مرة أخرى لا يجد المحللون الأوروبيون من طريقة لفهم والتعليق على الأحداث الإرهابية التي تضرب المدن الأوروبية، والتي كان آخرها التفجيرات الإرهابية في مطار بروكسيل ومحطة الميترو مايلبيك، سوى شماعة الهجرة والمهاجرين، وتحميل المسلمين المسؤوليات الكاملة في كل ما يؤثر على الاستقرار والسير العادي للمجتمعات الأوروبية.
إن المتتبع لتحليلات عدد ممن تقدمهم وسائل الإعلام الفرنكفونية على أنهم متخصصون في الهجرة أو في المنطقة المغاربية، والذي تمت استضافتهم في استوديوهات القنوات التلفزية أو على صفحات الجرائد، للتعليق على هجمات بروكسيل الإرهابية، يلاحظ وجود نزوح واضح نحو ربط التطرف والعنف في بلجيكا وفرنسا، بشكل مباشر بالأصول المهاجرة لمرتكبي هذه الأعمال الإجرامية. ويتم التركيز تحديدا على الأصول المغاربية لعدد من المعتقلين، وهناك من “المؤرخين” من ذهبت اجتهاداته أكثر من ذلك فربط بين هذه السلوكات الإجرامية والأحداث التاريخية التي عاشتها المناطق التي ينحدر منها آباء وأجداد هؤلاء الشباب المتطرف.
هنالك فرضية يتم تداولها بشكل كبير في وسائل الإعلام ويزكيها اختيار المتخصصين الذين تتم محاورتهم. وتصر هذه الفرضية على إيجاد رابط علائقي rapport de causalité بين الشباب الذين قاموا بارتكاب الاعمال الإرهابية في بروكسيل أو في باريس، مع العلم أنهم ولدوا وترعرعوا ويحملون الجنسيات الأوروبية، وبين منطقة الريف، من حيث ينحدر آباؤهم، ومحاولة تبرير ذلك بتاريخ الصراعات السياسية لهذه المنطقة منذ القرن العشرين، والتي دفعت إلى هجرة الآلاف من الاشخاص إلى أوروبا؛ كما أن “هناك تضامن وتواطؤ بين مروجي المخدرات في الأحياء الهامشية للمدن الأوروبية المنحدرين من نفس المنطقة، وهذا في حد ذاته اتهام وتعميم، وبين شبكات بيع الأسلحة ونشر التطرف” !!
إن مجرد التفكير في الأمر يميط اللثام على بعض المغالطات التاريخية ويظهر عدم اطلاع المؤرخين على تاريخ الهجرة المغربية. إن الهجرة المغربية عموما وضمنها هجرة أبناء مناطق الريف نحو أوروبا بدأت منذ الحرب العالمية الثانية من خلال مشاركة المجندين المغاربة جنبا إلى جنب مع الجيوش الفرنسية والبلجيكية في مواجهة النازية والفاشية، ومساهمتهم في تحرير هذه الدول. وهكذا كانت مشاركتهم في معركة “جومبلو” حاسمة في ردع الجيش النازي ومنعه من كسب مناطق استراتيجية، ولعل مقابر الجنود المغاربة هناك مازالت شاهدة إلى اليوم على بطولات المغاربة ودعمهم لأوروبا، في وقت لم تكن قد اندملت بعد جراح حرب الريف واستعمال الغازات السامة لإطفاء المقاومة، فهل من المنطقي أن يقوم أحفاد هؤلاء المهاجرين بقتل من دافع أجدادهم عن حريتهم واستقلالهم؟
على صعيد آخر، فإنه من الجدير بهؤلاء المؤرخين الذين يريدون تعليق مشاكل أوروبا كيف ما كان نوعها على المهاجرين أو على الأصول المهاجرة لشباب الأوروبي المتطرف أن يطلعوا على الأدوار التي لعبها المهاجرون المغاربيون في النهضة الصناعية لعدد من الدول الأوروبية، فعلى سواعد الألاف من العمال والحرفيون المغاربة بنيت المنشآت والبنيات التحتية الأوروبية وبعرق جبينهم استخرجت أوروبا الفحم وطورت صناعتها الثقيلة و”الثلاثون المجيدة” بدورها شاهدة على ذلك، فهل من المنطقي أن يسعى أبناء هؤلاء المهاجرين إلى هدم ما أفنى آباؤهم أعمارهم في بنائه؟
إن المسؤول الأول عن انتشار الفكر المتطرف في صفوف الشباب المنحدر من الهجرة هو بالدرجة الأولى قبول بعض الدول الأوروبية وبلجيكا على الخصوص سياسة التدبير المفوض للمجال الديني لفائدة فكر متشدد مقابل الحصول على امتيازات في أسواق البيترودولار.
هذا التدبير المفوض الذي حصل بعد أزمة البيترول سنة1973 فتح المجال على مصراعيه أمام انتشار فكر لا يؤمن بالوسطية والاعتدال والعيش المشترك مثلما يحرص عليه النموذج الديني المغربي، وأعطى بذلك حق تكوين أساتذة التربية الإسلامية والتأطير الديني للأفراد، وكذا بناء المساجد بمبالغ خيالية، بل وقدم هدية سخية للفكر المتشدد ومكنه من نشر مبادئه في بناية ضخمة في أرقى أحياء بروكسيل
كما أن استعمال الدين لأغراض سياسية وفي الحروب دفع الناس إلى تبني الفكر الرائج في أواخر القرن العشرين، وهو الفكر التكفيري الداعي إلى القتال باسم الدين، كما كان عليه الشأن بالنسبة للحرب الأفغانية الروسية، حيث عمد الحلف الأطلسي إلى استخدام سلاح الدين في حربه الباردة على المعسكر الشرقي، مما فسح المجال أمام الفكر الجهادي وذهبت مجموعات كبيرة للجهاد ومن لم يذهب فقد تشبع بهذا الفكر. بالإضافة إلى ذلك فإن التواطؤ الإعلامي الغربي وإطلاقه ألقابا تمجيدية من صميم “مقاتلي الحرية” على المقاتلين الأفغان، أعطى في مرحلة أخرى طالبان وأسامة بن لادن.
إن الإصرار على الربط بين الإرهاب وهجرة المسلمين إلى اوروبا لا يمكنه إلا ان يزيد من الشعور بالتهميش والتمييز داخل المجتمعات الأوروبية، ويزيد من اتساع الهوة بين المواطنين الأوروبيين والآخرين القادمين من دول أخرى ومن ثقافات أخرى، وحتى بين الأوروبيين المنحدرين من أصول مهاجرة؛ في وقت يفترض فيه تكثيف الجهود والعمل بشكل مشترك بين جميع فئات المجتمع لتطويق الفكر الإقصائي والتكفيري المنتشر بشكل كثيف ومعقد يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالديني وبالتطور التكنولوجي، وتعزيز قيم التسامح والعيش المشترك واحترام الاختلاف وإدماج الآخر عوض شيطنته وإقصائه ونشر الصور النمطية عليه.