»
الاخبار المهمة »
الدكتور عبدالله بوصوف يتساءل في وداع 2016: هل انقلب القلب إلى جهة اليمين؟
الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.
حركية مُتسارعة متفاعلة تؤثر وتتأثر، ولا تعترف بالسُكـون أو الاستكانة؛ كهُدنة عابرة تكاد تنقلـب إلى حرب، أحد طرفيْها سياسي من جهة، ومثقف ومفـكر من جهة ثانية، أما موضوع الـسجال فهو التوزيع العادل للسلطة!
تلك بعض أوصاف طبيعة علاقة العلـوم الإنسانية والاجتماعية بالعلوم السياسية والممارسة السياسية، وما نتج عن ذلك من إيديولوجيات فلسفية وفكرية وسيـاسيـة مختلفة من أجل مجتمع عادل ومُتكافئ الفرص، ومبني على مبدأ ما لقيْصـر لقيْصر…
لذلك نشهد بعد نهاية كل حرب أو نزاع إقليمي أو دولي تبني “سلة تدابير” جديدة لاحتواء انتظـارات مجتمعية وفكرية وسياسية تتطلبها المرحلة، ويلعـب فيها المثقف أو المفكر دورا كبيرا من خلال إدارة نقاش عمومي كثيرا ما يتخذ من الجرأة والعقلانية أساسا لكل المرتكزات الإيديولوجيـة.
سنـة 2016 وما طبعها من تطورات على الساحة السياسية، وكذا الفاعلين السياسيين، جعلتنا نعيشُها بكل انفعالات الدهشة أحيانا، والتضامن والنقد الذاتي أحيانا أخرى، وبكثيـر من التأمل والتفكير.
لم تكن سنة 2016 نقطة نهاية لتداعيات ما سُـمي “الربيع العربي”، وما خلفه من مآس إنسانية، من قتل ودمار وتهجير في أكثر من بُقعة في الوطن العربي، بل فتحت قوسا جديدا للتشتت والانقسام والتيه الإيديولوجي والطائفي، وعودة لُغة الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد.
لم تكن سنة 2016 عُـنوانا لنهاية تداعيات الأزمة الاقتصادية وما رافقها من سياسة التقشف وموجات غير مسبوقة للجُـوء، هربـا من الحرب والجفاف والعنف نحو أوروبا، بحثا عن مكان آمن وفرصة للعيش الكريم، وكانت مناسبـة مُربحة لتُجار البشر وقناصي ضحايا الإرهاب الذي أصاب قلب أوروبا في أكثر من مناسبة خلال هذه السنة، سواء في باريس أو نيس أو بروكسيل أو أنقرة أو إسطنبول أو القـاهرة مؤخرا.
سنة التحولات السياسية الكبرى في أوروبا.
كانت 2016 سنة المواعيد والتمارين الديمقراطية بأوروبا، وعلامة دالة على أن هناك ما يُـشبه النار تحت الرماد، ساعـد في إشعالها كُتاب وفلاسفة وإعلاميون؛ وهو وضْعٌ استغله سياسيو أحزاب اليمين واليمين المتطرف للتمدد في صفوف الطبقة الوسطى والطلبة والعاطلين في أوروبا بشكل غير مسبـوق.. أضف إلى ذلك إصلاحات دستورية وإدارية وقطـاعية لم تُراع الجانب الاجتماعي، فأخرجتْ الأوروبيين إلى الساحات العمومية للتظاهر والاحتجاج ضد قانون الشغل وسياسات التقشف والإرهاب… في فرنسا وإيطاليا واليونان وإسبانيا وانجلترا وغيـرهـا.
2016 كانت أيضا سنة ضرب فيها الإرهاب الأعمى بقـوة، وتمددت شعارات أحزاب اليمين مُقـابل تراجع في شعـبية أحزاب اليسـار التي خيبت آمال مناصريها، وفشلت في ابتكار آليات للخروج مـن الأزمة الاقتصاديـة. هكذا ضرب اليميـن الـشعبوي بقوة كل المعاقل الانتخابية لليسار العاجز عن تحقيق انتظارات ناخبيه؛ وبكل مكر سيـاسي زادت أحزاب اليمين المتطرف من جرعة الخوف من الإسلام والهجرة والإرهاب، وقدمت في المقابـل وصفة الهوية الوطنية ومصلحة أبناء الوطن أولا وأخيرا!
وبهذا الشكل سقط تباعا كل من دافيد كامرون، بعد نتائج عكسية لاستفتاء من اقـتراحه هو، لخروج أو بقـاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبـي في 23 يونيـو 2016، وسقـط ماتيو رينزي أيضا بعـد نتائج عكسية لاستفتاء من اقتراحه هو لتـعديل دستوري للفصل الخامس وإلغاء الغرفة الثـانية (مجلس الشيوخ الإيطالي) يـوم 4 دجنبـر 2016 …! وسيُغادر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد نهاية ولايتـه الـرئاسية. وبالطريقة نفسها سيُغـادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما البيت الأبيض بعـد نهاية ولايتيْه الرئاسيتيْن.
في المقابل ارتفعت أسْهم اليمين في بريطانيا التي تنتظر قرار المحكمة في نهاية يناير 2017 بخصوص إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأيضا كل مؤشرات التنافس الرئاسي بفرنسا لسنة 2017 تذهب في اتجاه انحصاره بين الـيميـن واليمين المتطرف!
في إسبانيا، وبعد إعادة الانتخابات الـتشريعية مـرتيْن دون تحقيق أغلبية مريحة، وبعد شبه شلل سياسي دام حوالي 10 أشهـر، خرج تحالف حكومي بزعامة ماريانو راخوي عن اليمين، واستقال بيـدرو سانشيز، زعيم الحزب الاشتراكي، وتراجعت شعبية الحركات الاحتجاجيـة الممثلة في حزب بوديموس.
وبصعـوبة بالغة استطاع فان دير بيلين، مُمثل حزب الخضْر بالنمسا، يوم 4 دجنبـر كـسـب الانتخابات الرئاسية المعادة بعد إلغاء انتخابات ماي الماضي من طرف المحكمة لخروقات في مسطرة التصويت، بعدما كان نوربرت هـُوفـر، زعيم اليمين المتطرف، قريبا جدا من كرسي الرئاسة.
أما في ألمانيا فاستغلت أحزاب اليمين والحركات الاحتجاجيـة، كبيغـيـدا مثـلا، سياسة المستشارة أنجيلا ميركل المنفتحة على الهجرة واللجـوء واعتبارها قيمة مضافة لألمانـيـا. وركبت هذه التيارات على الأحداث الإرهابية بكل من باريس وبروكسيـل ونيس، وأخيرا حادث دهس شاحنة لسوق بـبرلين يوم 19 دجنبر 2016، مخلفا 12 قتيلا و48 جريحا. بمكان الحادث أشعلت الشموع ونثرت الورود، وصرحت المستشارة ميركل: “لا نريد العيش رهينة الخوف والألم، سنجد القوة للعيش كما نحب في ألمانيا، أحرارا، معا ومنفتحين….”؛ لتنادي أحزاب اليمين المتطرف بتحصين ألمانيا من المهاجرين ومن الإسلام خصوصـا. وضعٌ سياسي وانتخابي جعل من إعادة الثقة في السيدة ميركل للتقدم للانتخابات التشريعية للمرة الرابعـة ضمانة لمواجهة تمدُد اليمين ولوضع حد لمفاجآت اليمين، وخاصة حزب البديل من أجـل ألمانيـا خلال الانتخابات التشـريعيـة لسنة 2017.
وفي فرنسا، وتحت وقع ضربات الإرهاب والأزمة الاقتصادية وسياسة التقـشف التي نهجتها حكومة هولانـد الاشتراكية، تمت تمهيديات لاستعراض قوة اليمين في نونبر 2016، أفرزت فوز فـرانسوا فيون ونهاية المسيرة السياسية لساركوزي، في انتظار تمهيديات اليسار في يناير 2017، ثم الرئاسيات في أبريل 2017، إذ يُنتظر دور ثان بين فرانسوا فيون ومارين لوبين في مباراة انتخابية حصرية بين اليمين واليمين المتطرف!
لقد زادت سنة 2016 المشهد السياسي ضبابية أكثر في علاقته مع الإديولوجيات والـمرجعيات السياسية والاقتصادية، إذ لم يعد اليـسار خالصا ولا اليميـن خالصا، بل حتى الوسط تماهى مع المتطرف، ما يجعـل كل الاحتمالات والتحالفات مفتوحة في انتخابات سـنـة 2017، بدءا بانتخابات هولنـدا في مارس 2017 وتطلع حزب الحرية لزعيمه المتطرف خيرت فـيلـدرز، وأيضا انتخابات فرنسا في أبريل وماي من السنة نفسها، وتطلع ماريـن لوبين المتطرفة لتكون أول سيدة لقصر الإيليزي في تاريخ فرنسا، ثم تـشريعيات ألمانيا وتطلع حزب البديل من أجل ألمانيا الرافض لاستقبال المهاجرين والطامح إلى تسيير أقوى اقتصاد في أوروبا.
ولأن الشيطان يسكن في التفـاصيل، فإن الممارسة السياسية أبانت ثغـرات حاول كل تيار إصلاحها عبر آليات جديدة، كالديمقراطية التشاركية أو الديمقراطية المباشرة؛ أو عبْر تبني خيارات جديدة، كالـيسار الليبرالي أو الطريق الثالث لصاحبه طوني بلير، الذي استلهمه من عالم الاجتماع البريطاني مايكل يُونْغ، أي ما يُعرف بـ”الاسْتحقاقراطية” أوالميريتُقـراطية في كـتابه “صعود الاستحقاقراطية سنة 1958”.
سنة أخرى من المفاجآت اللاتينية.
وفي البرازيل، عزل مجلس الـشيوخ في غشت 2016 السيدة ديلْما روسيلف، الرئيسة المنتخبة ديمقـراطيا، بـتهمة تزوير تقـارير مالية من أجل تسهيل إعادة انتخابها؛ وهو العزل الذي اعتبره العديد من المراقبين بمثابة “انقلاب برلماني”، وذهبوا إلى القول إن أغلـب من صوت بعـزلها في مجلس الشيوخ متهمون في قضايـا فساد ورشاوى…
ومن بين أبرز الأحداث على الصعيد الدولي في أمريكا اللاتينية سنة 2016 عودة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة بعد 54 سنة من الحصار والعقوبات الاقتصادية؛ إذ سنشهد في مارس الماضي المصافحة التاريخية بين أوباما وراوول كاستـرو في هافانا، عاصمة كوبا، وبدايـة صفحة جـديدة بين البلـديْـن.
وفي هذا السياق تصر سنة 2016 أن تكون أكثر تميُزا، وأكثر استفزازا، وأكثر إثارة من خلال عدد من الأحداث والوقائع. فهل وفاة فيديل كاسترو في نونبر 2016 مثـلا، وهو المُعْتزل للسياسة منذ مدة طويلة، تصلح أن تكون مقدمة لسنة 2017 ساخنة حاملة لمنظومة عالمية جديدة؟ وهل بموته كآخر “حارس وفي” للمعسكر الاشتراكي، نـقول مرحبا لليمين الشعبوي وليسار الكافيار؟
لكن مهلا، فمن جهة أخرى، لا يجب علينا الانسياق التـام وراء كل التأويلات والتنبؤات بنهاية هذا المعسكر أو ذاك، فعملاق الـمسرح الأمريكي آرثر ميلير مثلا، وهو المعروف بأسلوبه الواقعي / السيكولوجي، أصدر سنة 1949 مسرحيتـه الـشهيرة “نهاية تاجر متجـول”، ينتقد فيها بحدة الحُلم الأمريكي بكل ما يحمله من حريات الاستهلاك والإنتاج والرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ورغم ذلك ظل الحُلم الأمريكي يسكن وجدان الملايين في العالم!
تقوية القطب الروسي.
عرفت روسيا في شتنبــر 2016 انتخابات مجلس الدوما التي اكتسبت أهميتها في إجرائها في مناخ إقليمي ودولي مختلف عن سابقه، كما أنها تُعد أول انتخابات بعد رئاسيات 2012 التي قادت فلادمير بوتين إلى الكريملين. وقد استطاع حزب روسيـا الموحدة الفوز بأغلبية مريحة في مجلس الدوما أو الغرفة السفلى للبرلمان الروسي، ما يعني إعطاء المزيد من القوة للرئيـس بوتيـن وانتصارا لسياسته الخارجية، سواء في أوكرانيا أو سوريا، في انتظـار رئاسيات 2018 وسط ترقب لمشاركتـه فيها من عدمها.
لقد شهدت سنة 2016 العودة القوية لروسيا بوتين، كفاعل جيوستراتيجي كبير، وعززت دورها في إدارة أزمات دولية، كسوريا وجزر القرم بـأوكرانيا، وإعادة رسم خريطة تحالفات اقتصادية وعسكرية جديدة. وفي المقابل عرفت سنة 2016 تراجعا أمريكيا على مستوى التأثير الدولي، وهو ما ينتظـره المواطن الأمريكي من دونالـد ترامب الرئيس الجديـد …
لكن حادث مقتل كارلوف أندريي، السفير الروسي بالعاصمة التركية أنقرة يوم 19 دجنبر 2016 يحمل أكثر من دلالة (حادث اغتيال)، نظرا للدور الكبير الذي لعبه في إعادة الدفء إلى العلاقات الروسية / التركية، وأيضا تقدم حلف روسيا في أزمة سوريا وسقوط مدينة حلب. كما أن الاغتيال والاختراق الأمني كان الهدف منه هو إعادة علاقات بوتين وأردوغان إلى مرحلة الصفر، والدفع بالمنطقة إلى المزيد من التصعيد والمزيد من الاشتعال الذي يخلف ضحايا أبرياء وتهجيرا للأوطان…!
غـير بعيد عن روسيا، فاز الجنرال رومين راديف (53 سنة) القريب من سياسة بوتين يوم 13 نونبر 2016 بنسبة 59 في المائة مقابل 37 في المائة لمنافسته السيدة تْسيتسكـا تشاسيفا، رئيـسة البرلمان البلغاري، في الدور الثاني في رئاسيات بلغاريا، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي منذ 2007؛ وهي انتخابات أظهرت أن عقلية ووجـدان الشعب البلغاري لازالت خاضعة للتأثير الروسي بالمقارنة مع تأثير دول الاتحاد الأوروبي…
وفي اليوم نفسه، أي 13 نونبر 2016، جرى الدور الثاني من رئاسيات مُولْدافيا، حيث فاز إيغـور دودون عـن الحزب الاشتراكي، القريب من سياسة بوتين أيضا أمام منافسته السيدة مايا ساندو، المسؤولة السابقة في البنك الدولي وزعيمة حزب الحركة والتضامن بمولـدافيـا.
وقد اقترح دودون إلغاء الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي والدخول في الاتحاد الجمركي الأوروآسيوي الذي يضم كلا من بلاروسيا وروسيا وكازخستان.. كما اقترح إجراء انتخابات تشريعية مبكرة سنة 2017 لتغيير الحكومة الحالية، وتقوية العلاقات مع روسيا ورومانيا وأوكرانيا.
وليس فقط الرئيسان الجديدان لكل من بلغاريا ومولدافيا من صرحا بالرغبة في تقوية العلاقات مع بوتين، فلائحة “الغزل السيـاسي” لفلاديمير بوتين أيضا تضم كلا من مرشح اليمين الفرنسي في رئاسيات 2017 فرانسوا فيون، وأيضا الرئيـس الأمريكي المنتخب دونالـد ترامب، الذي فاجأ بنجاحه كل التنظيمات السياسية والإعلامية والمؤسسات المالية الأمريكية، وسيكون مساندا بأغلبية مريحة للحزب الجمهوري في الكونغريس الأمريكي، وألحق هزيمة غير متوقعة بهيلاري كلينتون، مُدللة الحزب الديمقـراطي.
كل هذه التفاعلات السياسية والانتخابية سيكون لها حتما أثر على علاقات هذه الدول مع المغرب وعلى مآل العديد من الملفات الكبرى بالبلاد، لذلك مطلوب من الحكومة المغربية القادمة التوفر على أكثر من قـراءة للخريطة السياسية الدولية الجديدة، ابتداء من أول شهر من سنة 2017 …