الجالية 24/ بدر أعـراب
بمُجـرد ما تَطأ قدم الزّائر تُراب جزيرة “المهندس”، المعروفة محليًّا بتسمية “ثايْزاثْ”، حتّى يرتطم بصره بعشراتِ الخِيام منصوبةً ومُتراصَّةً على طُول ضفتيْ وادِي “إغْزَار نْ بُوقَانَا”، في مشهدٍ يبعث من أوّل وهلة على الدّهشة والتّساؤل، عمّا إذا كانَ هذا المكان السّاحرُ والخلاّب، يضُمّ مُعسكراً أو ملجأً لإيواء المهاجرين الأفارقة أو شيئًا من هذا القبيل، بيدَ أنّه سُرعان ما سوف يتبدّى للزاّئر أنّه أمام أكبر تجمعٍ لهُوَّاةِ الصّيد بالقصبة ومُزاولي عِشقِ غِوايَتِها، بشرقِ المغرب.
.
فبُلوغ الضفّة الغربيّة لـ”إِغْزَارْ نْ بُوقَـانَا” الاِصطناعي، الذّي جرى حفرُ قعرهِ على عُمقٍ سحيق قبل أعوامٍ، حتّى تُلامس مياه البحر المتوسّط بُحيرة “مارتشيكا”، عبر فتحِ منفذٍ يفسح الحيِّز للتيّارات المائيّة لكي تُجدّد مياه بحيرة النّاظور السّاجية، يستلزم قطع ما يربُو عـن 20 كيلومتراً متواصلةً انطلاقاً من مركز قرية أركمان، عبر طريقٍ متربةٍ ومُتحجرة تقفُ حائلاً أمام الراغبين في زيارة “إغـزار” للاِستمتاع بمناظر طبيعية بانوراميّة آسرة، لكنّها ليستْ كذلك بالنسبة لِرُقعةٍ واسعة من الذّين تستهويهم هواية الصّيد بالقصبة.
.
جريدة “وان نيوز”، غَـداةَ قيامها بزيارة ميدانية لجزيرة “المهندس” القصيّة عن مركز حاضرة النّاظور بحوالي 35 كيلومترا، حيث قضت ليلةً بيضاء بين أرجائها، اِلتقت عدداً من المتوافدين على وادي “بوقانا” بنيّة مُمارسة هواية الصّيد، ومعظمهم قادمون من مختلف مدن الشرق. من هؤلاء عبد النبيّ الذّي تحمّل عبءَ السّفر من عاصمة البرتقال (بركان)، لكي يحلّ في ساعة مُبكرة تُزامن وقتَ الذّروة لاِنتعاش مياه “إغزار” ووفرة الأسماك، قال للجريدة إنّهُ وزملاءَه المرافقين لـه، لهم عهدٌ قديم بالوادي، مردفاً أنّ لا موضعَ آخر يستهوي الصيّاد بمنطقة الشّرق أكثرَ من الجزيرة المُطلّة على بحريْن، بحيث باتت وجهةً تستقطب هوّاة الصيد من مختلف الأعمار ومن شتّى البلدات الضاحوية.
.
محمد الطيّبي، تاجرٌ من النّاظور، هُـو الآخر واحدٌ من المُفتتنين بمُزاولة الصيد في الوادي المُمتّد على طول أزيد من نصف كيلومتر بين البحر المتوسط وبحيرة “مارتشيكا”، وأثناء مرافقته للجريدة إبّان رحلتها إلى عين المكان، شرح كيف أنّ البُحيرة لم تعُد تجود كما في السّابق على البحّارة من أرباب مراكب الصيد التقليدي بأسماكٍ وفيرة، فضلاً عن أنْ تمُنَّ بها على محترفي الصيد بواسطة القصبة. فنُدرتها تُجبر أغلب هـؤلاء على اللّجوء إلى “إغزارْ”، باعتباره منفذًا بالنسبة لأصنافٍ عديدة من الأسماك والحيتان، لا منفذا تتنفّس عبر شريانه الحيويّ البُحيرة فحسب.
.
مبيّنًا كيف تتسرّب أسماكَ متنوّعة من أحجام صغيرة ومتوسّطة، من البحر المتوّسط عبر الوادي إلى البحيرة متخذةً إيّاهـا حاضنة آمنة للتكاثر ووضع البيض، كما أنّ تميّز مياهها الدافئة يجعلها قبلةً للأسماك التي تلجأ إليها خلال فصل الشتاء للتنعّم بهذا الدّفء، وهو مّا يُغري الأسماك ذات الأحجام الكبيرة بحيث تترصد لها عند المنفذ البحري للاِقتيات عليها. وادي “بوقانا” يعرف إذاً حركة دؤوبة وغير اعتيادية لشتّى أنواع الأحياء البحرية، وهذه الحركة يستغلها الصيّادون للتحصّل على محصولٍ سمكيّ وفير، يردف مرافقُنا.
.
أمّـا “خاري عْمَارْ” الذي يَبدو من ملامِحِ سُحنتهِ التي اِكتسبت سُمرة داكنة بفعل لفحات الشّمس، أنّه شارف على الستّين، والمعروف لدى الوافدين القدامى على الوادي بـ”الرّايس” كما يحلو للجميع مناداته؛ فحكاية هذا الرّجل مع “إغزار” جدّ مشوّقة ولا يمكن إغفال ذِكر أطوارها، إذ غالبا ما تُلقى على مسامع كل زائر ومرتادٍ للمكان لأول مرّة، كما تلوكها ها هُنا الألسُن بغير قليل من الشّغف والاِنبهار، مما جلب له الوقار من جميع المتحلقين حوله، إذْ قادنا مرافق الجريدة إلى بطلها الذي استضافنا داخل خيمته المنصوبة بجوار الوادي على مرمى أمتار، وقام لتوّه بتحضير براد شايٍّ منعنع ترحاباً بموفد الجريدة، مثلما جرت العادة مع سائر ضُيوفه.
.
يحكي “خالي عْمارْ”، كيف اِرتبطتْ سيرته بـ”بوقانا”، هـذا الوادي الذي أضحى يشكل مصدر رزقه الوحيد الذي يدّر عليه دخلاً بالكاد يكفي لإعالة أسرته التي لا يزورها إلاّ لِماماً، مسترسلاً أنه ما يزال على حالته هذه منذ أعوام خلت، بعدما جعل من جنبات “إغزار”، حيث نصب خيمةً صغيرة بيته البديل الذي يأوي إليه ويزاول منه مهنته، إذ ليس له مهنة أخرى غير الصيد بالقصبة تدفعه إلى التفكير في مبارحة مكانه، يُوضح.
.
فـ”أنا مُعتادٌ على العيش بأرجاء “بوقانا” منذ زمنٍ بعيد، وتحديداً منذ أُصبتُ بلوثة إدمان غواية الصيد، حتى أصبح لديّ شعورٌ بكونها مسقط القلب، لـذا ليس لمكانها معي فكاك”، يردفُ المتحدّث بابتسامة طافحة على محياه، قبل أنْ يسترسل حديثه “لستُ أشعرُ بالوحدة والعزلة هُنا، فلِلمكان أُلفة عجيبة تشدّك إليه، كما أنّ جنباته لا تكاد تخلو من المرتادين ليل نهار، إذ لم يسبق لي أن بقيتُ بمفردي في هذا المُستقّر الذي يُخيّم عليه صمتٌ مطبق، دون رِفقة مؤنسة.
.
“وحتّى عندما أظلُّ أحيانا وحيداً بين هذه العتمة المُحاطة بي من كلّ جانب، والتّي لا ينقشع ضبابها الحالك سوى بضياءِ نجوم اللّيل المُشعّة في كبد السّماء، فإنّي أعانق البحر الذي أسكنه ويسكنني، إذ أناجيه تارةً، وأنازع ما في أحشائه تارة أخرى، وعندما تتبدّد وِحشة المكان أصوِّبُ نحو أغواره سِهام قصباتي لمصارعة وُحوشه التي أجد ضالتي في نِزالها، فهي الأخرى صارت تعرف من يكون خاري عمار فقد خبرتني كما خبرتها” يستطرد “خاري عمار” قبل أن ينهض فجأةً مسرعاً نحو إحدى قصباته بعدما قرع وحشٌ من وحوش البحر جرسها إيذاناً بدخوله في جولةٍ من جولات نزالٍ ساخن لا ينتهي، يُخاض بأسلحةٍ مشروعة، من البرّ في البحر.