الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

احتفظت المملكة المتحدة، أو بريطانيا العظمى أو غيرهـا من الأسماء المرتبطة بأحـداث تاريخية وصلت تـردُداتهـا إلى مناطق بعيدة في العالــم، بمعالم حضارية إنسانية ضاربة في التــاريخ، سـواء كانت معمارية كالقصور أو الـقلاع أو القناطر والكنائس، أو فكـريـة وحقـوقـيـة كالميثـاق الأعظـم (الكارتا مانيا) سنة 1215 والـثـورة المجيدة سـنـة 1688/1689 وإعـلان الحقــوق سـنـة 1689، وغيرهـا.

 

تــاريـخ طـويـل يُـسـاعـد في قــراءة قـريـة لـواقـع غـني بتـدافـع ايـديـولـوجـي وسياسـي، وبالـبحث عن مساحات أكبـر السلطـة، وتقـاسـم الحكـم بين الـمـلـكـيـة والـكنـسيـة والـنبــلاء ومــؤسسة البرلمـان والــرأي العــام، وغيـرهـا.

 

حركـية كبيـرة تـحد مـن بنــاء قــراءة واحـدة للـمشهـد الـسياسي الـبريطاني الــذي لا يـخلـو مـن مـفاجـآت بـنتـائـج بطعـم مُـتنـاقض؛ بحيث لا نـكـاد نـسلـم بـوضع سيـاسـي أو واقـع اجتماعي، حتى يُـعلــن عـن ميــلاد حـالة جـديــدة، وأنه لا معــادلــة مطلقـة تـحكـم الـسيـاسية البـريطانيـة، بمعنى آخـــر إنـه واقـع مفـتـوح على كـل الاحتماـلات ولا يـعتـرف بحـالــة الاسـتـرخـاء.

 

ونـسـوق أسـفلـه بعض الأحـداث المعاصرة التي تُـؤكــد هـذا الـقـول، وأنـه في قـمـة انـسـداد الأفــق أو الـتسليـم بعـدم وجــود بـدائــل، تظهــر بــدائـل أو مسـارات جـديـدة في وقــت غيـر منتظـر ومــن أشخــاص غيــر منتظـريـــن.

 

فتــاريخ 9 مــاي 2016 مثلا، لا يعني فـقـط انتخـاب الـسيـد صادق خـان، بـاكستـاني الأصل، عـمـدة لـمـدينــة لـنـدن وما يحملــه رمـزيـة مـتعــددة الجـوانـب، بــل فيـه الـكثير مـن الاعـتـراف بطاقــات أبنـاء المهاجـريــن، وإحــدى حسنـات الـمجتمع متعـدد الثقــافـات وقمـة الانـدمـاج، في وقـت كـثُـر فـيه الـحديـث عـن رفض استقبـال المهاجريـن ومخيمـات غـابـة كـاليـي (فرنسـا)، وتحصيـن قنـاة الـمانـش، وتـمـدُد الـيميـن الـمتطـرف الحامـل لـشعارات عـنصرية النــاشر للكـراهيـة، وأيضا الخــوف مــن تــداعيــات دخـول تـركيـا الـمسلمة الاتحـاد الاوروبـي، ومـوجـة لُـجـوء الــسورييـن.

 

أكـثـر مــن هـذا، فتـاريـخ 23 يـونيــو 2016، الـمتعلـق بـالاستفـتـاء الـشعبي للخـروج أو الـبقـاء بالاتحاد الأوروبـي، شـكـل عـلامـة فـارقـة على أكـثـر مــن صعـيـد ومـستــوى.

 

ووقـفـت الـنخبـة الـبريطانيـة مـذهـولـة أمـام هــول الـنتيجـة غير الـمتوقعـة حتى مـن دُعــاة “الخـروج” أنـفسهـم؛ حيـث سقطـت رؤوس سيـاسيـة وعلى رأسهـا رئيـس الحكومـة دافـيــد كاميرون، ونـاجيـل فـاراج، زعيـم يمـيني متطـرف، الــذي جـمـد عضويتــه، فـلا أحــد كـان مُـستـعـدا لـتـدبيـر الـمرحلـة الـجديـدة، وحتـى مجـيء تـيـريــزا مـاي ـرئيسـة للحكـومـة الجـديــدة لــم يُـعجـل بـتنـزيــل الإرادة الـشعبيـة على أرض الــواقـع وتـفعيـل الـفصل 50 مـن معـاهــدة لـشبـونـة والبدئ في مفـاوضات الخــروج مـع بـروكسيـل.

 

انتظـاريـة طبعـهـا تـفـاقـم الأزمـة الاقتصاديـة وانهيـار الجنـيه الاستـرلينـي، وهبــوط حـاد في الـمستوى الاخـلاقي أثـنـاء حملـة الاستـفتـاء وما طبعهـا مـن تـضليـل ومغـالطـات أثــرت في تـوجيـه إرادة الـشعب الـبريطانـي، بــالإضافـة إلى زعــزعـة الـثقـة بمـؤسســات استطـلاعـات الــرأي الـبريطانيـة. وقـبـل إعــلان تـيـريـزا مـاي عـن بــدئ الـمفاوضات في مارس 2017، كـان الـتفكيـر مـنصبا على طــريـق “خـروج نـاعــم” يجعـل لـنـدن تـحتفـظ ببعـض الامـتيـازات الاقتصاديـة كـسويسـرا والـنـرويــج.

 

وقـد شكـل إعـلان محكمة الـعـدل الـعليـا بـلـنــدن يــوم 3 نـوفمبـر 2016 حـدثـا مُـثيـرا تضمـن أن الـحكومة لا يُـمكنهـا الـبـدئ في تـفعيـل الـفصل 50 دون مصادقـة الـبرلمان الـبريطاني أولا على نتـائـج 23 يــونيــو 2016.

 

قـرار الـمحكمة جـاء استجـابـة لـطعـن تـقـدم بـه مجموعـة أفــراد، في مقـدمـتـهم “جـيـن مـيلـيـر”، سيـدة أعمـال ذات أصول إفـريقـيـة، ومـرة أخــرى نـقـف مشـدوديـن لـيقـظة الـمواطـن الـبريطانـي وأيضا لـقـوة الـمفعول الـقـانـوني لـكـلمـة “مـواطـن”.

 

الـقـرار أدخـل الـنخبـة مـن جـديـد فـي متـاهـات قـانـونيـة مـعقـدة وسينـاريـوهـات مـتشابكــة، نـظـرا لــوجـود الـعديـد مـن الـنواب الـمحافظيـن ومـن حـزب الـعمال مـع “الـبقــاء”، بالإضافة إلى 54 نـائـبا عـن اسكـتـلـنـدا، مما يـعني إمكـانيـة الـتصويت بالبقــاء وإدخال الحكومـة في مــأزق انتخـابـات مبكـرة، وهـنـا سيـرجع البـرلمانيـون إلى ـطلب أصـوات النـاخبيـن الـذيـن رفضوا تـطبيـق إرادتهـم في استفتـاء 23 يـونيـو، مما يعنـي الـتواجـد في وضعيـة سـوريـالـيـة؛ أي سيــادة البـرلمـان تُـعـارض سيــادة الـشعـب.

 

وللخروج مـن الـنفـق، اسـتأنـفـتْ حكومــة تيريـزا مـاي قــرار الـمحكمة العـلـيــا، ولـوحت بـاللجـوء إلى محكمة الـعـدل الأوروبـيـة. وقـبـل هـذا نـشـرت تيـريـزا مـاي، فـي 6 نــوفمبـر، رسـالـة مفتـوحة في “الـتلغـراف” تحـت عنـوان: “لمـاذا لـن أسمـح بـالتطـاول على إرادة الـشعـب الـبريطـاني؟”، مُـشـددة علـى أهـميـة قـطـف إيجـابيـات “الـخروج” مـن الاتحـاد الاوروبي.

 

الـعديـد من الـمحلليـن يــرون أن قــرار يــوم 3 نـوفمبـر للمحكمـة العليــا بلـنـدن سيُــرجع الاعتبـار والـسيـادة إلى مؤسسـة الـبـرلمـان، وسيُـخـرجـه مـن ظـل الحكـومـة. وهُــنا ستُـشهــر تيــريـزا ماي ورقـة “الامتيـاز الـملكي” الــذي يـمنح للـحكومة صلاحيات عقـد اتـفاقيـات أو الخـروج منهـا، وهــو ما قـامـت بـه بالفعــل الحكـومة الـبريطانيـة للانضمـام للـسوق الأوروبيــة الـمشتركـة سنـة 1972؛ أي عــن طريــق “الامتياز الملكـي” الــذي يـعفـيها مـن الـمرور عـن طريــق البـرلمـان.

 

ذلك ما وضع الأمـر على إيـقاع جـدل فـقهـي قــانـوني وعلى رأســه إعــلان الحقــوق الانجليــزي الــذي جاء فيــه: “الـقـوانيـن لا تـُقـر ولا تـُعطـل بــدون موافـقـة البـرلمان”، ومما سيــزيـد الـصورة تعقيـدا وسـوريـاليـة بيـن سيـادة الـبرلمـان وإرادة الـشعب و”الامتياز الـملكي”، أضف أنــه ولـمـدة تـفوق 40 سـنــة ظلـت بـريطانيـا تعيــش على تـشريعـات أوروبيــة، كما أن اسكتلنـدا تلـوح بتنظيم استفتاء للانفصال السياسي عن لـنـدن والـبقــاء في الاتحاد الأوروبي.

 

بـريطانيـا، أو الـعضو الــمدلـل داخـل الــسوق الأوروبيـة ودول الـكُومـُونْـويلت وداخـل الاتحـاد الأوروبـي، شكلـت دائمـا رقـما صعبـا رسمـتْ حـولهـا هـالـة كبيـرة تستمـدها مـن تـاريخهـا الـفكري والإنسـاني والكـولـونيـالي، وتـعتبــر نـفسهـا متفـردة؛ فـهي جغـرافيـا الجـزيـرة الـوحيـدة فـي دول أوروبـا، وهـي تـاريخـيا مكـان لــجوء نخبــة أوروبـا أيــام الحرب العالمـية الثــانيــة كـالجنـرال الـفـرنسـي ديغـول ولجــوء كـل الـمعارضيـن والـمناهضيـن لأنظمتهـم كالإيـراني الـخميني قبـل ثــورة 1979، وغيـرهــم.

 

الأكـيد أن المشهـد الـسياسي هنـاك وكالعادة سيفـاجئنا بتخريجة تحمل طابـع التفـرد والتميـز البريطاني في مسـألة “الخروج” أو “البـقـاء” في الاتحاد الأوروبي، مما سيكـون لـه ما بعــده، سـواء بـالخروج أو البقـاء.

 

ويكـفي الـقـول إنهـا لازالــت تحتفـظ بمقـود الـسيـارة على الـيميـن، فهـل لتبـرهـن على تـشبـتهـا ببعـض مظاهـر الماضي دون نـسيان متطلبات الحاضر؟ أم إن الأمـر فـيـه إشـارات إلى ميـولات إيديولوجية وسياسيـة لـبريطانيا بين أحـزاب اليسـار والـيميـن؟