يقال إن الشيطان يسكن غالبا في التفاصيل، لذلك فـفي موضوع اللغـة العربية ومنظومة التعليم، الــذي يحظى باهتمام قــوي من طرف كل مكونات المغرب، سواء المؤسساتية أو المجتمعية، باعتبارها إحدى الملفــات الاستراتيجية والمصيرية للأمة المغربية، فإننا لسنا في حاجة اليوم إلى الدخول في مناقشات جانبية أو الانجراف مع محاولات “تهريب” النقــاش إلى جدل بيزنطي أو نقـاش تتحكم فيه الانفعالات العاطفية، مادام أن الأمر يتعلق بمناقشة آليـات تقتـرب من “المقدس”، ويتعلق الأمر بكل من اللغة العربية والتعليم.
نقــول هذا الكلام بكل ارتياح، مادامت الوثيقة الدستورية، وهي أسمى قوانين البلاد التي توافـق عليها كل المغاربة في دستور 2011، قد حسمت في الأمر بشكل واضح في الفصل الخامس الذي ينص على أن “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها… “.
فـوضوح عبارات الفصل الخامس لا تــدع أي هامش لأي اجتهاد، وتحت أي غطاء سياسي أو أيديولوجي، بل إن من واجب الدولة المغربية، حسب الدستور، حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها. كما نؤكد هـذا الـكلام بكل ارتيــاح، ونحن نـرى سعي كل الأمم إلى الحفاظ على “لُـغتها الأم”، بــل واعتبارها “عـامل توحيـد” ولُـغـة التخاطب الرسمية والمعاملات الإدارية وحتى البحوث العلمية…
ونسوق هنا “وصفة فيلي كوتيري”، وهي الوثيقة التي وقعها ملك فرنسا “فرانسوا الأول” سنة 1539، والتي أصبح بموجبها استعمال اللغة الفرنسية إجباريا في كل المحررات الرسمية والأحكام القضائية (الفصل 111)، بعيدا عن اللغة اللاتينية التي كانت تعرف بلغة النخبة ورجال الديـن فقــط، فاللغة الفرنسية وحدت فرنسا بين لهجتي الشمال والجنوب وحفظت لها استقلالية معاملاتها ومساطر عدالتها.
وهو الشيء الذي جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصرح أثناء زيارته إلى قصر مونتي كريستو في شتنبر 2017 بأنه يرغب في ترميم قصر “فيلي كوتيري” وتحويله إلى “قصر الفرنكوفونية” للدفاع عن اللغة الفرنسية وإشعاعها في العالــم. وهو يعرب عن رغبته الشخصية هاته، كان ماكرون يعلم أن لا أحد سوف يعارضه في هــذا، نظرا لرمزية “قصر فـيلي كوتيري” الـذي اعتبـره إرثـا ثقافيا لفرنسا وللفرنسيين.
إن الأمثلة كثيرة في مجال قـوة اللغة “الأم” ودورها في الإشعاع والازدهار والاستقرار السياسي، وأيضا في صُنع صورة الدولـة في مخيال الآخرين وكــذا في صُنع الأحداث التاريخية. فـكتاب “الأمير” للايطالي نيكولو ماكيافيلي، مثلا، الـذي كُـتب أول الأمر بلغـة فلورانسا (الفْـيُورينْـتيـنُو)، لم يكن ليحقق هذا الاشعاع العالمي لــو ظل بلغة مدينة فلورنسا، وقبله في القرن الثالث عشر الشاعر الكبير والمفكر “دانتي أليغيري” وكتابه “الكوميديا الإلهية” الذي لقبه الإيطاليون “باب اللغة الإيطالية”.
كما نجد في فرنسا أسماء وازنة من قبيل الكاتب والمسرحي موليير، والفيلسوف والمؤرخ فولتير، ومونتسكيو، وإميل زولا، وروسو، وفيكتور هيجو… وغيرهم من فلاسفة عصر الأنوار والكتاب الـذين شكلوا المخيال الفرنسي وجعلوا من اللغة الفرنسية لغـة تواصل وانفعالات الفرنسيين، وساهموا في تشكيل رأيهم العــام. كل هذا تــم بفضل لغتهم “الأم”، أي الفرنسية.
وفي ألمانيا يتربع الشاعر يوهـان غـوته على عرش اللغة الألمانية، إلى جانب مارتن لوثر الذي عمل على ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى لغته “الأم” الألمانية، فيما تحكم ويليـام شكسبيـر بخبايا اللغة الإنجليزية منذ العهد الفيكتوري البريطاني، إلى جانب كل من شارل ديكينس وإرنيـس همنغواي… في حين نجد الكاتب والشاعر الإسباني الكبـير ميغيل دي سيرفانتيس ورائعته “دون كيشوت”، إلى جانب الشاعر غارسيا لوركا والكاتب المسرحي فيليكس لوبي وغيرهم كسفراء فوق العادة للآداب واللغة والفنون الإسبانية.
كل هذا الإصرار والالتفاف حول اللغة “الأم” كان بالتوازي مع وجود عدة لغات محلية ولهجات شكلت إرثا تاريخيا وحضاريا لكل دولة على حدة، ولم يشكل وجودها أي عائق في وحدتها الوطنية، مع وجود بعض الحالات ازدواجية اللغة مثل كندا وهولندا وبلجيكا لأسباب تاريخية، أو استعمال بعض اللغات المحلية كمطية مطالب انفصالية كاللغة الكتلانية أو الكردية نموذجا.
فـلا يمكن الحديث عن اللغة كوسيلة للتواصل دون الحديث عن الثقافـة كحاضنة تستوعب أكـثر من مُكون لمظاهر الحياة على المستوى الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي، وهـذا ما يُـبرر انتشار لغـة وثـقـافـة معينـة في وقت معيــن لارتباطه بقــوة هـذا البلد أو ذاك اقتصاديا وعسكريا، كاللغة اللاتينية أو اللغـة العربية أو اللغة البرتغالية في حقب سابقة، وصولا إلى اللغة الفرنسية، وبصفة أقوى اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر.
لكل هـذا وفي إطار الإصلاح المرتقب للمنظومة التعليمية بالمغرب، فإن ورش الهندسة اللغويـة في منظومة التعليم يجب أن يعمل في إطار يحترم دستور المغاربة، أي حسب الفصل الخامس من الدستور؛ وذلك بالعمل على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، وبالطبع مع الانفتاح على الأدوات التواصلية الجديدة من تكنولوجيا ولغــات أجنبيـة…
فها هو غـوته، شاعر ألمانيا العظيم كما وصفه بذلك نابليــون، يمدح لغتنا العربية واستعارتها، وإعجابه بلغتنا “الأم” جعله يصفها بالقول: “ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية”.
لذلك، فكل نقاش يخرج عن حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها هو نقــاش غير دستوري ويضرب الفصل الخامس منه عرض الحائط، ويهرب بالنقاش من دائرة الأمور الجادة، أي إصلاح منظومة التعليم، إلى دائرة الهوامش والتوظيف الإيديولوجي.
لقــد احتل موضوع إصلاح منظومة التعليم بالمغرب حيزا كبيرا من التفكير والانشغال، خاصة في الخطب الملكية والرسائل التوجيهية؛ وذلك بتبني البرامج الاستعجالية والرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030 التي توصي بـ”اعتماد هندسة لغوية منسجمة في مختلف مستويات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ومكوناتها وذلك بهدف تنمية قدرات المتعلم على التواصل وانفتاحه على مختلف الثقافات”، وأيضا “اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس، وتطوير وضع اللغة الأمازيغية في المدرسة ضمن إطار عمل وطني واضح ومتناغم مع أحكام الدستور”.
ويمكن اعتبار التنصيص على “ميثاق المتعلم” في الفصل 26 من قانون إطار 17.51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي بمثابة قفزة مهمة توحي بتعاقــد جديد بين المتعلم وباقي مكونات منظومة إصلاح المؤسسات التعليمية. وهو الميثاق الذي يحدد حقوق وواجبات المعلم، والـذي نتمنى صادقين أن يُـعيـد حياكــة العلاقـة الأسريـة بيـن المُتعلم والمؤسسة التعليمية وأن يسترجع المعلـم والأستـاذ نفوذه الأدبي تجاه المتعلـم، حتى لا نعيش الأحـداث الـمخجلة نـفـسها بـمؤسساتنا التعليمية من عنف مادي ولفظي وضرب وجرح بين طرفيْ العملية التعليمية.
فلا يجب أن يتحول “ميثاق المتعلـم” إلى دفتر التحملات بشروط وعقوبات جزائية، بل يجب أن يكـون ميثاقـا للاحتـرام وميثاقا أخلاقيا يـتنـاول الجانب النفسي والإنساني في عملية التعليــم والـتعلُـم، وحبذا لــو استحضر مهندسـو “ميثاق المتعلـم” نظرية العالميْـن التربويـيـْن “رُزونتـال” و”جاكوبسون” المعروفة بـ “تـأثيـر بيغماليـُـون”.