الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج الدكتور عبدالله بوصوف.
في سنة 1973 وقعت بريطانيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن هذه العضوية سرعان ما تعرضت للانتقادات من طرف البريطانيين، فتم تنظيم استفتاء شعبي سنتين بعد ذلك، فاز فيه المؤيدون لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بنسبة 67 في المائة من مجموع المصوتين. إلا أن استمرار بريطانيا في عضوية الاتحاد لم يمر من دون لحظات اختلاف حول مجموعة من المواضيع التي غالبا ما تنتهي بمحاباة بريطانيا وتمكينها من تعامل تفضيلي مقارنة مع باقي الدول.
فمنذ دخول بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي قبل 43 سنة لم تتوقف الاختلافات بين دول الاتحاد وبريطانيا التي لطالما اختارت وضع قدم داخل المنظومة الأوروبية وقدم أخرى خارج السرب، ففي سنة 1985 وقعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اتفاقية شنغن التي سمحت بعد دخولها حيز التنفيذ سنة 1995، بحرية تنقل للأشخاص المنتمين إلى الاتحاد الأوروبي أو المقيمين به في فضاء الدول ال26 الموقعة على الاتفاقية، بحيث يمكنهم التنقل بين دول الاتحاد من دون التعرض لتفتيش على الحدود أو إلزامية لجواز السفر،
إلا أن بريطانيا استفادت في ظل هذه الاتفاقية من وضع خاص خول لها الالتزام بجزء صغير من مقتضياتها مثل المساهمة في العمليات الأمنية والقضائية فيما يتعلق بالجنايات والمساهمة في البرنامج المعلوماتي المتعلق بالمعطيات الخاصة بالمواطنين في فضاء شنغن، مع الحفاظ على المراقبة فوق حدودها أمام جميع الوافدين عليها وعدم الاعتراف بتأشيرات شنغن بالنسبة للمواطنين من خارج الفضاء الاوروبي.
نفس الوضع الخاص وجدت بريطانيا نفسها في خلال توقيع الدول الأوروبية على اتفاقية ماستريخت في فبراير 1992. فما إن دخلت حيز التنفيذ سنة بعد ذلك، فرضت تعديلات أثرت على مفهوم الاتحاد مثل اعتماد تسمية الاتحاد الأوروبي، وتبني دستور جديد والاعتراف بالجنسية الأوروبية المكملة للجنسية الوطنية، وكذا تنبني عملة موحدة هي اليورو، ولكن بريطانيا رأت أنه في غير مصلحتها الانضمام لعملة مشتركة مع دول أخرى فشكلت الاستثناء وفضلت الاحتفاظ بالجنيه الإسترليني…
يوم 23 يونيو 2016 سيكتب البريطانيون صفحة أخرى من كتاب الحب الغير متبادل بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وهذه المرة يجرى الاستفتاء على حول البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي في سياق خاص يطبعه على المستوى الجيوسياسي صعود اليمين المتطرف في أكثر من دولة أوروبية وفي داخل بريطانيا أيضا، بالإضافة إلى موجات الهجرة واللجوء التي أصبح تدبيرها أحد أولويات السياسيات الأوروبية؛
لذلك فلا غرابة في أن يمثل ملف الهجرة واللجوء أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت إلى إجراء هذا الاستفتاء، واحدا من أكثر الملفات إثارة للاختلاف بين مؤيدي ومعارضي بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
كما سارت على ذلك أحزاب اليمين المتطرف في جميع الدول الأوروبية يعلق مجموعة من المطالبين بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عددا من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها بريطانيا على الهجرة والمهاجرين، حيث يطالب أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي في اللاجئين والمهاجرين الذين يتوافدون على بريطانيا، بالرغم من تشديد حكومة ديفيد كامرون بعضا من قوانين الهجرة للحد من توافد الأجانب، بخفض نفقات الرعاية الاجتماعية التي يستفيد منها الأجانب وتسخيرها في تحسين الخدمات العامة، كما يرون في المهاجرين بما فيهم المنتمين إلى دول الاتحاد الأوروبي تهديدا لوظائف البريطانيين مما يدفع إلى ارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين البريطانيين؛ وهي دعوات لا تحد من انتشارها مساهمة المهاجرين بشكل كبير في الضرائب التي تستفيد منها خزينة الدولة من دون تكاليف، وكذا دورهم المحوري في تحريك عجلة الاقتصاد وفي الثراء الثقافي وتنوع مكونات المجتمع البريطاني.
إن التحولات الخطيرة المصاحبة لاستفتاء بريطانيا والانقسامات السياسية والمجتمعية حول مصير بريطانيا ستكون لها انعكاسات خطيرة على الهجرة سواء في حالة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه؛ فتصويت البريطانيين بالانسحاب سيشكل لا محالة صدمة لاقتصاد الأوربي بحكم أن هذا الأخير هو الشريك الاقتصادي الأول للمملكة المتحدة، إذ شكل سنة 2014 حوالي 45% من الصادرات البريطانية و53% من الواردات، كما أن مركز لندن المالي يعتبر الأهم على الصعيد الأوروبي والانسحاب من الاتحاد قد يدفع لأبناك الأوروبية الكبرى والشركات المهمة إلى البحث عن مركز آخر لإجراء تعاملاتها، وهو ما سينعكس سلبا على قيمة الجنيه الإسترليني أمام العملات الأخرى، وكل هذا قد يجعل شبح الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 تخيم من جديد على أوروبا وما يرافقه من انعكاسات اجتماعية عميقة سيتضرر منها المهاجرون واللاجئون في بريطانيا بصفة خاصة لأنهم من بين أكثر الفئات هشاشة.
أما البقاء المشروط لبريطانيا فيرجح أن يفتح الباب على مصرعيه لليمين المتطرف الذي سيجد أرضا خصبة لنشر أفكاره الرافضة للأجانب والمشجعة للتخويف منهم والحد من حريتهم داخل المجتمع والتضييق على فرصهم في الشغل وفي باقي مناحي الحياة العامة، ولا غرو في أن قتل النائبة البريطانية عن الحزب العمالي جو كوكس المعروفة بتأييدها للبقاء في الاتحاد الأوروبي ودفاعها عن المسلمين والمهاجرين، يمكن اعتباره مؤشرا على نزعة العنف التي أصبحت تجد لها آذانا صاغية داخل المجتمع البريطاني والتي لن تتوقف بالتصويت من أجل البقاء أو الخروج من الاتحاد.
وليس كافيا في الحالة البريطانية أن تضمن الديمقراطية للأغلبية حق الاختيار، فالفارق في استطلاعات الرأي ليس كبيرا بين المعسكر المؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي والمعسكر الراغب في البقاء، وبالتالي فسيكون من الصعب على بريطانيا الصمود خارج منظومة الاتحاد الأوروبي وحوالي نصف شعبها يرغب في البقاء ضمنه، كما لن يكون من السهل تجاهل أصوات النصف الآخر من المجتمع الرافض للسيادة الأوروبية على بريطانيا في حال صوتت الأغلبية النسبية ببقاء البلاد داخل الاتحاد.
والأكيد بأن الاستفتاء في حد ذاته سيكون له في حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأثير الدومينو، ومن غير المستبعد أن تنتقل شرارة الانفصال إلى دول أوروبية أخرى بإيعاز من أحزاب اليمين المتطرف، وهو ما يهدد الوحدة الأوروبية ويضرب في العمق فكرة أوروبا الموحدة التي ناضل من أجلها الآباء المؤسسون أمثال جون موني وروبير شومان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.