الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

نزداد دهشة عند كل تمرين ديمقراطي، ونزداد يقينا بأن “الناخب” انسلخ عن التقيُد بمبادئ وإيديولوجية الحزب الواحد، وأصبح كائنا يتمدد وينكمش حسب العروض السياسية الحزبية المختلفة، وحسب الكاريزما الفردية الحزبية. وهو ما بدا واضحا في أكثر من محطة انتخابية، لكن ملامحه تأكدت عند استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو 2016، وأيضا في الرئاسيات الأمريكية في نوفمبر 2016، وتجسد بمناسبة “تمهيديات” حزب “الجمهوريون” الفرنسي، خاصة يوم 20 نوفمبر، الذي حمل معه زلزالا سياسيا هز مصداقية “مؤسسات استفتاء الرأي” التي بوأت آلان جوبي صدارة مرشحي اليمين للرئاسة، متبوعا بالرئيس السابق نيكولا ساركوزي.

 

ففي ذلك اليوم وقّع طابور من 4 ملايين ناخب على شهادة نهاية المشوار السياسي لنيكولا ساركوزي المثقـل بفضائح الرشاوي واستغلال النفوذ. وبالرغم من أن الأمر يتعلق بانتخابات اليمين، إلا أن عددا من اليساريين أبوا إلا أن يصطفوا في الجبهة المقابلة لساركوزي لتجنب أي مفاجأة قد تعيده إلى السباق الرئاسي، وهو ما خلق المفاجأة، نظرا لقوة جوبي وساركوزي داخل حزب “الجمهوريون” وأيضا بالنظر إلى ماضيهما الـسياسـي، بل ذهب بعض المراقبين أبعد من ذلك، بقولهم بوجود خطة لإزاحـة ساركوزي عن مواجهة مارين لوبان في ماي 2017، ودليلهم هو مشاركة ناخبين من اليسار ومن حزب الجبهة الوطنية في التصويت لصالح فرانسـوا فيون يوم 20 نوفمبر.

 

أسبوع واحد بعد نزال الجولة الأولى سيعود فرانسوا فيون، 62 عاما، يوم الأحـد الماضي (27 نوفمبر) ليُحقق انتصارا متوقعا وليس مفاجئـا، هــذه الـمرة على ألان جوبي (72 عاما)، بنسبة تفوق 60%، ويُعلن كممثل لوسط اليمين في الـرئاسيات الفرنسية لـسنة 2017، بعد أن كان للمناظرة التلفزية للمرشحين يوم 24 نوفمبر دور كبير في ترجيح كفة فيون.

 

لكن لماذا عملت الآلة الإعلامية الفرنسية على تهييج الرأي العام بأهمية تمهيديات نوفمبر 2016؟ والتأكيد على أن الفائز فيها سيكـون الـساكن الجديد بقصر الإليزيه ابتداء من ماي 2017؟ ولماذا حُصر التنافس الانتخابي إعلاميا بين وسط اليمين واليمين المتطرف دون اليسار؟ وهل مشاركة 4 ملايين ناخب في تمهيديات حزبية في نوفمبر ستحدد المصير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدولة يفوق سكانها 60 مليون نسمة؟ وأخيرا، هل ستُعلن نهاية الجمهورية الخامسة في ماي 2017؟

 

الكثير من الأسئلة الحارقة تفرض نفسها بقوة لقراءة المشهد السياسي الفرنسي، وتوازنات وتوافقات سياسية وفكرية واقتصادية، تجْعلُ المتتبع يقر بأن لا شيء محـض صدفـة.

 

ففرانسوا فـيُون نفسه وصف برنامجه “بالثوري والصادم”، وأضاف أن فرنسا تحتاج إلى لغة الصراحة لمعالجة كل قضاياها؛ بمعنى آخر أنه هو رجل المرحلة وليس شخصا آخـر، وهو ليس بالوجه الجديد في الساحة السياسية الفرنسية، بل يجر معه تجربة تمتد لأربعيـن سنة، منذ أن كـان مساعـدا سنة 1976 للبرلماني جويل لو تويل، ثم أصغر برلماني بالجمعية العمومية سنة 1981، وحمل حقائب وزارية مختلفة خلال التسعينات من القرن الماضي، ثم أصبح وزيـرا أولا في حكومة ساركوزي (2007-2012).

 

تعهد فرانسوا فيون بإعادة تنظيم وسط اليمين وإعادة الثقة للناخبين بعد فضائح ساركوزي، وبإخراج فرنسا من أزمتها بتدابير سريعة وفعالة، بحسب تعبيره. وهي بالمناسبة، تدابير تدعو إلى الكثير من التساؤل من حيث حدتها وتأثيرها على فئات عريضة، خاصة من الطبقة المتوسطة، في حين غـازل القطاع المالي ورجال الأعمال الفرنسيين من خلال الرفـع من سن التقاعد إلى 65 سنة ابتـداء مـن سنة 2022، وأيضا الرفـع من ساعات الـعمل إلى 39 ساعـة في الأسبوع، وإعادة النظر في نظام الـمساعدات الاجتماعية ومنح التعويض عن البطالة، بالإضافة إلى تدابير تهم سوق الشغل وخوصصة قطاع الصحة والرفع من الضريبة على القيمة المضافة…

 

ولم يفوت فيـُـون، الـيميني المحافظ، فرصة بعث رسائل الغزل إلى الناخب الكاثوليكي من خلال الدفاع عن قيم الكاثـوليكية والعائلة الكلاسيكية؛ لهذا فـقد وعـد بمراجعة “قانون توبيـرا” الذي يُـجيز للأزواج المثليين تبني الأطفال، كما أنه شخصيا ضد الإجهاض، لكن ليس في نيته إعادة النظر في قانون صوتت عليه فرنسا سنة 1975.

 

كما تضمن البرنامج “الراديكالي” لفيون تدابير لتوفير حوالي 100 مليار يورو من خلال التشطيب أو إلغاء 500 ألف منصب شغـل في الوظيفة العمومية لتخفيف النفقات العامة. وبقوله إن فرنسا “لا تحتاج إلى وزير داخلية بـاختصاصات كبيـرة”، يُـجيـب على موضوع الهجـرة والإرهاب، ويُـضيف أن فرنسا ليست دولة متعددة الثقافات، بل لهـا تاريـخ ولـغة وثقافة، وهي مُحددات لهويتها الوطنيـة، مما لا يدع مجالا للشك أن الطبقة الوسطى الفرنسية والجاليات المسلمة ستُعاني كثيرا في حالة فـوزه بالرئاسة، وأنه لا يعير اهتماما للحجم الانتخابي لهذه الفئة لأن كل هذه التدابير لا تُغريها بدعمه والتصويت عليه، بل فيها الكثير من الـتشابه مع مواقف اليمين المتطرف، خاصة من ملفات الهجرة والهوية الوطنية.

 

ويبدو أن فيون متأثر بنموذج الـ “ترومبيزم”، نسبة إلى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالـد ترامـب، مـن حيـث تحقيق تقارب استراتيجي مع روسيا بوتين، والتحالف مع سوريا لمحاربة إرهاب “داعـش”. وهي مواقف لا تتماشى مع توجهات المؤسسات الأوروبية ولن تحقق إجماعا بين دول الاتحاد.

 

لقد اعتمد فرانسوا فيون والتيار الممثل له البنيات الحجاجية نفسها التي استعملها اليمين المتطرف من أجل التقرب من الناخب الفرنسي، من خلال استغلال فشل حكومة اليساري فرانسوا هولاند في تخفيـف تداعيات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وانتقاد ارتفاع معدلات البطالة والاحتقان الاجتماعي الذي خلفته الاحتجاجات ضد قانون الشغل الجديد، دون نسيان الخطب التخويفية والتحذيرية التي رافقت تدفق موجات اللجوء والهجرة والأحداث الإرهابية في باريس ونيس…

 

وهنا لا بد من الإشـارة إلى الدور الكبير الذي لعبه مثقفـون وكُـتًاب فـرنسيون كمؤثـرات خاصة في تأجيج الاحتقان الاجتماعي والـديني، عبر نشر كتب وصلت مبيعاتها أرقاما خيالية، تجاوزت 500 ألف نسخة. نتحدث هنا عن كُتاب من عيار إريك زمُور، وميشيل هويلبيك، وجيل كيبل، وأوليفيي رُوْي صاحب كتاب “الخوف من الإسلام”، وحتى الفيلسوف اليساري ميشيل أونفـري عبًر عن غضبه من الحزب الاشتراكي، وانتقد سياسات حكومة هولاند التي اعتبرها اشتـراكية ليبيرالية تذعن لمصالح المؤسسات المالية والخواص!

 

ورغم كـل هذا لازال المشهد السياسي الفرنسي يعيش في انتظار مفاجئات تمهيديات الحزب الاشتراكي في يناير2017، وسباق الثنائي فـرانسوا هولاند ومانويل فالس، لتمثيـل الحزب الاشتراكي الذي تبدو حظوظه ناقصة في رئاسيات 2017، حتى وإن كان التاريخ يُذكرنا بأن في سنة 2002، في النهائي المثير بين شيراك وجـون ماري لوبان، صوت الناخب اليساري لصالـح شيراك اليميني! وهو سيناريو يتحدث العديد من المراقبين على إمكانية إعادته سنة 2017 بما أننا نعيش في زمن المفاجآت السياسية.

 

ومن بين أكبر المفاجآت في الساحة السياسية الفرنسية هناك السيدة مارين لوبان التي عملت منذ 2011 على القطع مع كل أفكار والـدها جون ماري الراديكالية، واتخذت من شعـار “باسم الشعب” عنوانا لثورتها الشعبية ضد حكومات النخـب….

 

كما أن تـمدد تيارات اليمين المتطرف في دول أوروبا في تزايد مستمـر، وهو ما يجعل زعيمة حزب الجبهة الوطنية تريد تقليد بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتبنت العديد من الأفكـار الاشتراكيـة كحماية حقوق العمال (الفرنسيين طبعا)، والرفع من الحد الأدنى للأجور، ومحاربة جشع الشركات متعددة الجنسيات…

 

ولتأكيـد الـقطيعة مع أفكـار حزب والدها، فقد اكتفت مارين باسمها الشخصي فقط دون اسـم والدها في ملصقات الحملة الانتخابية، وأيضا “وردة الاشتراكييـن” لكن باللون الأزرق. فهل يكون ذلك من أجل مغازلة الناخب اليساري الغاضب من سياسة هولانــد؟

 

من كل هذا، يتبين أن كـل الاحتمالات واردة في الرئاسيات الفرنسية المقبلة، في زمن الـمفاجآت، بما فيها صحوة الطبقة الـمتوسطة وتصويتها لليسار، وأيضا وصول مارين إلى قصر الإليزيه، مما يؤكد المؤشرات التي قد تهز عرش الجمهورية الفرنسية الخامسة.