عندما نكتُـب مصطلح “المسرح” فإننا نقرأ عـدة أشيـاء، منها الواقع ومرآة الحقيقة، وانعكاس الحقيقة والحُلم والخيال والـبـديـل والحرية والهوية وغيرها، كما نجد له عـدة قـراءات مثل شكسبير الذي يقول إن “الدنيا مسرح كبير”، وكذا نجيب محفوظ الذي يرى “السر أننا صرنا جميعا ممثلين…”. وقد اتفق الجميع منذ الإغريق والرومان على قـراءة واحدة هي أن “المسرح هو أبو الفنون”، وهي القراءة التي استحقها بإعلان يوم 27 مارس كيوم عالمي للمسرح منذ سنة 1962.
إن المسرح/الرُكْـح، حيث يفقـد الفضاء/الـزمن الكثير من حدوده ويصبح الفرد الواحد (المشاهد) جزء من أحداث العمل المسرحي وينتمي إلى أحد شخوصه؛ لذلك فلا غرو في أن كبار الكتاب المسرحيين العالميين هم أيضا “سُـفراء فـوق العـادة” لـدولهـم بكتابـة مسرحيات خالدة حملت الكثير من تفاصيل الحياة اليومية لشعوبهم ولأحلامهم وطموحاتهم، وحافظوا من خلال مسرحياتهم على مقومات هويتهم، وساهموا في تصدير لغتهم وأفكارهم وطريقة عيشهم، طبعا كل حسب طريقته في الكتابة، سواء بالسخرية أو التراجيديا أو الكوميديا أو الجمع بين أكثر من صنف، وأيضا حسب تعدد أنواعه ومدارسه بين التعبيري والواقعي والطبيعي والعبثي والوجودي…
لذلك، فإن أعمال كل من شكسبير وموليير و كارلو جولدوني وداريُـو فُـو وغـوته وبيرتول بريخت وصامويل بيكيت ونجيب محفوظ ومارون النقـاش وجون كوكتو وآرثـر ملير وتشيخوف، وغيرهم، ليست ملكا لهم فقط، بل هي إرث مشترك لجميع العالم.
وباعتبار المسرح وعاء مهما للثقافة والهوية، نلاحظ مدى الاهتمام الذي توليه البعثات الثقافية الأجنبية في المغرب، والدعم المادي والإعلامي الذي تحظى به الأنشطة المسرحية، سواء في برامج المركز الثقافي الفرنسي أو معهد سرفانتس الإسباني أو غوتة الألماني أو دانتي الإيطالي… أو عن طريق برامج ثقافية ومهرجانات مسرحية عالمية أو جامعية.
ويدفعنا هذا الأمر لنتساءل كيف يمكننا توظيف هذا الصنف الإبداعي في المحافظة على الهوية المغربية الأصيلة ورعاية حُسن انتقالها بين الأجيال بسلاسة؟ وهي مهمة تزداد صعوبة عندما نتكلم عن الأجيال الجديدة من مغاربة العالم المنتشرين في كل بقاع هـذا العالـم الفسيح متعدد الثقافات والديانات واللغات والعادات.
ولا بد هنا من التوقف عند طبيعة ومضمون النصوص المسرحية، وضرورة تقييـم تجارب المسرح المغربي كإحدى القنوات المهمة في معادلة الحفاظ على مقومات الهوية المغربية لمغاربة العالم، بالنظر إلى الأهمية التي تحظى بها مسألة المحافظة على الهوية الوطنية التي تبرز من خلال تناولها أكثر من مرة في الخطب الملكية، وأيضا دستور المملكة في فصله 163، وكذا في بلاغات مختلف المؤسسات وفي السياسات العمومية للحكومة.
وفي هذا السياق، نرى من المهم التساؤل حول مدى استفادتنا من تراكمات الدول الأخرى في موضوع المسرح وعلاقته بالهوية الوطنية؟ وهل كل الانتاجات المسرحية صالحة لتفي بغرض الحفاظ على الهوية المغربية بدول المهجر؟ وهل من الضروري تناول المسرحيات الموجهة إلى مغاربة العالم لبعض الظواهر الاجتماعية والسياسية السلبية بتصور تيْـئيسي ورؤيـة سوداوية ولـغة غيـر راقيـة؟
وهـل تُـؤخد بعين الاعتبار الحالـة النفسية لمغاربة العالم، خاصة المزدادين في دول الهجرة، ومدى خطورة الصورة التي ترسمها في مخيالهم بعض العروض المسرحية والانطباع السلبي الذي قد تتركه في نفوس الشباب؟
لا بأس في أن تكون للعروض المسرحية وظيفة فرجوية وكوميدية للترويح عن النفس، لكـن هذا الطابع لا يمكنه أن يطغى على دور المسرح المحوري في المحافظة على الهوية المغربية ونشر القيــم الكونية، بقالب يحترم المتفرج عامة ومغاربة العالم خاصة، لا مسرحيات تُسيء إلى صورة المغرب بالخارج بمبرر الواقعية عبر صور للسخرية الرديئة.
ولا بأس أن تكون هناك عروض مسرحية هادفة بطابع ساخر وأنيق وحاملة لرسالة نبيلة، إلا أن هذه العروض التي تستفيد من الدعم العمومي، عليها في المقابل أن تكون وسيلة للمحافظة على الهوية بجرعة كافية من الرقي والإبداع، باعتبار المسرح كقنطرة آمنة نحو الهوية المغربية المتسامحة والغنية بالروافد والتقاليد الراقيـة. والجالية المغربية في أمس الحاجة إلى مشاهدة عروض ذات جودة تعكس أصالة الشخصية المغربية وتسلط الضوء على قيم الهوية المغربية، كالإخاء والكرم والعيش المشترك واحترام الآخر.
هنـاك ضرورة ملحة اليـوم، أكثر من أي وقت آخـر، إلى لحظات تأملية في جــودة ونوعية الإنتاج المسرحي الموجه إلى مغاربة العالـم، والقيام بوقفة مع الـذات بكل تجرد وموضوعية، ووضع حصيلة وتـراكم السنوات الماضية أمام مرآة التقييم، بإيجابياتها وسلبياتها والتساؤل عن الكيفية التي نُقــدم بها صورة المغرب لمغاربة العالــم، وخاصة الشباب منهم، وهــل بهذا المنتوج المسرحي سنُـرسخ عناصر الانتماء والوفــاء لــدى شباب مغاربة العالــم؟
في الوقت الذي تزخر فيه بلادنا بطاقـات قوية في مجال الإبداع والعمل المسرحي، يُـمكنها الاشتغال والتعاون مع مُبدعين مسرحيين من مغاربة العالم في أعمال مسرحية مشتركة تكون فرصة لتبادل التجارب من جهة، ولـتواصل حبل الوطنية وصلة الرحم مع الوطن وتحسين صورة المغرب عند شباب وشابات مغاربة العالم من جهة أخــرى.