره السياسي، نظرا لضعف إنجازات حكومته ومحاولتها تصدير أزمات بريطانيا الاقتصادية والاجتماعية وتهديد موقعها ضمن الدول العظمى.

 

من جهة أخرى، فإن الوضع في إسبانيا لا يختلف كثيرا؛ فقد جرى حل البرلمان وإعادة الانتخابات مرتين. ومع ذلك لم تسفر هاتان المرتان عن أغلبية مطلقة لهذا التيار أو ذاك، وتم فقط تشتيت انتباه الناخب الإسباني نحو قضايا خارجة عن حياته اليومية؛ بل حتى الحركات الاحتجاجية مثل بوديموس لم تحقق ذلك الاكتساح المرتقب في انتخابات يونيو 2016، نظرا لغياب العرض السياسي الناجح في برامج الأحزاب الإسبانية، وحلولا واقعية تخرج البلاد من تداعيات الأزمة الاقتصادية وهو سبب كافي لشلل الحياة التشريعية والتنفيذية في البلاد.

 

في هذا السياق، يبدو أن سنة 2017 ستعرف “القيامة الانتخابية “، في العديد من مناطق العالم؛ كلندن ومدريد وباريس وواشنطن وغيرها. وبما أننا نُدرك أن اللعبة السياسية بقواعدها غير الثابتة تعتمد على عـنصر “المصلحة” فقط، فإننا نتوقع أن تعرف ملفات الهجرة واللجوء والإسلاموفوبيا حطبا سيشعل لهيب الحملات الانتخابية في جل هذه الدول وشماعة تعلق عليها جميع المشاكل الاجتماعية التي تمر بها بعض الدول الأوروبية وكذا الولايات المتحدة.

 

فالمرشح الجمهوري للرئاسيات الأمريكية دونالد ترامب لا يعتمد في حملته الانتخابية على برنامج يحمل عرضا سياسيا يقنع به الناخب الأمريكي، ويقدم له حلولا تعده بغد أفضل، وبتعايش داخلي بين السود والبيض وبتماسك مجتمعي وسياسية خارجية مبنية على نشر السلم والديمقراطية عبر العالم؛ بل اختار التهجم على المهاجرين وعلى الرؤوس أشهد ببناء جدار على طول الحدود المكسيكية لوقف الهجرة وطرد جميع المسلمين.

 

أما في فرنسا، فقد وفرت تداعيات الأزمة الاقتصادية ومخلفات ولاية ساركوزي، خصوصا في السياسات الاجتماعية إضافة إلى الاكتواء بنار الإرهاب، تربة خصبة لفرنسوا هولاند الذي تصفه التحليلات بأنه واحد من أسوء رؤساء فرنسا. ومن ثم، رجحت كفة اليمين المتطرف، وجعلت خطاباته المبنية منذ البداية على العنصرية ورفض الأجانب وتخويف الفرنسيين من المكون المسلم تتفوق على جميع التوجهات السياسية في بلد المبادئ الثلاثة.

 

بدورها، لم تجد حكومة مانويل فالس الحلول الواقعية لكل المشاكل المرتبطة بالحياة اليومية للفرنسيين، فاختارت أن تشغلهم بأمور غير ذات أهمية؛ فالنقاش الدائر حول البوركيني مثلا يدخل في جزء كبير منه ضمن حملات التمويه وتشتيت انتباه الرأي العام، للفرار من تقديم إجابات صريحـة عن الاحتجاجات ضد “قانون الشغل”، وعن ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت إلى درجة 10،3% أي ضعف معدلات إنجلترا وألمانيا، إضافة إلى إطالة مدة الطوارئ في بلد ديمقراطي وبلد الحرية والمساواة والأخوة.

 

لقد كان على مانويل فالس التفكير في إجابات مقنعة بخصوص سياسة المدينة واندماج الأجانب في المجتمع الفرنسي والغنى الذي يتيحه التعدد، بدل مسايرة ضغوطات اليمين المتطرف والهروب إلى الأمام وإشعال المزيد من أسباب الكراهية والحقـد بين الفرنسيين مــن ديانات مختلفة؛ فالنساء بـ”البوركيني” على الشاطئ هُن النساء أنفسهن بالحجاب أو الجلابة المغربية في الشارع وفي المتاجر الكبرى والمطارات والإدارات الفرنسية. وأين هو الضرر في اختيار المرأة بكل حرية لباسها، سواء في الشاطئ أو في الشارع؛ بما أن الأمر لا يشكل أية مخالفة للقوانين ولا يهدد حرية الآخرين أو سلامة المواطنين؟

 

إن ما يهم الناخب الـفرنسي، بالدرجة الأولى، ليس هو لباس البحر؛ وإنما هو محاربة البطالة وتخفيض الأعباء الضريبية، سواء على الأفراد أو المقاولات. وما يهم الشباب الفرنسي، بالدرجة الأولى، هو توفير فرص الشغل والبحث العلمي. وما يهم النشطاء الحقوقيين هو الدفاع عن مبادئ الجمهورية والدولة العلمانية التي تضمن حقوق الأقليات في ممارسـة شعائرهم الدينة وحرية المعتقد واحترام الخصوصيات الثقافية.

 

لقد جعل غياب عرض سياسي مقبول الاشتراكيين في فرنسا يقبلون بالهزيمة حتى قبل بداية الرئاسيات المرتقبة سنة 2017؛ ولن يكون أمام الناخب الـفرنسي سوى خطاب اليمين المتطرف أو حزب “الجمهوريين”، الذي دشن رئيسه نيكولا ساركوزي حملته بإصدار كتاب “الكل من أجل فرنسا” والذي تضمن أفكارا لمشروعه السياسي غير المبتعد كثيرا عن كلاسيكيات اليمين المتطرف، أي محاربة الهجرة والتضييق على المهاجريـن ومحاولة ضبط وتنظيم الإسلام بفرنسا وتعليق التجمع العائلي. كما بشر بخطة “شينغن” ثانية وحصر هذا الفضاء فقط على حاملي الجنسية، من دون إغفال التعديلات التي تخص قانون الجنسية الفرنسية، مرورا باستعادة التنافسية وتقوية مؤسسات الدولة.

 

خلاصة القول، فإن القاسم المشترك بين كل هذه التمارين الديمقراطية، سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا وإسبانيا، هو الفقر في العرض السياسي لبرامجهم الانتخابية؛ وهو ما يسهم سلبا في فقدان الثقة في الفاعل السياسي والعزوف عن سياسة ليسـت بطعم العيش المشترك، بل سياسة قائمة على تـصدير المشاكل الداخلية خارج الحدود، أو تعليقها على الأجانب خصوصا المهاجرين والمسلمين داخل الحدود.

 

الدكتور عبدالله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج .