الدكتور عبدالله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج.
حمايــة الأمــة ” هـو مشروع تقـدمت به الحكـومة الفرنسية بعـد أحـداث باريس الإرهابيـة…وقــد نبهنــا في حينــه الى ضـرورة الابتعــاد عـن اتخــاد تـدابير إنـفعـاليـة، تدابير لا تتماشي و تراث فرنسا السياسي و الحقوقي، كان الـهـدف منه مشروع حماية الامة هــو إمتصـاص غضـب الناخب والشــارع الـفرنسي فـي صـراع سيــاسـي مـع باقــي الاحــزاب وخاصة اليميـن الـمتطرف.
وقــد صـدق حــدسنـا، وتـم إلغــاء سحب الـجنسية كعقــاب للأشخاص الذين يقدمون على أعمال إرهابية .تم سحب المشروع لمــا في ذلك مـن تعــارض مع مفـاهيـم و روح الــقوانيـن الـفـرنسية ، و قبـل كـل ذلك فيــه ضرب لـمباديء الـجمهوريـة الـفـرنسيـة الــثلاث أي الحـرية والـعدالــة والـمساواة.
لكــن و قد ابتعدنا بما يكفي عن لحظة الانفعال و التصرف بمنطق رد الفعل الذي غالبا ما يكون جزءا من أهداف الإرهاب عندما يضرب، الان يحق أن نطرح السؤال لماذا حمل المشروع اسم “حماية الأمــة ” و ليس “حمايــة الجمهورية” مثــلا..؟ وهــل فـي استعمـال هــذا أو ذاك الـمصطلح تـعبـيـر عــن ” نــرفــزة مـرحليـة “…؟ أم أن قــوة الـمرحلـة تتطلـب إستعــمال معـاني قــويـة و إقـتـراح تــدابيـر قــويــة…؟
يـسـوقـنــا هــذا الـحديث ، الى تـقيـيـم دور الـفاعـل الايــديولـوجي أي الـمفكــر والـمثقـف وقـــوة تــأثيــره على الـفاعــل الـسياسي.بل وفي حالات أخــرى ، الاستعانــة بالفـاعـل الايـديولـوجي لـفهـم مبكانيـزمـات الـمرحلــة…؟
وإلا، فــهـــل سنعتـبر مثـلا إستعـارة الــرئيس الـفرنسي هــولند لـمصطلح ” حمايـة الأمـة ” هـو صدفــة فكــريــة أو ” تـوارد خـواطر” مع بعض المفكـريـن الفـرنسييـن مثــلا؟
الإشتغـال على ملفـات المهاجـرين والانـدماج و التـعايش بيـن ثقـافـات متعـددة و ديانـات متعـددة تحـت سقف واحــد ، لـم يكــن أبــدا حكرا على الـسياسيين بـل شكــل الـخبـز الـيومـي للمفكريــن و الـمثقفيـن والإعـلاميين أيضا، وقــد أثـــروا و ساهمـوا في نقــاش سيــاسي و اجتمـاعي يــومي ، و لــم يكــن الـسياسيون بعيــدون عـن دائــرة تــأثيــرهــم وهكــذا نجــد مـن الـسياسيين مــن تـبـنى أو يـعتمـد على دور المفكــر أو الـمثـقـف فــي تكــويــن أو تقــريب صورة عــن حــدث معيــن أو إشكــال معيــن، لـــدا وصفناه سـابقــا بالـفاعـل الايــديــولـوجي.
فالـمؤرخ الفـرنسي الـمزداد بمـراكش 1952 جــورج بنسوسـان، أصـدر سنة 2002 كتــابـا خصـه للحـديث عن إشكـالية الـضواحي تحت عنــوان ” المناطـق المفقـودة من الجمهوريـة ” وبعــد أحـداث باريس الإرهابيـة ، ذهـب بنسوســان أبعــد من ذلك بقــولــه إنها منـاطق مفقــودة مــن “الأمـــة” على اعتبــار أن الجمهوريــة هي نظــام سيـاسي أما الأمـــة فـهي الانخــراط في مجموعــة قيـــم و مبـــادئ.
ولـنـذهب أبعــد من هــذا، هـل كان الــمؤرخ بنسوســان يعني فــي كتــابــه الأول أن الــنظـام الـسياسي قــد أقـصى مهاجــري الضواحي وجعلهـم درجة ثانية في الاهتمامـات وأصبحنــا أمــام شعبيْـن و ببـرنامجيْـن؟
وهـل يعنـي قـــوله الـثاني و الـمتعلـق بالأمــة ،هل يعني وصــول الـهويــة الـفرنسية الى مــأزق حـقيقـي؟ وهــل نـفهــم مــن كــلامه أن أحــداث بــاريس هي نتــاج لـسياسة إحتقــان سيـاسي و اجتماعي بالـدرجة الاولــى؟؟
هنا يكون ضروريا استحضار مقــالات الصحفي الـمشاكس إيـريك زمـور، بجــريـدة لـوفيغـارو الباريسية، وخاصة مقالته الاخيرة “مـولينبيـك بفرنسـا”،( مولنبيك حي شعبي بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، مكتظ بالسكان، وتستقر به نسبة مهمة من المهاجرين ذوي الأصول العربية، ويتهم أوروبيا باحتضانه “عناصر متطرفة” نفذت أو شاركت في تنفيذ هجمات متعددة عبر العالم. ) كتابات إيريك زمور يمكن وصفها برمي مزيد من الحطب فــوق النـار، إنه يــدعــو للتعامــل بكل قســوة و بــدون نظــارات ايـديولوجيـة مـع الإرهـاب ، و أن مجــرد الـقيـام بحملات من أجـل تشجيـع الـتعايش و الاندمـاج بيـن ثقــافــات متعارضـة لا تـكـفـي!
ونكــاد نجـد صدى هـذا الكـلام في تصريـح الـسيد بـاتريـك كـانيير، وزيـر المدينة والشباب والــرياضة في حكومــة فـالـس، فقــد صــرح لـقنـاة اروبــا 1 بأن هنـاك مائــة مـن الأحيــاء الـشبيهـة بمـولينبيك في فــرنسـا. وأضاف أن مـولينبيك هي تمـركــز للبطالــة والـفقـر ونظـام مـافيـوزي واقـتصاد ســري و أن الخدمــات الــعمومية قــد اختفـت و يُضيف أيضا أنــه عنـدما يُـشيـر الـوزيـر الأول الـى فكـــرة “أبـارتيـد ” الــفصل الإقـليمي و الإجتماعي والعـرقي ، فـإن هــذا يعـني أن الـجمهورية لـيست في مستـوى مســؤوليتهـا داخــل هــذه الأحيـــاء!!!
لــم تتوقــف ردود الأفعــال داخـل الحزب الاشتراكي الفرنسي الرافضة ، لـمثـل تصريـح الــوزير الاشتراكـي ،بــل تفـاعــل معــه غيــره مــن الـسياسيين و خاصـة الـجمهورييـن ( حزب ساركوزي ) و أيضا الـيمين المتطـرف الــذي صفـق بحــرارة لـتصريـح وزيــر الـمدينــة و أنــه عـــرى فقـط عــن الـحقيقــة!
لا يحتـاج الأمــر إلى بــذل الـكثير مـن الجهـد ، ونـحن نســوق فقـط هــاذيــن الــمثاليــن لـفهـم الـــدور الكبير الذي يلعبــه المفكــر والـمثقف في بلــورة الـخريطة و البــرامــج السياسيـة، بل وأحيانا يكون السياسي ليس إلا أذات تنزيل أفكار المثقف او المفكر، و كيــف يستعينـون بالمفكـريــن أمثــال جيل كيبيـل الباحـث في الـتاريخ العربي الاسـلامي الـحديث وأستـاذ الـعلوم الـسياسية ، صاحــب كتــاب ” الـشغف الـعربي ” ثــم ” شغـف فـــرنسي..أصوات الـضواحي ” و الــذي تـناول مـوضوع الـجيل الـثاني والـثالث من الـمهاجريــن وعـلاقتهــم بالـعمل الـسياسي في فــرنسـا، ومحــاولتهــم المشاركــة فيــه ، وقـــد لاحــظ جيـل كـيبيـل كيــف و للمــرة الاولــى في تــاريــخ فـرنسـا يتقــدم حــوالـي 400 مــرشـح و مــرشحـة مــن ” أصول مهاجــرة ” و يحملــون أسمـاء عـربية وإسلاميـة لخـوض غمــار الانتخـابـات الـتشريعيـة الـفرنسيـة لــسنـة 2012 لـتمثـيـل الأحيــاء و الـضواحي فـي مجلـس ومــؤسسات الــدولــة الــفـرنسية. لقد تـضمن كتــاب جيـل كيبيل أيضا الـجـدل حــول الــهـويـة الفـرنسيــة والإســـلام في خضـم عـوامـل غيـر مسبوقــة لأزمــة اجتماعيــة و اقـتـصاديــة.
هــذه الأمثلــة الحيـة تــوضح العلاقــة الـوطيـدة بين الـفاعل الايـديولـوجي / المفكـر والـفاعـل الـسياسي ، فـهي عــلاقة جـدليــة تـحكـمهــا ثُــنـائيـة الـتـأثيــر والـتأثـــر..
وواهــم مــن يظــن أن كــل إنتــاجات المفكـرين وعلــوم الـسوسيولـوجيا أو غيرهــا ،هــي فـقـط للـصالونــات الأدبيــة والفنيــة أو لأشبــاع رغبــات ذاتـيــة، أو هي للإجابة عن إشكالات نظرية.
إننــا هنا، نــدعــو إلى الإختـلاف حـول وجهـات النظـر وحـول الـتصورات الـممكنـة طبعــا بمســؤوليــة ، لــكــن نــدعــو أيضـا الى الاتفــاق على أن للـمفكـريـن و الـكتـاب و الصحافيين دورا كبيـرا في تــدبيــر ملـف الـهجـرة قـبـل الـفاعـل الـسياسـي. وأن كل هؤلاء يساهمون لا في صنع الأفكار فقط و لكن هم يصنعون أو على الأقل يسهمون في صنع القرارت.
لــذلك لا يهـم أن نتـفـق أو نختلـف ، بــل الـمهم هــو خلــق تــراكــم معـرفـي. لا يهــم أن نٌخطيء أو نُـصيب ، بــل الأهـــم هــو خلـق نقــاش عمومي جــاد و موضوعـي حـول ملـفذو أبعــاد استـراتيجيـة كبيــرة أي ملـف الـهجرة والـمهاجـريـن.
المطلوب الآن ، هــو تشجيع الإنتـاج الـفكـري والأدبـي و الــفــني عــن الهجـرة والـمهاجرين.لأننـا بهـذه الطريقـة سنساعــد الـفاعـل السياسي الـمغربي على فهــم ميكانيــزمات الظاهــرة ، وسنقـطع بكــل تأكـيــد مع عــهـد الـفاعــل الـسياسي الــذي يـرتجـل في تدبيــره لمـلف ذو أهمية استراتيجـة. هنل ستكون وظيفة المثقف و المفكر والإعلامي وظيفة مد السياسي بالمعرفة والمعلومة، وظيفة التعزيز وظيفة “المساعد على اتخاد القرار”. وهــذا بالضبط مــا يـفعلـه غـيـرُنــا بـكل ســلاسـة ، حيـث نجــد الـسياسي يـنهــل و يـتـبـنى في إستعــارة واضحة لأفكــار الـفاعـل الايـديـولـوجـي / الـمفكــر.