في إسبانيا، الجارة الشمالية لمغربنا العزيز، هناك دائما تمرين حقيقي على مدار السنة من أجل صيانة دولة الحق والمؤسسات والديموقراطية.
هذا التمرين يعد أمرا طبيعيا جدا في بلد اختار، بتدرج لا رجعة فيه، مسار الشفافية والمحاسبة والقانون وحماية حقوق الدولة والمجتمع.
الجديد على مستوى هذا التمرين المنتصر لمقتضيات الوثيقة الدستورية الإسبانية ولاسيما في الشق المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، هو ما تعيشه الحكومة الجديدة بسبب تصرفات طائشة وغير قانونية لأحد وزراءها.
فقد استفاق الرأي العام الإسباني صباح أمس الأربعاء، من خلال الموقع الإخباري إلكونفيدونسيال (El Confidencial)، على وقع خبر حقيقي لم يكن يتوقعه وزير الثقافة والرياضة ماكسم ويرتا (Maxim Huerta)، حديث التعيين في الحكومة الإشتراكية، والتي خرجت من رحم “نجاح” ملتمس حجب الثقة عن حكومة ماريانو راخوي اليمينية التي عصفت بها ملفات الفساد الإداري والمالي واستغلال النفوذ والسلطة، وفضحتها أمام الجميع.
الموقع الإخباري (إلكونفيدونسيال) أكد، استنادا إلى الوثائق المسربة إليه من مديرية الضرائب، أن ماكسم “حاول”، عن سبق إصرار، خداع إدارة الضرائب حتى يؤدي النزر القليل من الضريبة على الدخل.
الواقعة تعود إلى الفترة الممتدة من 2006 إلى 2008. آنذاك كان ماكسم، الصحفي/المقدم والكاتب، يؤدي خدمات صحافية (بمقتضى علاقة مهنية تعاقدية) لفائدة أحد البرامج الإخبارية الصباحية على القناة الخامسة (Tele5)، والتي كانت تقدم له مستحقاته المالية عبر شركة تحمل إسمه.
لكن ماكسم كان يحرص، بشهية مفتوحة، على النفخ في الأرقام والرفع من قيمة مصاريف الشركة عبر الإمعان في إدراج فواتير إصلاح بيته، بمدينة أليكانتي المطلة على هدوء أمواج حوض البحر الأبيض المتوسط، في لوائح حسابات الشركة.
مديرية الضرائب الحريصة على المساواة، بين المواطنين الإسبان والمقيمين فوق تراب بلاد الأندلس، في أداء المستحقات الضريبية لصالح خزينة الدولة، فطنت وتصدت بحزم القانون لحيلة الصحفي وغرمته في الحين، وأدى ما كان يجب عليه من أداء وزيادة.
القانون فوق الجميع.. لا تهاون ولا تقصير ولا تردد في مواجهة الانحرافات الضريبية.
منذ مغادرته القناة التلفزية الخامسة بدعوى إنشغاله بالكتابة، اختفى ماكسم كليا عن الأنظار والأضواء.. إلى أن عاد منذ أسبوع إلى الواجهة مجددا بعدما اختاره رئيس الحكومة، الإشتراكي بيدرو سانشيز، لتولي حقيبة وزارية في غاية الأهمية والحساسية. لقد عُيِّنَ وزيرا مشرفا على مرفقي الثقافة والرياضة، وأدى اليمين الدستورية بين يدي الملك فيليب السادس.
الوزير الشاب ماكسم (47 سنة)، وبعد خروج الخبر المدوي إلى العلن وانتشاره بشكل كاسح وسريع عبر شبكة الإنترنت، لم يستسلم لمنطق الانزواء والاختباء والهروب من المواجهة. لقد استجمع كل قواه الذهنية، وقرر الخروج على المباشر للدفاع عن نفسه خصوصا وأن الأحزاب الممثلة في البرلمان طالبت، بلغة واضحة وعلنية، باستقالته أو إقالته فورا وفي أجل لا يتجاوز 24 ساعة؟!
وبضغط من رئيس الحكومة الذي سبق أن أكد، منذ ثلاث سنوات، أنه يجب الحرص على إعمال القانون وفرض هيبة دولة المؤسسات كلما تعلق الأمر بالفساد والانحراف، وبالتالي عدم التهاون في اتخاذ قرارات الطرد والمحاسبة والمتابعة أمام القضاء ضد أي مسؤول عمومي، سواء في الحزب أو من موقع المسؤولية الحكومية، حاول خداع مديرية الضرائب للتهرب من أداء واجباته الضريبية.
على الساعة السابعة من مساء أمس الأربعاء (13 ماي 2018)، وجه الوزير الشاب الذي لم يستأنس بعد بالكرسي الوزاري المغري، الدعوة لوسائل الإعلام وما أكثرها في إسبانيا، للإعلان عن تقديم استقالته، منهيا بذلك جدلا واسعا استأثر باهتمام الرأي العام الواسع، ودام ساعات قليلة فقط لا غير.
الوزير ماكسم استقال بضغط من سلطة الإعلام وحزم القانون، وانتهت القصة. أما نظيره المغربي، رشيد الطالبي العلمي، وزير الشباب والرياضة و”القيادي البارز” في حزب التجمع الوطني للأحرار، فقد سبق للخازن العام للمملكة نور الدين بنسودة أن رفع دعوى قضائية ضده بـ”تهمة التهرب الضريبي”، وقضت المحكمة الإبتدائية بالرباط بإدانته.
الوزير الإسباني ماكسم أُرغم على الإستقالة في دولة الحق والقانون واحترام المؤسسات كعقاب أوتوماتيكي على “نية” التملص الضريبي، والسيد رشيد الطالبي العلمي، وزيرنا في قطاع الشباب والرياضة والذي كان ثالث شخصية في هرم الدولة عندما شغل منصب رئيس مجلس النواب، لم يمتثل إطلاقا للحكم القضائي، ولم يؤد مستحقاته الضريبية على الرغم من استفادته من “رِيكْلاَمْ وتسهيلات” مديرية الضرائب؟!
الطالبي العلمي، الموجود حاليا في روسيا لمتابعة مشاركة المنتخب المغربي في كأس العالم لكرة القدم، هو نموذج فقط ضمن نماذج كثيرة للتهرب من أداء الواجبات الضريبية في بلادنا.
فهل نريد إرساء دولة القانون والمؤسسات كما يؤكد على ذلك جلالة الملك محمد السادس، مرارا وتكرارا، وخاصة في خطبه القوية أمام البرلمان بمجلسيه؟!
بكل تأكيد يمكننا أن نرسي هذا البناء المؤسساتي إذا طبقنا القانون وحرصنا على التقيد بالدستور.
تطبيق القانون على الجميع وبدون انتقائية أو محاباة سياسية أو حزبية أو تبادل منافع ومصالح.. هو، بكل بساطة، مفتاح باب الولوج الحقيقي إلى دولة القانون واحترام المؤسسات.