في كل مرة أعيد قراءة مسرحية “فاوست” لرائد الأدب العالمي، الشاعر الألماني “غوتة”، يستوقفني تَحسُّر فاوست ورثاؤه لحاله، حيث يرى أن “كل ما بذله من جهود مضنية في دراسة الفلسفة والقانون والطب، وللأسف حتى علم الأديان، ما زاد على أن أبقاه مسكينا أحمق كما كان من قبل”. غير أن ما استوقفني أكثر من كلام فاوست هذه المرة كان كلمة واحدة، ألا وهي كلمة “leider” في النص الأصلي، ومعناها “للأسف”. بهذه اللفظة يريد الأديب اللبيب غوته أن يقول، على لسان بطل مسرحيته، أن المرء لا يأسف لشيء قدر أسفه لعدم قدرة علم الأديان بالذات على تبليغ الإنسان مرتجاه من المعنى في هذا الوجود، ذلك أن هذا العلم، بالنظر لارتباطه بالدين، يفترض فيه أن يُمَثّل آخر معقل من معاقل صيانة المعنى وتحصينه ضد التلاشي والسقوط في قبضة العبث واللامعنى. وبانهيار هذا الحصن الأخير وإخفاق العقل في تَمثُّل الحكمة من وراء الوجود الإنساني، لم يعد يسع الإنسان التائه الحائر إلا الارتماء في حضن الشيطان والتعاقد معه؛ وهذا ما حصل بالفعل لـفاوست الذي انتهت به الحيرة وعدم إدراك المعنى إلى بيع روحه لإبليس مقابل أن يحصل منه على بعض المتع الفانية.
من يتأمل واقع العرب والمسلمين اليوم يجد أن حيرة فاوست قد حلت بأرضهم الثقافية والحضارية فأصبح عُسْرا على الإنسان في هذا الواقع طلب المعنى وفهم ما يجري من حوله من أحداث؛ حتى “العلم الشرعي”، الذي من المفترض أن يورث طالبه قدرا من الفهم واليقين، أصبح للأسف لا يقدم أجوبة شافية للسائلين. وكيف يساهم هذا العلم في تنوير الحائرين وتبصيرهم وقد صار لكل فئة “علمها الشرعي”، تلجأ إليه للتَّحْريب ضد الآخرين. تدل شواهد الواقع الكثيرة على أن مصطلح “العلم الشرعي” يكاد يفرغ من محتواه لفرط استدعائه في السجالات السياسية والمناوشات الحزبية والاستحقاقات الانتخابية والثورات الاجتماعية وقضايا الحرب والاستراتيجية، حتى صار المتكلمون باسمه يثبتون الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. وتجابهنا في السياق الأوروبي تحديدا حالات عديدة لشبان صاروا يطلبون العلم الشرعي وينقطعون عن علوم العصر، أملا في أن يجدوا في هذا العلم وسيلة يقتدرون معها على فهم الأشياء كما أرادهم الله عز وجل أن يفهموها؛ غير أن الواقع يثبت أن هذه الوسيلة تنتهي بالكثير منهم إلى خيانة غاية الدين العظمى، ألا وهي التقرب من الله تقربا يدفع عن الإنسان العابد آفات الاضطراب النفسي والقلق الوجودي. ولعله من المؤسف أن نرى أجيالا من الشباب لا يزيدها الإقبال على ما يعتبرونه هم “علما شرعيا” إلا قلقا وضنكا في العيش.
إن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المفارقة، كيف تحولت علوم الدين في يد بعض النخب المتحكمة في الخطاب الإسلامي المُصدَّر إلى أوروبا إلى مصدر يُورِّث القلق، عوض أن يُورِّث الاطمئنان والسكينة الروحيين. لقد انحرف مصطلح “العلم الشرعي” في عقول كثير من الشباب في السياق الأوروبي عن معناه الأصلي؛ فعوض أن يظل معناه منصرفا إلى العلم الإنساني الذي يعنى باستنباط الأحكام من القرآن والسنة، أصبح ينصرف، بمفهوم المخالفة، إلى الدلالة على ما هو نقيض “العلم غير الشرعي”؛ ثم بعدها حصل انزياح آخر في المعنى صرفه إلى الدلالة على “العلم المشروع” في مقابل “العلم غير المشروع”. ومع هذا الانزلاق في المعنى دخلت ثقافة الشباب المتدين في السياق الأوروبي عهد معارك، بل حروب المشروعية العلمية. فعوض تَمثل العلم الشرعي علما إنسانيا، علم مالك وعلم الشافعي وعلم بن حنبل وعلم أبي حنيفة وعلم بن حزم وغيرهم، علما ينتج عن تفاعل العقل الإنساني المتحيز في الزمان والمكان مع الوحي الرباني؛ صار هذا العلم يُتصوَّر علما ربانيا لا جدال معه؛ وهذا ما ضيق ساحة الخلاف وزج بعقول الشباب في مستنقعات الغلو والتطرف، وهو ما يساهم في قتل الروح التي وسعت للمذاهب في تاريخ المسلمين وأسست للاحترام بين أتباعها.
إن ما نشهده في الواقع الأوروبي من تعصب وغلو وتطرف في الدين يدل على انزياح خطير عن ثقافة الاختلاف التي أرسى دعائمها القرآن الكريم، وهي الثقافة التي ترى في الاختلاف مدعاة للتناظر والتحاور؛ انزياح باتجاه نزعة طائفية مقيتة تملي تحريم الانتساب إلى الرأي المخالف وتكفير أصحابه وتجريمهم وتبديعهم، وترى في الاختلاف مدعاة للتناحر والتقاتل. عند التحقيق نجد وراء هذا الانزياح تخليط واضح ولغط ظاهر حول ماهية العلم ومفاهيمه وقيمه.
عجبا، كيف يستوعر المنتسب إلى الإيمان بالله طريق العلم المنفتح على التَّعلُّم، ويستسهل طريق الاستكبار، فيقطع بين العلم والتعلم، وتتحول عنده “الإحاطة بشيء من العلم” إلى حجة على المخالفين، عوض أن تُنبهه هذه الإحاطة إلى وجود أبعاد خفية وتدعوه لتعلم أشياء أخرى. من يتأمل مسميات العلوم والفنون في تاريخ المسلمين يجدها تُعبِّر تعبيرا دقيقا عن روح الانفتاح التي كانت وراء نشوئها؛ فلفظة “مذهب” تحيل على الذهاب، ولفظة “طريقة” تحيل على الطريق، ولفظة “قصيدة” تحيل على القصد، ولفظة “نحو” تحيل على التوجه؛ كل هذه المفردات تفيد معاني السيرورة والحركة، كما تفيد الابتعاد عن الجمود والانجحار والانغلاق. لم يبدع المسلمون الأوائل في تفاعلهم مع لغة القرآن أنساقا مغلقة تشجع على الفكر الطائفي الذي صفته الاكتفاء.
ماذا دهى المسلمين حتى أصبحوا مضرب المثل في الانغلاق المشل! إن الفكر الطائفي المكتفي بما حُصِّل من “علم بالشيء” يدخل صاحبه في دائرة الجهل ويسد في وجهه منافذ التواصل بين المنتسبين للدين الواحد، فما بالك بالتواصل مع الأقوام الأخرى. فأنى لمن كان يُفسِّق ويُبدع ويُكفر المنتسبين إلى مذاهب مخالفة لمذهبه، وهم يتقاسمون معه الانتماء إلى نفس الدين، أنى له أن يستفيد من علوم الآخرين وفنونهم وتجاربهم وإرثهم الحكمي ومهاراتهم الصناعية والكسبية! ما أحوج المسلمين اليوم، خصوصا في السياق الأوروبي، حيث إمكانات الاستفادة من الثقافة العالمية كثيرة، إلى تَمثُّل صحيح لروح العلم.
فليس العلم إلا ما كان منفتحا على التعلم، وليس عالما من لم يكن متعلما في الوقت نفسه؛ إن الامتثال إلى هذه الروح قمين بأن يفتح “العلم الشرعي”، المحنط في أذهان الكثيرين، على علوم العصر، وأن يفتح “العلم بالشيء” على فضاء “الأشياء غير المعلومة”، وأن يوسع أفق الإدراك لدى الشباب المسلم كي يستوعب الاختلاف المذهبي والتعدد الحضاري والثقافي. ليس العلم، عند ذوي الألباب، مرتبة يبلغها المرء في سُلَّم التعلم، ولا الجهل منزلة يهبط إليها الإنسان لقلة علمه؛ بل العلم أساسا حالة شعورية، إيمانية، وروح تستحث الوعي على سبر أغوار “اللا-معلوم” طلبا لتوسيع آفاق الوجود حين تضيق أمام الأفراد والشعوب. وبهذا الوصف يكون العلم من أولى الأولويات التي يحتاجها العالم العربي والإسلامي اليوم، ويحتاجها الشباب المسلم في أوروبا خصوصا، للخروج من مضايق الفكر المتعصب.
وعليه فيجب التمييز بين ضربين من العلم، “علم حي”، منفتح على علوم العصر؛ وعلم يُورَّث كما يُورَّث الفلكلور (Folklore)، فلا يزيد عليه وارثه ولا ينقص منه شيئا. فقد كان العلم عند الأولين حيا، والدليل على ذلك أنهم لم يتوانوا في استعمال علوم الآلة التي توفرت في زمانهم، من منطق أرسطي وغيره، لتقعيد أكثر العلوم ارتباطا بدينهم وخصوصيتهم العقدية، وعلى رأسها أصول الفقه. فتأثير علم الآلة الأرسطي في رسم معالم الذهنية الأصولية أوضح من أن يخفى مثلا. غير أن المتأخرين أثبتوا عجزهم عن التفاعل مع علوم عصرهم وعلوم غيرهم، واكتفوا بترديد علوم المتقدمين وإعادة إنتاج خطابهم الديني إنتاجا يتحول معه علم الأوائل الحي إلى مجرد فلكلور يُحفَظ ويُردَّد بشكل آلي.
يحمل العلم الفلكلوري معاني مقررة بين أفراد الجماعة، معاني لا تخاطب الآخرين، بقدر ما تعكس تفاعل هؤلاء الأفراد مع بيئتهم الأصلية واستمرائهم التغني بهذا التفاعل. كثيرة هي الشواهد التي تجلي عجز العرب والمسلمين اليوم عن عرض علومهم الدينية والشرعية في ساحة العرض التي أصبحت تمثلها العولمة. فلنتخيل طالبا جامعيا أوروبيا أو يبانيا أو أمريكيا، يختار أن يدرس العلوم الإسلامية في إحدى الجامعات الإسلامية؛ فإن أول ما يواجه به هذا الطالب هو حديثا مكرورا عن تحري المسلمين الدقة في المناهج العلمية. يجلس ليصغي لمدرس علوم الحديث وهو يروي كيف أن أحد المحدثين واصل الليل بالنهار، يضرب إبط الإبل ليقطع مسافة طويلة كي يلتقي شخصا بلغه أنه يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لقيه وجده يوهم دابته بأنه يريد أن يطعمها، حتى إذا دنت منه الدابة، أمسك بها دون أن يعطيها شيئا، فكان ما رأى هذا المحدث من هذا الراوي مدعاة لأن لا يأخذ عنه الحديث؛ فلما سئل عن سبب عدم أخذه عنه الحديث بعد أن قطع كل هذه المسافة أجاب: “رجل يكذب على دابته، ما يدريني أنه لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم!”. أيعقل أن نقدم لطلبة متشبعين بروح العصر هذه الحكاية كمثال على دقة المناهج العلمية؟ إن هذا ما يقدم فعلا في داخل الجامعات والمعاهد الإسلامية كمثال على دقة المناهج العلمية.
إذا كان مقبولا ترديد هذا الكلام في الخطابات الوعظية الموجهة للعوام في المساجد ومجالس الذكر، فليس مقبولا أن يقدم لطلبة العلم شاهدا على دقة المنهج العلمي الذي ميز علوم الحديث؛ فهذا ما لا تستسيغه الذائقة العلمية الحديثة، ولا يتناسب مع ما وصل إليه الحس النقدي المعاصر. فقد يعترض معترض فيقول: ” وما يدريك أن سلوك هذا الرجل مع دابته هو نوع من الذكاء المقبول من الناحية الأخلاقية؛ وإلا فكيف يصنع المتخلق إن أراد اصطياد حيوان؛ ألا يبني له أفخاخا، ويلجأ لشتى الحيل حتى يوقعه في قبضته! وما أدرانا أن هذا الرجل، المتصرف بعفوية، أصدق من غيره من الرواة ممن كان سلوكهم الخارجي يظهر من الورع والصلاح ما لم تكن تستبطنه دواخلهم!”
هذا مثل من بين مئات الأمثلة التي يلزم تفادي الوقوف عندها في معرض الكلام عن دقة مناهج علم الحديث إذا أردنا تطوير هذا العلم وتقديمه في حلل جديدة تناسب روح العصر وترتقي بطلبة العلوم الشرعية في الجامعات إلى مستوى يضعهم في نفس المكانة التي يتمتع بها غيرهم من دارسي العلوم الأخرى؛ حيث إن المطلوب هو حالة وعي جديدة تؤهل الباحثين لفتح آفاق أمام علوم الشريعة، تفاديا للسقوط في أسر الوعي الفلكلوري، وسعيا للاستفادة من المناهج التي توفرها المنظومة العصرية. وإلا فلا عاصم لنا اليوم من الوقوع في الآفة التي وقع فيها من قبلنا من أهل الديانات الأخرى، آفة إقصاء الدين من الفضاء المشترك ومن الحياة العامة، وانزوائه في دائرة الخرافة والأمور الشخصية التي لا قبل لها بتدبير شؤون العباد والحفاظ على أمنهم الروحي في زمن العولمة.
لا شك في أن البشرية الحائرة اليوم في أمس الحاجة إلى تَديُّن يُرشِّد أفعالها ويدرأ عنها آفات القلق ويخرجها من مضايق العالم المادي إلى رحابة عوالم الروح؛ كما لا شك أن البشرية تتطلع إلى الدين الإسلامي بوصفه آخر الديانات كي تستشرف الإجابة عن أسئلتها الوجودية الكثيرة؛ لكن لا شك كذلك في أنه لا مندوحة للمسلمين عن رفع جاهزيتهم العقلية والحوارية إن أرادوا المساهمة برصيدهم الروحي الغني في تنوير هذه البشرية.