»
الاخبار المهمة »
أعطاب تسِم الحملات الانتخابية .. وأحزاب تستنسخ شعارات الماضي.
الدكتور عبدالله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.
تربع فيلم “خطاب الملك” لمخرجه “طوم هوبير” على عرش السينما سنة 2011، وفاز في كل المهرجانات الدولية، وبأربعة جوائز أوسكار في السنة نفسها، ومن بينها جائزة لبطل الفيلم “كولن فيرث”. وتتطرق مشاهد الفيلم إلى الحياة السياسية في بريطانيا، حيث جسد الممثل البريطاني كولين فيرث دور الأمير ألبيرت، الابن الثاني للملك جورج الخامس، والذي كان يعاني من صعوبات في النطق.
لقد تألق الممثل “كولن فيرث” في نقل آهات وانكسار نفسية الأمير وهو وسط آلاف من الحضور في ملعب ويمبلي اللندني، حيث خجلت الكلمات من الخروج من فمه، وبقي يتلعثم في مشهد رهيب وسط ذهول الحضور وترقب المستمعين بجانب أجهزة الراديو ثـم صمت قاتل.. وفي المشهد نفسه أبدع المخرج “طوم هوبير” في رسم صورة أكثـر روعة، حيث بدا تأهب الأمير للكلام وكأنه يتأهب لإطلاق نار من مدفعية الميكرفـون في مشهـد حربي غلب عليه صهيل الخيول وتراص الفرسـان فوق عشب ملعب ويمبلي..كـل هــذا كــان سنة 1925 .
ولأن الفيلم محاكاة لقصة حقيقية، فإنه وثق لحدث مهم في التواصل السياسي من حيث صعوبته واستعداداته، خاصة النفسية وقوة الشخصية ومضمونه، بالإضافة إلى استعمال جهاز الراديو كأداة فعالة للتواصل السياسي آنذاك.
إن تاريخ الإنسانية يزخر بخطباء كبار تركوا بصمتهم، كالحجاج وطارق بن زياد، وجمال عبد الناصر، وغاندي ومانديلا، ولوثر كينغ، ووينسطون تشيرشيل الذي سيبقى خطابه لسنة 1940 في البرلمان اللندني خالدا وهو يدعو إلى التعبئة وبذل الجهد من أجل النصر والتفوق على سلاح الجو الألماني.
كما يسجل التاريخ خطبا خالدة لملوك مغاربة، مثل خطبة طنجة لجلالة المغفور له الملك محمد الخامس، كما أن خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس في ذكرى ثورة الملك والشعب حظي بتجاوب عالمي من كبار الزعماء والسياسيين، لما تضمنه من عبر ورسائل تطوق خطاب العنف والكراهية باسم الدين وتدعم قيم العيش المشترك واحترام الآخر في جميع المجتمعات الإنسانية.
كل هؤلاء تجمعهم قوة خطاباتهم، ورصانته العلمية، ودقتهم الغوية، إضافة إلى حضور البديهة أثناء الإلقاء، وذكاء ملقي الخطاب، ما جعلهم يتفوقون إلى حد كبير في التواصل مع مخاطبيهـم والوصول إلى عقولهم بلغة سلسة يفهمها الجميع، عززها حضورهم على الساحة السياسية كفاعلين مؤثرين أو كقادة بكاريزما عالية، وأكثر ما يتميزون به هو الأسلوب le style ..والأسلوب كما قال الفيلسوف والمنظر الفرنسي باسكال هو ما يصنع الرجل.
وإذا كان الخطاب أو التواصل السياسي اعتمد في السابق على الكاريزما أو الشخصية القيادية للسياسي، فإن التواصل السياسي اليوم أصبح علما مستقـلا بذاته، وأفردوا له العديد من المسميات، كالتسويق السياسي أو التسويق الانتخابي، بمعنى تأثره بمفهـوم التسويق، أي العرض والطلب، وما يرافق ذلك من إحصائيات وأرقام تجعله يستقل بذاته ويتفرد عن باقي أشكال التواصل الأخرى؛ فهو بذلك تخصص مستقل له قواعده ورموزه التي تكون أحيانا بديلا أساسيا يحل محل الكاريزما السياسية وقوة الشخصية.
الرئيس الفرنسي فرنسوا هــولانــد على سبيل المثال، حسب مجموعة من المحللين، كان يفتقد في البداية إلى صفة السياسي المحنك والقيادي الذي لا يشق له غبار، لكن تواصله السياسي كان جيدا، إذ حرص على مضمون خطاباته وتحسين صورته والاهتمام بتفاصيل مظهره، إلى درجة اتباعه حمية لإنقاص الوزن.. وهي أمور ذات أهمية ولها تأثير غير مباشر على اختيارات الناخبين. وربما هي التفاصيل نفسها التي جرت على منافسه ساركوزي انتقادات وتحليلا سلبيا، فقط لأن نظرته في ملصقه الرئيسي خلال الحملة الانتخابية لسنة 2012 وهو يتطلع إلى الأفق، كانت متجهة نحو بحر إيجه، ما جعل التحليلات السيميولوجية للصورة تذهب إلى أن سياسة ساركوزي تسير بفرنسا إلى نفس مصير الأزمة الاقتصادية اليونانية.
من هذا المنطلق، يهدف التواصل السياسي إلى إعادة حياكة خيوط الثقة والشرعية بين الناخب ورجل السياسة، باستعمال لغة الشفافية، وهي ليست بالأمر السهل؛ ولأنه ينتعش أكثر في فترة الحملات الانتخابية، فإن التواصل السياسي يرمي أيضا إلى تسويق البرنامج الانتخابي بلغة واضحة تُبرز القيم والخطوط التي تميز بين المرشحين والأحزاب التي ينتمون إليها، ويعمل على إقناع الأفراد بالتصويت لهذا المرشح أو ذاك، أو حتى تغيير التوجه الانتخابي للمواطنين في إطار التنافس السياسي بين الأحزاب؛ لذلك أمكن القول إن التواصل السياسي ركن أساسي في الممارسة السياسية.
لم يسلم أيضا مضمون الخطاب أو التواصل السياسي من التطور والتأقلم مع الواقع، لأن الناخب أصبح بمثابة جسم يتغير ويتطور وتتمدد أفكاره السياسية وتنكمش أيضا تحت تأثير الأحداث والوقائع. وهذا ما يُبرر في الكثير من الدول انخفاض عدد المتعاطفين والمنخرطين الذين يؤدون قيمة بطاقة الانخراط في الحزب الذي ينتمون إليه، وهي ظاهرة أثبتتها العديد من الدراسات في أوروبا على وجه الخصوص.
لم يعد مقبولا أن تتم صياغة مضمون البرنامج الانتخابي داخل مكاتب مكيفة، أو من خلال اجتماعات بعناصر محدودة وبأبواب مغلقة؛ بل إن تطوُر إستراتيجيات التواصل فرض ضرورة بلورة البرنامج الانتخابي بشكل مشترك مع المواطن، والاستعانة بخبرات مجموعات التفكير (تينك – تانك) والمجتمع المدني، ومع مجموعات مؤثرة تُساهـم في عمليات الإنصات والتعديل والاقتراح، وفق تمثلات حزبية، وأيضا احتراما لخصوصيات جغرافيـة وسوسيولوجية.
ويبقى الأهم من كل هـذا أن أدبيات الخطاب السياسي تفرض فيه المزاوجة بين العاطفة والعقلانية أو الواقعي والابتعاد عن الدعاية والبْرُوبغاندا وحملات التضليل والتشهير وتغـليب مؤثرات العاطفـة على المقترحات العقلية والمعطيات الملموسة التي تبني البرامج الحزبية المتنافسة على السلطة.
لقد اهتم دارسُو إستراتيجيات التواصل السياسي كثيرا بشعارات البرنامج “slogan”، سواء كان ذات هـدف حقوقي، كشعار “لدي حُلم” لمارتـن لوثر كيتغ، أو لهدف انتخابي، كما دأبت على ذلك الحملات الانتخابية الأمريكية منذ الرئيس أيزنهـاور سنة 1952.
الشعار له قوة خارق تطغى على البرنامج الانتخابي، ويلتصق بهوية المرشح وبتسويق لصورته، عبر مواكبة أنشطته قبل الانتخابات، كالمشاركة في أعمال خيرية وتطوعية وحتى أنشطة حقوقية.
كما أن قوة الشعار كنوع من التواصل السياسي جعلته أولوية في الانتخابات الأمريكية، إذ إن الرئيس رونارد ريغـان مثلا طـرح سـؤالا كشعار لحملته الأولى، وهـو “هـل أنتم بخير الآن أم في السنوات الأربع الماضية؟”، قاصدا بذلك أيام الرئيس جيمي كارتر، التي تميزت بصعوبـات اقتصادية وأزمة الرهائـن، وغيرها من الأحداث، ليعود ريغان في حملة ولايته الثانية بشعار “إنه الصباح في أمريكا”.
ولكي يُعبر باراك أوباما عن رغـبة الـشعب الأمريكي في التغيير فقد طالبه بالانضمام إليه عبر شعار “نعم، نستطيع”، وبمعنى آخـر أن أجيالا كثيرة تحفـظ وتتذكر شعار “لدي حُلم” لمارتن لوثر كينغ، و”نعم نستطيع” للرئيس أوباما، دون التفاصيل الأخرى من البرنامج، لذلك قلنا إن شعار البرنامج هو أكثر قوة من البرنامج نفسه، وهو ما يفسر كونه يحظى بعناية وباهتمام أكثر وتُخصص له لجان للاختيار، ويكون موضوع مداولات وحوارات طويلة داخل مطبخ الحزب الداخلي.
ينتابنا إحساس ونحن على أبواب التشريعيات المغربية لـ7 أكتوبر بأنها مُشكل نُخبوي، إذ إن جُل الأحـزاب لم تنتهي بعـد من ترتيب بيتها الداخلي، وإعلان مرشحيها حسب الدوائـر؛ بل ظهرت تصدعات داخلية سببها اللائحة الوطنية أو لائحة الشباب وكذا منهجية منح التزكيات. وما يحز في النفس أكثر هو ترحال بعض المرشحين بكل سهولة من حزب بأيديولوجية يسارية مثلا، إلى آخر بإيديولوجية ليبرالية أو إسلامية، ما يجعل الاعتقاد يذهب إلى أن ما يُحرك المرشح نفسه، ليس المساهمة في البناء من خلال الانتساب إلى برنامج حزبي جدي، بل ضمان التزكية والكرسي بالبرلمان… إلى جانب ظواهر أخرى تؤثر في مصداقية التواصل السياسي لتلك الأحزاب، وتؤثر في تسويق صورة المرشح الباحث فقط عن مقعـد تحت أي عباءة سياسية. ومما يساهم في إضعاف الخطاب السياسي الحزبي من الناحية الرمزية، تردد العديد من رؤسـاء الأحزاب في الترشـح للانتخابات خوفا من حصد الفشل؛ الأمر الذي قد يُفسـر على أنه هروب زعماء الأحزاب من عقاب انتخابي وفشل قد يُبرر المطالبة باستقالتهم الحزبية، ويدفع المنخرطين في الحزب إلى التلويح بورقة المحاسبة.
إن أعطاب التواصل السياسي تُصيب أيضا شعارات الحملات الانتخابية التي تتشابه في عمومياتها وتتبايـن في فلسفتهـا الإيديولوجية، حتى إنها باتت مستعصية على الفهم لدى غالبية الناخبين، والبعض الآخر يستنسـخ شعارات الماضي، ويعيد إحياءها في محاولة لاستعادة مجد غابر. أما الناخب فيجد نفسه أمام برامـج حزبية بتشخيص مُمل لواقـع يعـرف تفاصيله، وبعُمْق في تسطيـر الاختلالات، لـكـن مع فقر في توضيح طريقـة وكيفية تنفيذ هذه البـرامج على أرض الواقع، خصوصا وأن جلها برامج فقيرة من حيث الأرقام والإحصائيات، وفقيرة من حيث تحديد سقف زمني معقـول للإنجـاز في إطار تعاقد سياسي للحزب مع الناخب الذي اختلطت عليه مفاهيـم التواصل السياسي الجدي مع البْرُوباغانْدا والتضليل السياسي.
إننا لا نُحبذ الخطاب العدمي أو الخطاب المنمق بمساحيق المُجاملة، بل الأفضل أن يكون هناك خطاب المكاشفـة والعتاب داخل أفراد الأسرة السياسية المغربية الكبيرة.. نستفيد من الأخطاء ونحاول تجاوزها ونبني بشكل جماعي مجتمع النماء والازدهار وندعم خيار الديمقراطية السائرين في دربه، ونُناقـش الأفكار ونتجادل، ونختلف لكن بمسؤولية، خاصة ونحن مُقبلين على تمرين ديمقراطي مُهم يوم 7 أكتوبر.
لا نريد لمساحات الصمت والتردد أن تطبع التواصل السياسي، وإلا سنكون ملزمين بحصص تدريبية ودورات تقويمية، كما فعـل الأمير ألبرت حتى أصبح قادرا على قراءة “خطاب الملك”، ليصبح جورج السادس ملك بريطانيـا، مُعلنا الحرب على ألمانيا سنـة 1939 عبر أثير إذاعة بي بي سي اللندنية، كما جــاء في التحفة الفنية فيلم “خطـاب الـملك”.