تقف هذه السلسلة من الحوارات ، كل أسبوع، مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية، في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه، وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته، وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الأسبوع الروائي مصطفى الحمداوي المقيم بهولاندا
(1) كيف تعرف نفسك للقراء في سطرين؟
مصطفى الحمداوي مغربي مقيم بهولندا، من مواليد مدينة دريوش بتاريخ: 19_09_1969. انقطعتُ عن الدراسة مبكرا، وكونت نفسي بنفسي من خلال القراءة في كل المجالات، وجذبني هوس الأدب والإبداع منذ الطفولة.
(2) ماذا تقرأ الآن وما هو اجمل كتاب قرأته؟
بدأتُ قراءة رواية: “سالامبو” للكاتب الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير.. أعود مجددا لقراءة الأدب الكلاسيكي الفرنسي. أما عن أجمل كتاب قرأتهُ، فالأمر هنا يتعلق بمجموعة كتب قرأتها بشغف، وخلال فترات متفرقة من حياتي، ولم أستطع نسيان هذه الكتب مطلقاً، ويصعب علي الاختيار بينها، وإذا كان لابد أن أفعل، فسأختار رواية: “خريف البطريَرك” لغابرييل غارسيا ماركيز.
(3) متى بدأت الكتابة ولماذا تكتب؟
حدث ذلك في اللحظة التي أحسستُ فيها أنني أكتبُ شيئا نابعاً من إلهام ما.. وبدافع لم استطع مقاومتهُ.. لكنني لن أستطيع بالتأكيد تذكر التاريخ، كنتُ وقتها طفلاً.
(4) ماهي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين الى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
*إنها مدينة دريوش، مدينة الدراسة الأولى، والشغب الأول، والنزق الأول، وربما الحب الطفولي البريء الأول.. يشدني الحنين إلى هذه المدينة الساحرة.. بأمكنتها.. بشخوصها.. بالهالة الغرائبية التي تحيطها.. أنا مهووس بهذه المدينة.. ومهووس أكثر بأساطيرها الخفية التي لا يمكن قراءتها إلا بحس خاص، وبإدراك خاص، وبرؤية خاصة.. دريوش مدينة تشكل بالنسبة لي عالما كبيراً يضج بالقصص والحكايات المبهرة. إنها مدينة تعج بالمتناقضات.. مدينة أحملها في حقيبتي وذاكرتي أينما حللتُ وارتحلت.. ربما من حسن حظي انني قرأتُ المدينة بوجهة نظر ومن زاوايا متعددة، وما زلتُ أعيشها في كل تفاصيل حياتي.. وأجدها تقتحم علي إقامتي الطويلة في هولندا، تؤنسني، وتمارس معي غواية عشق متبادل لن ينتهي بالتأكيد.
(5) هل انت راض على انتاجاتك وماهي اعمالك المقبلة؟
لا، أكيد لستُ راضٍ على كتاباتي، عندما أتوصلُ إلى تلك القناعة، ينبغي أن أكف عن الكتابة فوراً، الكاتب داخلي طموح.. وغير قنوع، ولا يقبل بنصف الحلول.. النجاح بالنسبة لي شأن مصيري، ويتعلق بمشروع كبير وطويل الأمد، وهذا هو ما أفعلهُ بالذات.. أواصل بناء مشروعي الروائي بكل الهدوء والتبصر والصبر المطلوب. بدأتُ كتابة رواية جديدة، ما زلتُ في البدايات.. أرجو أن يكون حظها من النجاح أكثر من سابقاتها.
(6) متى ستحرق اوراقك الابداعية وتعتزل الكتابة بشكل نهائي؟
لن أفعل أبداً، إنه انتحار سيء، لستُ أحمقَ لأحرق أوقاتي وساعات تفكيري الطويلة، وأهجر الابداع والكتابة.. لن يكون ذلك شيئا لطيفاً بالمرة! سأحتفظ بكامل أوراقي، كما سأحتفظ على الدوام بالحرف نابضا بالحياة؛ لخلق العوالم التي تشدني وتستدعيني لأكتبها.
(7) ماهو العمل الذي تمنيت ان تكون كاتبه وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
قد تبدو إجابتي غير منطقية، وربما تنطوي على الكثير من الجنون، ولكن الكتاب الذي تمنيتُ لو كنتُ أنا من كتبهُ هو كتاب “ألف ليلة وليلة”، مع الاحتفاظ لنفسي بحرية إجراء تعديلات جوهرية عليه. اسمعُ الكثير من الكتاب يتحدثون عن طقوس خاصة بالكتابة، أستغرب، لأنني أجد نفسي، بكاملي، طقساً داخل الكتابة، ولا أشعرُ مطلقاً بأنني مقيد بوقت أو بمزاج أو بشروط تملي علي نفسها لتفسحَ لي المجال لأكتب.. أكتب من داخل الحرية.. لأكتب الحرية.. وليكون في النهاية محتوى ما أكتب، هو الحرية.
(8) ماهو تقييمك للوضع الثقافي الحالي بالمغرب؟
يصعب التقييم، ولكن رغم النظرة التشاؤمية، ورغم عدم الاجماع حول مشروع ثقافي قائم بذاته في المغرب، إلا أنني أجد أن هناك حماسا للثقافة بمختلف تجلياتها، لدينا مسرح، ولدينا سينما، ولدينا أدب ولدينا موسيقى، ولدينا فنون تشكيلية، ولدينا جمهور.. لكن في المقابل، ورغم كل هذا، نطمح إلى الأفضل دائما. الوضع الحالي شبه مستقر، لا يتطور تقريباً، ولإنعاش الوضع الثقافي في البلاد، لا بد من إعادة النظر في كيفية تعامل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية مع المادة الثقافية، والاستثمار المكثف في الثقافة باعتبارها منتجاً قابلا للتسويق بأفضل الطرق الممكنة. دور المثقف أن ينبه إلى الانحرافات والاختلالات سواء داخل المجتمع أو في المنظومة الدينية التقليدية، أو في مجال السياسة الطافح بالكثير من التشوهات، ولكن في نهاية الأمر المثقف مجرد محرض للضمير الجماعي، إنه لا يملك آليات لتغيير وضع غير سوي مثلاً، ولكنه يستطيع الاشارة لمثل هذا الوضع من خلال كتاباته.
(9) ماذا يعني لك العيش في عزلة اجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد ام حرية بالنسبة للكاتب؟
الحرية والعزلة والخلوة.. إنها مفاهيم عائمة، لكل واحد منا تصوره ومفهومه الخاص لها.. شخصياً أرى في العزلة حرية، ومنها استطيع الاختلاء بنفسي وتفكيك الكثير من القناعات وإعادة بنائها وفق رؤية يحتمها الوضع وكثافة الأحداث المحيطة بنا. بالنسبة لي منع ومنح الحرية ليس معناه البقاء في المنزل لأسباب تقتضيها الضرورة، بل الحرية هي ذلك الشعور بأنني استطيع فعل ما أريد وفق رقابة طوعية، والتعبير عما أريد، ولو من خلال الحلم أو الكتابة.. وفي النهاية كل شخص منا يحدد بنفسه هل هو مقيد أم حر.. وهذا يحدث فقط عبر محطات تأمل جادة للكيفية التي نرغب من خلالها في ممارسة حياتنا.
(10) شخصية من الماضي ترغب لقاءها ولماذا؟
الشاعر المتنبي، فيلسوف في شعره.. أعتبرهُ أفضل من قال شعراً بالعربية.
(11) ماذا كنت ستغير في حياتك لو اتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لستُ من الذين ينظرون إلى الماضي باستمرار، أنظر دائما إلى الأمام، مع الاحتفاظ بحرية تحريك العينين في كل الاتجاهات. لا أتصورني إلا كما كنتُ دائماً، وكما يجب أن أكون في المستقبل.. وفق مخططات ورغبات قد أحقق منها كثيراً أو قليلاً.. لا يهم..
(12) الكاتب مصطفى الحمداوي من بين الكتاب المغاربة المتوجين بالعديد من الجوائز الدولية من بينها: جائزة الفجيرة للموندراما وجائزة الشارقة للإبداع العربي وجائزة الهجرة بأمستردام، وجائزة كاتارا للرواية العربية. الى اي مدى ساعدتك هذه التتويجات على صناعة اسمك بين الروائين المغاربة الاكثر شهرة خارجيا بمقابل تجاهل مريب من اغلب الفاعلين الثقافيين المحليين وهل فعلا مطرب الحي لايطرب؟
ربما، بسبب الحظ والاجتهاد، استطعتُ الحصول على بعض الجوائز، وأنا سعيد بها، وسأظل فخوراً بها.. وبالطبع الجوائز، وقبل أن تعطيك إسماً، فهي تعطيك الحافز الأكبر للكتابة ومواصلة الابداع بوتيرة جادة وأكثر حرفية. لستُ ممن يعيرون اهتماما زائداً بشأن التجاهل ونظرية مطرب الحي لا يطرب، أعتقد أن كل ذلك هامشي للغاية، بالتأكيد ستشعر بالفخر والسعادة بأي احتفاء من ذوي القربى ومن غير ذوي القربى، ولكن عدم حدوث ذلك مثلاً لا يعني الكثير.. وبالمناسبة انني أشعر بأشخاص وأناس يحملون لي كل التقدير والمودة، وأبادلهم الشعور نفسه، ولا أحمل في نفسي عتاباً لأحد ولا لأي جهة من الجهات.. حتى في حالة وجود اختلاف في وجهات النظر.
(13) ماهي أوجه الاتفاق وماهي أوجه الاختلاف بين مصطفى الحمداوي وباقي الكتاب المغاربة في هولندا امثال عبد القادر بنعلي حفيظ بوعزة وعزيز اينان….؟
هولندا تزخر بكتاب مغاربة كبار بصموا على صيت دولي، وهذا شيء يبهج القلب. ولعل الملفت للانتباه أن المغربي يستطيع الابداع بلغات مختلفة، ويحوز، باستمرار، على إعترافات دولية.. تجربة عبد القادر بنعلي مثيرة للانتباه، إنه شخصية فذة.. إنه عبقري، ولا ننسى التجارب المبهرة لحفيظ بوعزة والشاعر مصطفى ستيتو، وعزيز اينان، وفؤاد العروي؛ الذي يشتغلُ أستاذاً في إحدى الجامعات الهولندية المرموقة، ولكنهُ يكتب بالفرنسية، وسبق لهُ الفوز بجائزة الغونكور صنف المجموعة القصصية.. وأسماء أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.. وفي مثل هذه الحالة، يصعب الحديث عن أي اختلاف، لأن الابداع هو نفسه لغة.. لغة إنسانية تصل وجدان وفكر كل إنسان، بغض النظر عن الوعاء الذي يُقدم به هذا الابداع، واللغة التي يُكتب بها. وبالمحصلة، ليس هناك أي اختلاف!
(14) سؤال الهوية الامازيغية يحضر وتستحضره في العديد من اعمالك خاصة في رواية ظل الاميرة.كيف يعيش الكاتب المغترب هذا الانسلاخ وهذا الفطام القسري عن وطنه وجذوره وما مدى تأثير ذلك في ممارسة فعل الكتابة؟
كما قلتُ سابقاً، مفهوم الهوية غير محدد، وفي حالات كثيرة نجد أنفسنا أمام خلل في تعريف هذا المفهوم بالدقة المطلوبة.. هناك من يرى أن المرجعية الدينية هي المحدد الأساس للهوية، وهناك من يرى أن المرجعية اللغوية هي المحدد الأساس للهوية، وهناك من يرى أن المرجعية الاثنية أو العرقية هي المحدد الأساس للهوية، ولكن في النهاية نشعر تلقائيا بهوية ما.. إلا أنني أرى، ومن وجهة نظر خاصة، أن الهوية ستصبح أكثر فأكثر مسألة فردية، على شرط الايمان بالقيم الكونية الجامعة، وعدم الخروج عن الأخلاقيات والثوابت المتفق عليها.. وبعد ذلك وكما أصبح انتفاء القبلية والعشائرية ضرورة ملحة، فإن سؤال الهوية، وفي ظل تشبع الفرد بقيم سامية وعالمية، لن يصبح سؤالا مؤرقاً، ولن يشكل مصدر إزعاج أو سبب عدم اندماج فرد ما، ضمن مجموعة أخرى قد تختلف عما ألفه وتعود عليه. عالم الغد هو عالم ينبغي للكل أن يحترم فيه خصوصيات الآخر، ضمن عولمة هوياتية إيجابية تضيف للمجتمعات، ولا تشكل مصدرا لأي خلل كما نرى في الكثير من الأمثلة الحية، التي تحدث في وقتنا الحالي في بلدان كثيرة.. مع الأسف!
(15) هل التفرغ للكتابة ساعدك على شحذ ادوات انشغالك الابداعي اكثر؟ والى اي حد شكلت العصامية دافعا وحافزا للمثابرة والبحث من اجل الوصول الى مكانتك المرموقة حاليا في مجال الكتابة والابداع؟
لا شك في أن التفرغ للكتابة والقراءة وضعا أمامي هامشا كافيا لأشتغل على مشروعي الابداعي بحرية وبأريحية أكثر. ثم ان الجانب الايجابي في العصامية، هو أنك تشكل وعيك بعيداً عن القوالب المؤسساتية، وبالتالي تُتاح لك الفرصة لتفكر على نحو غير مُوجه، وبحرية تتأتى لكَ تلقائيا لأنك لا تخضع لرقابة من أي جهة على طريقة تفكيرك أو كتاباتك.. ولكن هذا لا يعني الاستغناء عن المدرسة، المدرسة ضرورية وحاسمة، إلا أن مسؤولية التلميذ تبقى في الكيفية التي يستطيع، من خلالها، تعليم نفسه أكثر فأكثر خارج أسوار المدرسة، وخارج الصندوق المؤسساتي للمدرسة.
(16) كتاباتك يطغى عليها طابع الواقعية السحرية بشكل كبير .كيف اهتديت الى هذا الاسلوب الجميل في الكتابة؟
قرأتُ كثيراً لكتاب أمريكا الجنوبية، خصوصا رواد مدرسة الواقعية السحرية، أعجبت بهذه المدرسة لأنني وجدتها قريبة من واقعنا المغربي والعربي، كل العناصر المكونة للمدرسة الواقعية السحرية موجودة في تراثنا المكتوب أو الشفهي، ولكنني لاحظت اننا، وفي تجربة الرواية العربية، لا نكاد نجد روايات تحمل هذه الصبغة، وبغير أن أفكر، أو أن أقرر مسبقاً، وَجَدتني أكتب بنمط الواقعية السحرية.. ويبدو انني وُفقت لأن روايتي “ظل الأميرة” الطافحة بهذا الأسلوب الغرائبي والسحري في الكتابة، فازت بجائزة كتارا.
(17) اجمل واسوء ذكرى في حياتك؟
أجمل ذكرى عندما تلقيتُ مكالمة بعد مشاركتي في جائزة كتارا للرواية العربية، وكنتُ قد نسيتُ أمر الجائزة على نحو نهائي، ولم تعد تشغلني لأنني اعتقدت انهم حسموا في أمرها. أما أسوأ ذكرى فهي عندما تلقيتُ، بعد تسلمي لجائزة كتارا للرواية العربية في الدوحة بخمسة أيام، مكالمة من صديق يخبرني فيها بوفاة والدتي تغمدها الله برحمته الواسعة.
(18) كلمة اخيرة او شئ ترغب الحديث عنه؟
أرغب في أن اشكرك شكراً جزيلاً، أولا لطرحك أسئلة ذكية وعميقة، وثانيا لقدرتك على إخراج الكثير من الأشياء التي قد لا يعرفها بعضهم عني وعن شخصيتي وكل ما يتعلق بي. وأخيراً أظل وفيا للقارئ، بكل أنواعه، القارئ الداعم بلا شرط أو قيد، القارئ الناقد الحاذق، القارئ المنتقد بذكاء وحدة.. كلهم يضيفون شيئا لتجربتي، كلهم أقدرهم وأحترمهم.. وأشعر دائماً بدفء وجودهم حولي.