قبل ثلاثة عقود ونيف من اليوم، وبسبب ظروف خاصة طبعتها مؤامرة انقلابية على الشرعية وعلى ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية، وبعد أن قررت الجزائر ودول إفريقية أخرى تسير في ظلها التآمر على الوحدة الترابية للمملكة، وإقحام كيان وهمي غير معترف به دوليا وليست له تمثيلية في الأمم المتحدة في عضوية منظمة الوحدة الإفريقية، اختار المغرب مغادرة سفينة المنظمة القارية وهي راسية في مرفأ أديس أبيبا.

وجاء قرار المغرب ردا مدويا احتجاجا على إحدى أكبر عمليات النصب التي شهدتها إفريقيا، وأكبر مؤامرة إفريقية على وحدته الترابية؛ حيث تم أمام أنظار الجميع تغليب منطق المصالح المادية الضيقة من أجل الالتفاف على ميثاق المنظمة، خصوصا في فصله الرابع الذي ينص على أن عضوية المنظمة مخصصة لكل دولة إفريقية مستقلة وذات سيادة.

وعلى الرغم من محاولة الخصوم، طيلة هذه المدة، عزل المغرب عن محيطه الإفريقي، وجعله عبر التقسيم ساحة لمعارك سياسية وإعلامية خاسرة وعدوا خارجيا وهميا تعلق عليه فشل السياسات الداخلية، إلا أن المغرب أبى إلا أن يظل متمسكا ببعده الإفريقي الممتد لقرون والشامل للعديد من الروابط والعلاقات في مختلف المجالات مع أغلب الدول الإفريقية. وحتى بعد انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية احتجاجا على المؤامرة، فقد أكد المغفور له الملك الحسن الثاني على استمرار هذه الوشائج المتجذرة بالتأكيد في “رسالة الوداع” في أديس أبيبا يوم 18 نونبر 1984 بالقول: “إننا نودعكم، إلا أن المغرب إفريقي بانتمائه، وسنظل نحن المغاربة جميعا في خدمة إفريقيا”.

اليوم وبعد 32 سنة من الغياب الاضطراري، ها هو المغرب يقرر العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، وها هو جلالة الملك يربط الماضي بالحاضر ويؤكد في مناسبتين من خلال رسالته الموجهة إلى المشاركين في القمة لإفريقية الـ 27 بكيغالي برواندا على أن المغرب “رغم كونه قد غاب عن منظمة الوحدة الإفريقية، فإنه لم يفارق أبدا إفريقيا”، داعيا في الوقت نفسه إلى ربح رهان الوحدة والتماسك الذي يواجه العائلة الإفريقية الكبرى.

إذا كانت بعض الأطراف قد استغلت شغور مقعد المغرب في المنتظم القاري، وغيابه من كل مؤسسات وأجهزة المنظمة، من أجل تأجيج الوضع السياسي وعدم الدفع في اتجاه حل سياسي توافقي يحترم المنطق ويرضي جميع الأطراف، فقد عوّض المغرب غيابه المؤسساتي بحضور فعلي ملموس على أرض الواقع؛ وذلك عبر شراكاته الثنائية مع جل الدول الإفريقية، راسما بذلك المعالم الأولى لعلاقات الصداقة والأخوة المبنية على أساس رابح- رابح، وواضعا اللبنات الأساسية للتعاون جنوب- جنوب، الذي جعل منه أكثر من مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي، بل مبدأ دستوريا منصوصا عليه في ديباجة دستور 2011 التي تبرز أهمية الرافد الإفريقي في الهوية المغربية، وتؤكد على التزام المغرب بتقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولاسيما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء.

لقد واجه المغرب محاولة عزله عن محيطه الإفريقي بواقعية وبصيرة سياسية. وطوال هذه السنوات، اختار المغرب تقوية التعاون والتضامن مع الدول الإفريقية من خلال احتضانه لهموم القارة واعتماده على آليات التنمية المستدامة والأمن الغذائي والتعاون الأمني والعسكري والأمن الروحي. وهو ما جعله في صلب العلاقات الدولية على الصعيد الإفريقي، وأكسبه مكانة محورية في الأحداث السياسية الكبرى التي عاشتها وتعيشها مختلف الجهات الإفريقية.

المغرب باعتباره فاعلا محوريا في حل النزاعات الإقليمية

لقد جسدت الزيارات الملكية المتكررة إلى عدد من الدول الإفريقية وحفاوة الاستقبال الشعبي الذي يخصصه له مواطنوها تجذر الشجرة المغربية في التربة الإفريقية والتزام المملكة تجاه شركائها من الدول الإفريقية الصديقة. فكانت الإحدى وعشرين طلقة مدفعية ببامكو بمالي احتفاء بحضور جلالة الملك، إعلانا لانطلاق مسلسل تعاون شامل، بعد أن ساهم المغرب بشكل ملفت للانتباه وأبان عن حنكته في الوساطة من أجل حل قضية مالي والأزواد؛ حيث استطاع المغرب إرجاع الجانبين إلى طاولة المفاوضات والحوار، بهدف التوصل إلى السلام ووقف المواجهات المسلحة منعا للحرب الأهلية في مالي، وهو ما اكسب المغرب قيمة مضافة في الوساطة الجدية والمسؤولة في إيجاد التوافقات وحل النزاعات الإقليمية.

هذه المكانة الرفيعة للمملكة وسعيها إلى تحقيق الأمن والسلام في الدول الإفريقية زادت من تعزيزها وساطة المملكة الحيوية؛ حيث فتح المغرب أبوابه أمام الفرقاء الليبيين وسخر إمكانياته من أجل التوصل إلى اتفاق يوقف الاقتتال ويجنب البلاد كابوس التقسيم الطائفي والقبلي، وهو بالفعل ما تحقق بعد شهور من المفاوضات في مدينة الصخيرات. ولا يسعنا المجال هنا لتعداد مهام الوساطة المغربية في حل النزاعات القارية وإسهاماته في تحقيق السلم للمواطنين الأفارقة، وتسخير جنوده للإسهام ضمن قوات حفظ السلام في مجموعة من الدول.

وفي سياق تواجه فيه دول الساحل والصحراء تحديات مرتبطة بالإرهاب والاتجار في البشر والسلاح، فإن طبيعة الحدود وجغرافية المنطقة تجعل منها صالحة لكي تكون مختبرا لكل إيديولوجيات التطرف والإرهاب. ونظرا لتوفر المملكة على روابط دينية عميقة بين المغرب ودول الساحل، فقد عمل المغرب على تعزيز التعاون وتبادل الزيارات بين بعض الزوايا والطرق الصوفية التي لها امتدادات إفريقية كالزاوية التيجانية، ولقاءات سيدي شيكر، ولقاءات مريدي الطريقة التيجانية بفاس، بغية مواجهة نمو الفكر الديني المتطرف الذي يتخذ من صعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية ومن عدم الاستقرار السياسي وسيلة للانتشار والتغلغل في صفوف الشباب.

وفي هذا لإطار فقد وضع المغرب برنامجا تكوينيا لمئات الأئمة الأفارقة لنشر الإسلام الوسطي المعتدل ومحاربة التطرف، وهو ما جعل النموذج الديني المغربي يحتذى به، ولم تتردد دول إفريقية في طلب الاستفادة منه. هذا دون نسيان تخصيص المملكة ميزانية لبناء المساجد بكل من مالي والسنغال وغينيا وكوت ديفوار.. كما تم إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بحضور وفود 33 دولة إفريقية من أجل توحيد الجهود لمحاربة التطرف والإرهاب ونشر إسلام الوسطية والاعتدال.

إستراتيجية رابح- رابح مستقبل التنمية الإفريقية

إذا كان زعماء 28 بلدا عضوا في منظمة الاتحاد الإفريقي قد وجهوا عشية إعلان المغرب عودته إلى المنظمة ملتمسا إلى رئاسة الاتحاد من أجل تعليق عضوية البوليساريو في هياكل المنظمة، فذلك يعود إلى اقتناع أغلبية دول الاتحاد الثلاثة والخمسين بعدالة الموقف المغربي، وهم بذلك يشددون على الاصطفاف إلى جانب المغرب وإلى جانب الشرعية الدولية، مع الأخذ بعين الاعتبار إستراتيجية رابح- رابح.

فالمغرب اليوم لم يعد على ما كان عليه قبل ثلاثين سنة خلت، فقد أصبح أول مستثمر بدول إفريقيا الغربية والمستثمر الثاني، بعد جنوب إفريقيا، على المستوى القاري؛ حيث ارتفعت معدلات الاستثمارات المغربية في السنوات العشر الأخيرة بـ 45% في قطاع الفلاحة والاتصالات والصناعة والصيدلة والبنية التحتية في مجموعة لا بأس بها من الدول الإفريقية. كما أن المغرب حاضر بقوة في إفريقيا على المستوى البنكي والمالي من خلال العديد من الفروع البنكية الطامحة إلى خلق الثروة وتسهيل المعاملات. وهو بوابة إفريقيا لاستقطاب الاستثمارات العالمية من خلال موقعه الاستراتيجي وما يوفره من بنية تحتية وإطار قانوني ومؤسساتي قادر على احتضان أكبر المقاولات العالمية الراغبة في البحث عن فرص في الأسواق الإفريقية.

إضافة إلى ذلك، فالمغرب اليوم لم يعد ذلك البلد البعيد غير المعروف لدى المواطنين الأفارقة، فالشعوب الإفريقية، وعلى الرغم من كيد الخصوم وتشويشهم لصورته، تعلم جيدا قيمة المغرب في الماضي والحاضر والمستقبل. وزاد من سطوع نجمه في سماء إفريقيا تعامله بكل أريحية مع تدفق المهاجرين المنحدرين من جنوب الصحراء الراغبين في الهجرة نحو أوروبا؛ إذ احتضن شبابهم وأطفالهم ونساءهم فأصبح المغرب بحق بلدهم الثاني، وعمل على تسوية أوضاعهم القانونية واعترف لهم بكل الحقوق في إطار سياسة الهجرة المعتمدة على المقاربة الإنسانية، وهو نموذج آخر فريد في إفريقيا.

أضف إلى ذلك أن النخب الإفريقية تعرفت عن المغرب من الداخل وعن المغاربة عن قرب من خلال البعثات الطلابية، وانخراط الجامعات المغربية في تكوين الطلبة المنحدرين من دول جنوب الصحراء، جنبا إلى جنب مع زملائهم المغاربة في مختلف الميادين العلمية من دون أدنى تمييز أو مركب نقص.

لهذا، وبناء على ما سبق فحين يقول عاهل البلاد في رسالته إلى الحاضرين في المؤتمر 27 للاتحاد الإفريقي إن المغرب لم يغادر إفريقيا أبدا، فلأنه يعلم جيدا أن الأمر لا يتعلق بكلام مجاملة، بل بحقيقة وقناعة راسخة. وهي بذلك رسالة إلى خصوم المغرب وأعداء وحدته الترابية تخبرهم، بشكل واضح، بفشل خططهم في إحكام عزل المغرب عن جذوره الإفريقية، وتستشرف، على المديين القريب والمتوسط، إعادة الأمور إلى نصابها وإرجاع المنتظم الإفريقي إلى وضعه الطبيعي، يكون فيه المغرب، العضو المؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية، قاطرة لنهضة القارة وتنميتها وعضوا لا يمكن تجاوزه في اتخاذ القرارات التي تهم مستقبل القارة.