الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

اهتزتْ مشاعر الإنسانية وهي ترى جثة الصغير السوري “إيلان” وقد لفظته أحد شواطئ تركيا في شتنبر من العام الماضي، وشكلت ضربة موقظة للضمير الإنساني لدى المنظمات الحقوقية الأوروبية التي ضغطت من أجل استقبال موجات اللجوء غير المسبوق نحو أوروبا هربا من الحرب و الدمار والعنف.

 

كما أحْرجتْ ملامح الطفل السوري “عمران” من هول الأنقاض في غشت 2016 وحيرته أمام عدسات الكاميرات النفاق السياسي العالمي، وأظهرت وصول جزء كبير من الإنسانية بالفعل إلى تحت الأنقـاض، مع هذه اللامبالاة والتجرد الكلي.

 

وهللتْ وسائل الإعلام الغربية لقيام البابا فرانشيسكـو بزيارة لجزيرة لـيسْبُـو اليونانية في أبـريل 2016، حيث يتواجد مئات اللاجئين، وحمل معه حوالي 12 فردا من المهاجرين المحاصرين على طائرتـه البابـوية إلى مدينـة روما، في حركة إنقـاذ هوليودية أثارت رمزيتها جمعيات حقوقية ومنظمات إنسانية وأحزاب سياسية، ودفعتْ في اتجاه اتخاذ خطوات إنسانية لحل أزمـة الهجرة واللجوء بأوروبا.

 

هي ثلاث صور إنسانية ساعدت بالفعل الضمير الإنساني لاستعادة بعض من حيـاته، وجعلتْ من مُساءلة قـواعد العيش الـمشترك حاجة استعجالية. وهكذا، تجددت المطالبة بإعادة النظر في العديد من قوانين الهجرة، خصوصا في أوروبا؛ وفي مقدمتها معاهدة جنيـف للجـوء لسنة 1951، وأيضا إعادة النظر في حصص دول الاتحاد الأوروبي من اللاجئين والمهاجرين، وهو الأمر الذي كان له تأثير على العديد من توازنات السياسات الداخلية للدول الأوروبية في عز الأزمة الاقتصادية، وتمدد معه خطاب أحزاب اليمين المتطرف سـواء في النمسا أو فرنسا أو ألمانيا أو هنغاريا وغيرها.

 

إن العديد من المراقبين يُقرون بأن تدبير أوروبا لأزمة اللجوء والهجرة يخضع لمعاييـر سياسية واقتصادية أولا، بمعنى منطق “الربح والخسارة”، أكثر من خضوعه لدواع إنسانية؛ حتى وإن كانت وسائل الإعلام في الدول الأوروبية المستقبلة للمهاجرين واللاجئين تعمد إلى التركيز على معيار التضامن الإنساني كنوع من الوفاء بالالتزامات الإنسانية لهذه الدول وأيضا كنوع من التنفيـس الذاتي للإنسان الغربي عموما.

 

وهكـذا، لاحظنا كيف أدارت تركيا مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي بخصوص ملف اللاجئين، مغلبة منطق “الربح والخسارة” والتوافقات الإستراتيجية والربح المادي والسياسي. كما لا حظنا كيف استغلت أحزاب اليمين المتطرف وكذا الحركات الاحتجاجية موجة اللجوء والأزمة الاقتصادية للتمـدد أكثـر داخل مجتمعاتها وكسب مساحات جديـدة داخل الكتلة الناخبة الأوروبية، بالتركيز على خطاب الكراهية للأجانب والتحذير من تدهور الأزمة في حال استقبال المهاجرين. ووفق منطق “الربح والخسارة” لاحظنـا الأحزاب الاشتراكية والتقـدمية والديمقراطية أصبحت تنهل من خطابات إيديولوجية متطرفة لأحزاب اليمين، لكي لا تخسر مزيدا من المؤيدين في ظل صراعها السياسي وترتيب أوراقها الانتخابية.

 

 

ولم يقتصر الأمر على أطراف محددة داخل الدور الأوروبي، وتعداه إلى تبني مواقف مناهضة للهجرة من لدن دول بذاتها، حيث وصلت خطورة أزمة الهجرة واللجوء إلى درجة دفع دول إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كما هو الشأن بالنسبة إلى بريطانيا، حيث كانت الهجرة من أبرز الشعارات المرفوعة في الاستفتاء الشعبي لـ23 يونيو 2016 لخروج إنجلترا من الاتحاد؛ وهو ما أسفر عن نتيجة في صالح الخروج، وأطاحت برئيس الوزراء المنتخب دافيد كامرون.

 

وفي انتظار مصادقة البرلمان البريطاني على خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي، قبل التوجه رسميا بطلب الخروج من نادي بروكسيل، هناك تهديدات جدية من إسكتلندا بتنظيم استفتاء للانفصال عن لندن والبقاء في الاتحاد الأوروبي، دائما إعمالا لمعيار «الربح والخسارة»، دون أن ننسى الخوف من هجرة المؤسسات المالية والبنكية العالمية في اتجاه فرانكفورت أو باريس، وانتكاسة الجنيه الإسترليني؛ وهو ما يؤجل بداية المفاوضات حول الخروج بين حكومة تيريزا ماي وبروكسيل.

 

لكن الوجه المأساوي والمسكوت عنه في كل هذه المتاهات السياسية والاقتصادية هو ذلك المتعلق بالمهاجرين المرابطين بغابة مدينة “كاليه” على الحدود الفرنسية البريطانية ينتظرون فرصة العبور نحو بريطانيا؛ حيث تعقد الأمر أمامهم بعـد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتبخرت أحلامهم بمعانقـة بلاد الضباب، وأفقدهم بصيص الأمل الأخير المتبقي أمامهم لعبور قناة المانش.

 

وكُلُّنا يتذكر معاهدة “تُوكُويت” سنة 2003 الخاصة بالترتيبات الحدودية بين فرنسا وبين بريطانيا. وقبل هذا التاريخ في التسعينيات، كان مركز لاستقبال المهاجرين ببلدية «سانغات» القريبة من كاليه، وبعد ذلك تناسلت المخيمات بطريقة عشوائية على مساحة 10 هكتارات في تسعة مخيمات وحوالي سبعة أو ثمانية آلاف مهاجر في وضعية غير قانونية جلهم من الأفغان والسودان (فروا من نزاع دارفور)، وإيريتريا والعراق وسوريا…

 

لقد أصبح ما يسمى “بمخيمات غابة كاليي” أكبر تجمع عشوائي للمهاجرين واللاجئين في فرنسا؛ وهو ما جعل السلطات الفرنسية تُباشر إخلاء وتفكيك الجزء الجنوبي منه في مارس 2016، تحت ضغط جمعيات حقوقية نددتْ بغياب أدنى ظروف العيش وتفاقم الأوضاع الصحية مع انتشـار الأمراض وكذا بسبب تبلور صراعات داخليــة (كما حدث بين السودانيين والإيريتريين) والتحرش الجنسي، والعنف ضد النساء، ووجود حوالي 1300 قاصر غير مرافق بهذه المخيمات.

 

في 18 أكتوبر 2016، ستُصدر المحكمة الإدارية لمدينة ليل الفرنسية قرارا بإخلاء وتفكيـك مخيمات غابة كاليه، لـتُباشــر من جديد السلطات الفرنسية يوم 24 أكتوبر عمليات الإخلاء الكلي للمخيمات وإعادة توزيع قاطنيه عبر التراب الفرنسي تحت إشـراف بيـرنارد كازنوف وزير الداخلية، الذي صرح بأن كل شيء تحت السيطرة بعد أحداث الشغب وإشعـال النار في المخيمات. وقد أشرف على عمليات الإخلاء حوالي 1200 شرطي ودركي و40 مترجما، وحافلات خاصة لنقل مهاجري مخيمات كاليه إلى حوالي 450 مركز استقبال بكل التراب الفرنسي مع التنبيه إلى أن جزءا منهم سيتم ترحيله، خصوصا من لا تتوفر فيهم شروط طلب اللجوء.

 

ولم نلمس في كل هذا المسلسل ذلك الزخم الإعلامي الدولي بل فقـط إشارات متفرقة هنا وهناك مع تحليلات محتشمة لمراقبين ذهبت إما في اتجاه تسييس الأمر وربطه برغبة لندن بعدم استقبال المزيد من المهاجرين واللاجئين؛ أو ربط إخلاء مخيمات كاليه بالانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2017 خاصة مع زيارة الرئيس هولاند لكـاليه في شتنبر 2016 وكذا إعادة إثارة “معاهدة توكويت” الموقعة من لدن ساركوزي سنة 2003 بصفته وزير الداخلية آنذاك، في وقت ذهبت فيه تحليلات طرف ثالث لربطه هذه الخطوة بالتنـافس الانتخــابي والإيديولـوجي!

 

وبين صورة الغريق “إيلان” والمحظوظ “عمران” وإنقاذ البابا لـ12 من للاجئيـن “الناجين” بجزيرة لـيسبو اليونانية عبر الطائرة البابوية، وصورة نيران تلتهم مخيمات كاليه، وطابور المهاجرين أمام حافلات غلفت كراسيها بالبلاستيك في انتظار نقلهم إلى حلم آخر وأمل جديد، تتعـرض صورة الإنسانية للخدش وتواجه العيش المشترك العديد من التحديات، ونخلص إلى أن قضية الهجرة واللجوء بصفة خاصة أصبحت ملفا إستراتيجيا في مجال العلاقات الدولية، يحرك أرواقا سياسية واقتصادية وينشط معادلة “الربح والخسارة”.