»
الاخبار المهمة »
غوتيريس يمسك بملفات حارقة .. ولا عزاء لـ”كيمون القلِق” .
الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.
عرف الفاتح من يناير الجاري (2017) طـيّ آخـر صفحة من تاريخ بان كيمون على رأس الأمانة العامة لهيأة الأمم المتحدة، والتي امتدت لعشر سنوات كانت مليئة بأحداث دامية ومآس إنسانية وحروب ومجاعات ونزاعات دبلوماسية وموجات هجرة ولجوء غير مسبوقة… واجهها فقط بإبدائه لجام غضبه، ووقـف عند إبداء القلق في جل الملفات الـساخنة!.
ومن جهة أخرى، عـرف اليوم نفسه التنصيب الرسمي للبرتغالي أنطونيو غوتيريس (67 سنة) والذي جعل من تدوينته بمناسبة رأس السنة دعوة إلى السلام بالقول: “الـسلام هو الهدف والخارطة، ولنجعـل السـلام في المقدمة”.
وتجعل المؤشـرات الأولية تنصيب أنطونيـو غوتيريس، الموظف الإداري الأكـبر في المبنى الزجاجي بنيويورك، حدثـا تاريخيا وغير مسبوق؛ فظهور كل من فيتالي شـوركين وسمانتا باور، مُمثليْ كل من روسيا والولايات المتحدة بهيأة الأمم المتحدة، جنبا إلى جنب لإعلان غوتيريس كتاسع أمين عام للهيأة من قبل مجلس الأمـن، يحمل أكثـر من رسالة أبرزها الرغبة في التعاون في عز أزمة طرد 35 دبلوماسيا روسيا من واشنـطن، بالإضافة إلى إجماع الجمعية العامة على تعيين شخص غـوتيريس أمام 7 وجوه نسائية بارزة في الساحة الـدولية؛ وهو ما يجعـل منه، بالفعل، حدثا مهما.
لكن هذا الإجماع التاريخي والرهان عليـه للخروج بهيأة الأمم المتحدة من عنق الزجاجة وتجاوز حالـة “إبداء القـلق”، التي ميزت عهـد سابقه بان كيمون، لم تأت من فراغ؛ فالأمين العام الجديـد يحمل وراءه تاريخا سياسيا كبيـرا من التحدي، سـواء كبرلماني عن الحزب الاشتراكي البرتغالي بعد انقلاب 1974 أو كرئيس الحزب الاشتـراكي البرتغالي وأو كرئيس لحكومة بلاده من 1995 إلى 2002، مرورا برئاسته للجنة الأوروبية وللأممية الاشتراكيـة، وصولا إلى تقلده لمسؤوليات على المستوى الأممي وترؤسه لولايتين (من 2005 إلى 2015 ) لمفوضية اللاجئين، وتجربته مع أكبر موجة هجـرة ولجـوء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية!
إن الرغبة في ضخ حيوية جديدة وتغيير جلد هيأة الأمم المتحدة بشكـل يتلاءم مع الوضع العالمي الجديـد هو أحد عوامل الإجماع التاريخي في تعيين غوتيريس كأمين عام جديد؛ فـشخصية الأمين العام تلعـب دورا كبيرا في رسـم ملامح الأمانة العامة، بالإضافة إلى الوضع الدولي القائم، والمختلف عن فترة ما بين الحرب الباردة والثنائية القطبية أو حتى الأحادية القطبية… وبمن ثم، فإن هناك فرقا كبيرا بين ملامح فترة المصري بطرس غالي مثـلا وبين فترة الغاني كوفي عنان والكوري بان كيمون.
أنطونيـو غورتريس، إذن، الخطيب البارع الذي يُجيد وبطلاقـة الحديث بأكثر من لغة إلى جانب مراسـه السياسي سيُواجه عالما فيه الكثير من آبار المياه المسمومة والبراكين السياسية النائمة، والتي جعلـت سلفه بان كيمون يتقـزم دوره ويختفي وراء خطـاب جاف لا يتجاوز في أغلب الأحيان “إبداء القلـق”، وهو ما جعله يخرج من دون أن يترك وراءه أية بصمة يسجلها التاريخ، بالرغـم من قضائه لولايتيْن على رأس الأمانة العامة للأمم المتحدة.
إن تداعيات “الربيع العربي”، ابتداء من سنة 2011 وما خلفته من حروب في ليبيا وسوريا واليمن والسودان الجنوبي، كذا الأزمة الأكرانية ومظاهر الأزمة الدبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة، من دون أن ننسى أزمة أربعة ملاييـن مهاجر ولاجئ ممن هربوا من الحروب والنزاعات في الـشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، وبُؤر التوتر في كل مكان واتجاه العالم نحو اليمين واعتناق المجتمعات للفكر المتطرف سـواء الـسياسي أو العقائـدي، بالإضافة إلى محاربة الجماعات الإرهابية وداعش وبوكوحرام، والتغيرات المناخية والاحتباس الحراري… كل هـذا يُشكل تركة ملفات ساخنة خلفها سلفـه بان كيمون..
ومن ثم، فإن مهمة غوتيريس على رأس الأمم المتحدة والإجماع على شخصه لا يمكن أن يكون إلا حدثا تاريخيا وخبرا غير عاد على الصعيد الدولي.
في سنـة 2013، صرحت سُوزان رايـس، سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة، بأن التاريخ سيُحاكم بقـوة هيأة الأمم المتحدة بخصوص الملف السوري. وقـد حاكـم التاريخ الهيأة الأممية قبل ذلك في أكثر من ملف، كمجازر سبرنيتشا بالبوسنة أو المليون قتيل في روانـدا… كما أن سيُحاكـم بقوة بان كيمون على خرجاته غير الحيادية وغير الموضوعية في ملـف الصحراء المغربية، وعلى تصريحاته المستفزة، التي لا تمت بصلة إلى أهداف الهيأة التي يُمثلها، أي الحفاظ على السلم والأمن العالمين وليس تأجيج الصراع بتبني مواقف وأطروحات من شأنها أن تُشعـل المنطقة من جديد، علما بأن الملف يناقش بالأمم المتحدة مع كل ما يفرضه ذلك من حياد كلي لمن يفترض فيه أنه حكما وليس طرفا.
إننا اليوم نتطلع إلى تجاوز كل الإخفاقات والانزلاقات القانونية التي عرفهـا ملف الوحدة الوطنية، نتطلع إلى الدفاع عن التطبيق الـسليم لميثاق الأمـم المتحدة لتعزيز الـسلم والأمن الـدولييْن، ونتطلع إلى جعل السلام في المقدمة كما قال غوتيريس، الأمين العام الجديـد؛ فلا يُعقل، مثلا، أن نعيش مهزلة قانونية في الأسبوع الثاني من أكتوبر مـن كـل سنة، حين تنظـر اللجنة الرابعة والخاصة بتصفية الاستعمـار في ملـف الصحراء المغربية، لأن في الأمر خرقا واضحا لميثاق الأمـم المتحدة، وهو ما نبه إليه السيد عمر هلال، سفير المغرب بالأمم المتحدة، في أكتوبر 2016؛ لأن مجلس الأمن الدولي ينظر إلى قضية الصحراء، بناء على الفـصل السادس والخاص بالتسوية الـسلمية للنزاعات وليس كملف لتصفية الاستعمار!
أضف إلى أن الفصل الـ12 من الميثاق الأممي يجعل كل توصية من الجمعية العمومية غير ذات موضوع، لكـل نزاع ينظـر فيه أصلا مجلس الأمـن، ما لم يطلب ذلك مجلس الأمن من الجمعية العمومية؛ وهو ما يعني أن عرض ملف الصحراء على اللجنة الرابعة هو خرق واضح لميثاق الأمم وفاضح لكل مساندي آلة التضليل الانفصالي! من جهة أخرى، ننتظـر الدفع بآلية التفـاوض حول مبادرة الحكم الذاتي، كمبادرة سياسية شاملة لمقاربة حقوقية وواقعية وتاريخية، كما ننتظر تحصين بعثـة المينورسو من كل انزلاق قانوني أو تعليمات خارجية.
إن الإجماع التاريخي على شخص أنطونيـو غوتيريس، كأمين عام للأمم المتحدة، يتضمن رغبـة الأسـرة الدولية في التغيير ونشر ثقافة السلام والـتضامن واحترام الاختلاف وتعزيز ثقافة الحوار والتوافق أثناء التفاوض والأمـل؛ وهي كلها مصطلحات يغرف منها الأمين العام الجـديد.
والأكيد أن الالتزام الديني الكاثوليكي لغوتيريس واعتناقـه للاشتراكية وانتمائه إلى الحوض المتوسطي سيؤثر كثيرا في منصب الأمين العام الأممي، وسواء تعلق الأمر بشخص الأمين أو مساعديه فهُم يُعتبرون “موظـفين دوليين” وعليهم تأدية المهام بكل تجرد وباستقـلالية تامة بعيدا عن أي تعليمات خارجية.
لقد أشاد جل رؤساء وقادة العالم وكذا العديـد من الـمحللين وغيرهم بتعيين أنطونيو غوتيريس كتاسـع أمين عام للأمم المتحدة، واعتبروه الرجل المناسب في المكـان المناسب في الوقـت المناسب! لكن وحدها المواقف والخطوات الفـعلية والعملية للـسيد الأمين العام في كـل مناطق التوتر، ومدى قدرته على استعمال سلطته السياسية ونفوذه في “مساعيـه الحميدة” من أجل إطفاء نيران الحروب، وتصفية المياه المسمومة، ونشر ثقافة الـسلم والعيش المشترك هي التي ستُنسينا في الأمين السابق المشهور بإبداء القلق!