الجالية24/ الأستاذ سفيان غنو
سيرا على نهج أجدادنا وحفاظا على مورثونا الثقافي من الاندثار، ولِما تحمله هذه المحطة التاريخية من دلالات وقيم رمزية مترسخة في ذهنية المخيال الجماعي للإنسان الأمازيغي، تمكنت ساكنة “شبذان” من تخليد السنة الأمازيغية الجديدة 2970 بالمركز السوسيو تربوي بأركمان عبر برنامج متنوع وغني يعكس تنوع وغنى الثقافة الأمازيغية الضاربة في عمق التاريخ، وقد ظم هذا البرنامج بين طياته عددا من الفقرات تمثلت في رواق للكتاب ومعرض لملصقات ولوحات فنية وورشة تعليم أبجديات لغة “الزاي” تيفيناغ لفائدة الأطفال، وقد تخلل هذا الحدث فقرات غنائية ملتزمة ومشاهد مسرحية راقية وتوزيع مطويات تعريفية على الزوار الذين حجو من مختلف مداشر “شبذان” ونواحي الناظور وحتى من خارج الاقليم للمشاركة في تخليد هذا الحدث التاريخي الهام، وما يميز هذا العام هو ذلك الحضور غير المعهود من الأمهات وأبنائهن والأباء وشباب من فئات عمرية متباينة.. فهذا إن دل على شئ فهو يدل على تنامي الوعي بالثقافة الأمازيغية وتاريخنا العريق وبالتالي فهو مؤشر إيجابي على تصالحنا مع ذواتنا وماضينا العريق وذاكرتنا التاريخية.
تختلف تسمية هذه المحطة من رواية تاريخية إلى أخرى، كما تختلف تسميتها من منطقة لأخرى من داخل شمال افريقيا، وهذا يعود بالأساس إلى زيف التاريخ الرسمي لشمال افريقيا عامة، حيث تذهب الرواية الرسمية إلى تسمية هذه السنة ب “السنة الفلاحية” من خلال ادعائها أن هذا اليوم يوافق تحول النمطين الشمسيين هما، الانقلاب الشمسي الشتوي أو الصيفي والاعتدال الربيعي أو الخريفي، وهي الفترات التي توافق انطلاق جملة من الأعمال الزراعية والفلاحية في منطقة تامازغا، لهذا كان الأمازيغ يعتقدون أن 13 يناير مناسبة لتجديد القوى الروحية للأرض من خلال ممارسة بعض الطقوس يرجى منها إبعاد شبح الجوع والتماس أسباب الخير والسعادة التي لا تكون بالنسبة للإنسان الأمازيغي إلا بوفرة المحاصيل، فبداية هذا العام تشكل نهاية وخاتمة للمؤونة الماضية أو بداية التحضير للمحصول القادم. فلو أخذنا بهذه الرواية واعتبرنا هذه التسمية صحيحة، لماذا يعود تأريخ هذا الحدث إلى سنة 950 قبل الميلاد؟ هل حدث تغير وتحول مناخي في شمال افريقيا في سنة 950 ق.م؟ لنفترض جدلا بحدوث تغير مناخي معين، لماذا اختصر هذا التحول المناخي على منطقة شمال افريقيا وحدها؟ مع العلم أن المناخ السائد حاليا هو نفس المناخ الذي يسود جنوب كل أوروبا؟ ولماذا لم يحدث تحول مناخي في دول جنوب الصحراء؟ إذن هذا الإدعاء باطل وهذه التسمية لا أساس لها من العلمية والموضوعية التي من الممكن أن تسمي التسميات بمسمياتها الحقيقية وبكل ما تحمله من معاني ودلالات في تاريخ الشعب الأمازيغي ومخياله القيمي والأنتروبولوجي والميثولوجي.
قبل الحديث عن طبيعة المأكولات والوصفات التي يعدها سكان شمال افريقيا خصيصا لهذا اليوم لا بد من الوقوف على الحدث التاريخي الذي تعود إليه هذه المناسبة، والتي تؤرخ لهذا التقويم الأمازيغي، حتى نربط طبيعة هذه الوصفات والمأكولات التي تحضر في هذه المناسبة بدلالاتها التاريخية والثقافية الرمزية بما تعنيه في ذاكرة الانسان الأمازيغي، فالكل يعلم أن الحدث يعود إلى اعتلاء الأمازيغ عشر الفراعنة سنة 950 ق.م، إلا أنه هناك روايتين تاريخيتين لكيفية وصول الأمازيغ اعتلاء عشر الفراعنة، الأولى تقول أن شيشنق أو شيشونغ هو الحفيد الثالث للأسرة الأمازيغية الليبية بويوواوا التي انتقلت للعيش في الدلتا المصرية سنة 1227 ق.م في فترة حكم الملك الفرعوني مينبتاخ وكان والد شيشونغ كاهنا في أشهر معبد في مصر، وأن وصوله إلى اعتلاء عشر الفراعنة كان بطريقة سلمية عن طريق الترقي في المناصب السياسية والعسكرية بدون أي حرب بين الأمازيغ والفراعنة، والرواية التاريخية الثانية تقول أن شيشونغ وصل إلى عرش الفراعنة بعد حرب دار بين الأمازيغ بقيادة الزعيم الأمازيغي شيشونغ من أصول ليبية “قبيلة المشواش” والفراعنة، فعلميا وموضوعيا أعتبر الرواية الثانية هي الأرجح والأقرب للصواب، لأنه لو كان شيشونغ اعتلى عرش الفراعنة بطريقة سلمية لما كان سيشكل هذا الحدث أي نصر عند الأمازيغ ولما كان يخلد مع مرور كل سنة من سكان شمال افريقيا، والروايات التاريخية تذكر أن وصول الزعيم الأمازيغي شيشونغ إلى عرش الفراعنة لم يتأتى إلى بعد حروب عمرت طويلا بين الأمازيغ والفراعنة وبالتحديد في عهد الأسرة الواحد والعشرون التي كان يقودها الملك الفرعوني ” رمسيس الثالث” والمعركة التي تؤرخ لهذا الحدث التاريخي دارت رحاها في منطقة “بني سنوس” قرب تلمسان الجزائر، حيث يقام سنويا وإلى حد الآن “كرنفال إيرار” والذي يعني الأسد، وذلك تكريما واستحضارا لأمجاد ولقوة ملك “شيشنق” وسلطانه، كما توثق إلى حد الآن النقوش التاريخية المحفورة على عدد من الأعمدة في معبد “الكرنك” في مدينة الأقصر بمصر لهذا النصر العسكري وتتحدث تلك الآثار بالتفصيل عن الأسرة الأمازيغية الثانية والعشرين التي حكمت مصر منذ سنة 950 ق.م ودام حكم شيشونغ 21 سنة، وحكمت أسرته المكونة من 9 ملوك من فترة 950 إلى 817 ق.م.
الحرب الطويلة التي عمرت لسنين بين الأمازيغ والفراعنة، كانت بسبب هجمات وتمردات تنظمها الجيوس الفرعونية على الأراضي الأمازيغية، وذلك باجتياح أراضيهم التي كان يمارسون عليها أعمالهم الفلاحية وأنشطتهم الزراعية من الحرث و الغرس وتربية المواشي وغيرها، وهكذا يقوم الفراعنة بإتلاف هذه المحاصيل وأخذ ما يحتاجون منها إلى بلادهم وبالتالي يترك الأمازيغ بدون هذه الغلة التي ينتزعها منهم الفراعنة بقوة جيوشهم، وأكثر من ذلك لم يكن الفراعنة يأخذون الغلة التي تنتجها هذه الأرض من الحبوب والقطاني والخضر والفواكه والمواشي بل كانوا يأخذون معهم حتى البشر لكي يستخدموهم كعبيد لديهم، لذلك كانت الحرب كما تذكرنا بعض الروايات التاريخية مثل أحاديث هيرودوت حول الليبيين مفتوحة بين الطرفين، انهزم فيها الأمازيغ عده مرات، وهذا ما جعل الأمازيغ يوحدو صفوفهم بقيادة الزعيم الأمازيغي “شيشنق” من أجل إعادة الاعتبار لأنفسهم وكرامتهم ولأرضهم وهويتهم، وبالفعل تمكنوا من الانتصار على الفراعنة بعد حروب دامت لسنين، وبالتالي بقي هذا الحدث موشوم في ذاكرة الإنسان الأمازيغي، ونظرا لما يحمله هذا الحدث التاريخي البارز في تاريخ إمازيغن، سيتخذ هذا اليوم كبداية للتقويم الأمازيغي وذلك احتفالا باسترجاع كرامتهم أولا ثم احتفالا باسترجاع أرضهم وكل ما كانت تنتجه من المحاصيل والتي من خلالها تستمد هذه الوصفات والمأكولات التي تقوم الأسر بتحضيرها في هذا اليوم من كل سنة رمزيتها، وتخليدا كذلك لدماء الشهداء الذين سقطوا في أرض المعركة دفاعا عن كرامتهم وأرضهم التي تعتبر لدى إمازيغن رمزا للهوية والعطاء والخصوبة.
ليكن في علم القارئ أن الأمازيغ عند اعتلائهم عرش الفراعنة سنة 950 ق.م وذلك بتأسيس الأسرة 22 بقيادة الملك الأمازيغي “شيشنق” وواصلت أسرته الحكم لأزيد من قرنين من الزمن، ونقلوا عاصمة البلاد اٍلى ( تانيس) لم يكونوا أبدا مستعمرين لمصر بل انصهروا في الدولة الفرعونية وحكموها باسمها وليس باسم الدولة الأمازيغية في مصر، وهكذا فالإنجازات التي حققوها تحسب للفراعنة المصريين بقيادة الأسرة الحاكمة الأمازيغية، وتعتبر انجازات الملك الأمازيغي العسكرية ذات أهمية كبيرة لفائدة مصر أنذاك، إذ تمكن من توحيد البلاد وكسب ود الشعب المصري بالحفاظ على موروثهم الحضاري ومعتقدهم الديني، وتمكن من تغيير الكثير من مناحي الحياة أيام حكمه، حيث استطاع أن يتصدى ويقهر التمردات التي كانت تأتي في أيام الأسرة 21 من أورشليم/فلسطين والحبشة واليمن.
احتفال الأمازيغ عموما بهذه المناسبة يدل عن مدى تشبثهم بالأرض وخيراتها، وهذا الاحتفال يتم ذلك بطرق مختلفة ومتنوعة من حيث المأكولات والوجبات التي تحضرها الأسر من داخل بيوتهم أو عن طريق الاحتفالات الجماعية، حيث في منطقة الريف يقمن العائلات في هذا اليوم بتحضير ما يسمى ب “ثغواوين” أو “ثيموياز” وهي عبارة عن مأكولات جافة تحضر من الحبوب والقطاني، ونفس الشيء بالنسبة لسكان الجهة الشرقية ففي مدينة وجدة نجد في أسواقهم قبل أسبوع من الحدث وجبات مختلفة من المأكولات الجافة تحضر خصيصا لهذا اليوم، أما في الأطلسين الصغير والكبير فيتبادل السكان خلال هذا اليوم التهاني والتحيات وغالبا ما يكون الاحتفال مشترك بين الأقارب والجيران الذين يمارسون بشكل جماعي فقرات من الرقص والغناء، وتطبخ النساء أطباق من القمح والفول الجاف المطبوخين على شكل حساء وتعرف هذه الوجبة ب “الزريابي” لدى أهل شبذان كما تطلق عليها تسميات أخرى من قبيل “إركمن” أو “أركمين” هذه الأكلة أوردها المختار السوسي في الجزء الأول من المعسول ص:54، وهناك من يحضر طبقا من “المحمصة” مع السمن، أما في الجنوب الشرقي نجد أن الأسر يقمن بالإعداد طبق خاص للمناسبة عبارة “كسكس” بعديد من الخضر والقطاني مما يفسر التسمية التي نسمعها (سبع خضار) في الإشارة إلى تنوع الخضر في طبق هذه المناسبة ، وتوضع نواة التمرة “إغس” في الطعام ومن يجد هذه النواة يعتبر شخصا “مباركا” طيلة تلك السنة.
واعتماد رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا وعطلة مؤدى عنها سيشكل على الأقل نوع من المصالحة مع ماضي تاريخينا العريق، و ربط الشعب المغربي بذاكرته الأصلية، فالشعب بدون ذاكرة هو الشعب الميت كما يقال، وفي الختام أتمنى لجميع أمازيغ الدنيا من سيوا إلى جزر الكناري ولأمازيغ المهجر أينما وُجدوا ولأبناء منطقتنا الذين اجتازوا البحر المتوسط عبر قوارب الموت الى الضفة الأخرى سنة أمازيغية سعيدة 2970 مِلؤها العطاء والنماء والحب السلام وأسغاس ذامباركي ذامغاس.