تطرح تسريبات الوثائق “السرية” التي تطلعنا عليها بين الفينة والأخرى وسائل الإعلام الغربية، آخرها تسريبات ما يعرف ب PANAMA PAPERS وما تتضمنه من معلومات عن ثروات الشخصيات ذات النفوذ القوي في جميع المجالات وفي مختلف الدول، أسئلة عديدة حول الأدوار الغير معلنة للإعلام والتوقيت الذي تتم فيه إثارة هذه “الفضائح” التي لن تكون الأخيرة بطبيعة الحال.
لم يعد خفيا أن الإعلام بالإضافة إلى أدواره في الإخبار والتثقيف أصبح يشكل أداة للتأثير السياسي والاقتصادي، وفاعلا أبان عن قوة تحكمه في العلاقات بين الدول. وفي عالم معولم يشهد انتشارا واسعا لوسائل الاتصال الحديثة وبالتالي انتشار رقعة التأثير الإعلامي، باتت وسائل الإعلام الدولية، وهي الأكثر قدرة على الوصول إلى الجمهور، تفرض علينا نقاشات وقضايا تختارها متى تشاء وتضع لها نهاية متى تشاء وهو بطبيعة العام ليس بالأمر البريء، والإعداد له غالبا ما يتجاوز اجتماعات هيآت التحرير، كما ان الهدف منه ليس فقط ممارسة اختصاصات “السلطة الرابعة” في مراقبة باقي السلط، ولكن أيضا اكتساب شرعية الرأي العام الدولي لأجل تبرير قرارات سياسية او اقتصادية وأحيانا عسكرية.
فبمجرد أن انخفض مستوى الضجة التي كانت قد أثارتها تسريبات “ويكيليكس”، خفت إغراؤها للجمهور وانتهى بريقها الإعلامي بالنسبة لوسائل الإعلام، لم تتردد وسائل الإعلام في وضع حد للنقاش حولها وحول تداعياتها. مباشرة بعد إغلاق الموضوع وجد العالم نفسه محاطا من كل جانب بتسريبات جديدة لا تختلف عن سابقاتها في الشكل ولا المضمون ولا طريقة الخروج إلى العلن، أطلق عليها “أوراق بنما”، وتكشف وثائق لشركات وشخصيات اختارت أن تجري عمليات تجارية أو إيداعات مالية فيما ما يسمى ب”الجنان الضريبية” وهي دول ومناطق منتشرة عبر العالم لا تفرض ضرائب على الأموال والشركات الأجنبية التي تستوطن فيها.
فهل أنهت تسريبات ويكيليكس مهمتها وحققت ما كان يراد لها أن تحقق من أهداف حتى لم يعد أحد يهتم بصخبها؟ وهل كان مقصودا أن تهتم تسريبات ويكيليكس بشكل كبير بمنطقة العالم العربي وأن يعقبها تطور متسارع في الأحداث في الشرق الأوسط أم أنه فقط غوض في نظرية المؤامرة؟ ولماذا تركز أوراق بنما على دول وشخصيات إفريقية أكثر من غيرها وتسلط الضوء بشكل استثنائي على روسيا وعلى حسابات فلاديمير بوتين؟ في هذا السياق هل ستشهد دول في إفريقيا نفس مصير سوريا والعراق واليمن وتدخل بالتالي في منطق الفوضى الخلاقة، على ضوء النزاعات التي شهدتها ليبيا ونيجيريا ومالي.. أم ان ذلك مجردة مصادفة؟
إن تركيز “أوراق بنما” على إفريقيا يمكن النظر إليه من منظور التسابق الجيوستراتيجي بين القوى العظمى في ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم والتي جعلت من إفريقيا، وهي أكثر قارة عذرية في العالم بما تزخر به من موارد طبيعية لم يتم بعد استغلال، محط تنازع أقطاب القوى ومجالا حيويا للسيطرة والنفوذ؛ خاصة مع تنامي توغل كل من روسيا والصين في دول القارة السمراء، وما يشكله من تهديد اقتصادي واستراتيجي على المصالح الغربية تحديدا الأوروبية والأمريكية.
لقد أصبحت الصين قوة عالمية لا يقتصر نفوذها على آسيا فحسب بل يتجاوزه إلى إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وهي الدولة الوحيدة العضو في مجلس الامن التي ليس لها ماضي استعماري وبالتالي فلا يمكن لأحد ان يعطيها دروسا أخلاقية من الناحية الرمزية؛ كما أنها قوة اقتصادية وتجارية عظمى استطاعت أن تهضم بسرعة النظام الرأسمالي واقتصاد السوق وتستغله في نشر سلعها عبر العالم، من دون ان ننسى قوتها العسكرية حيث أن جيشها يضم حوالي 300 مليون شخص.
كل هذه العوامل تجعل من الصين قوة عالمية ولكن تفرض عليها في الآن ذاته تحديات كبرى من أجل الحفاظ على التوازن. وما يعرف في علم النفس وأيضا العلاقات الدولية بتأثير التهديد ” Effet de la menace جعل القارة الإفريقية تصبح بالنسبة للصين الأرضية الرئيسية لضمان أمنها الطاقي وتوفير الموارد الطاقية التي يحتاجها النمو الصناعي وأيضا مجالا حيويا لضمان الأمن الغذائي وهو أحد أكبر التحديات المطروحة، وقد انتبهت إليه الصين من خلال الشراء المكثف للأراضي الفلاحية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما يمكن لإفريقيا ان تصبح بوابة لغزو السوق الأوروبية وقاعدة للتقرب من السوق الامريكية اللاتينية.
على صعيد آخر توجد روسيا التي سجلت عودتها القوية إلى الساحة السياسية الدولية مؤخرا من خلال فرضها لتغيير في الحدود وفي النفوذ، وإيجاد منفذ في البحر الأبيض المتوسط عبر ضم جزيرة القرم والمواجهة السياسية مع الاتحاد الأوروبية الداعم لأوكرانيا والتي انتهت بفرض عقوبات اقتصادية، وكذا من خلال الحضور السياسي والعسكري والدبلوماسي في الصراعات في الشرق الأوسط وتحديدا في الملف السوري حيث فرضت شروطها للتفاوض ولتثبيت حليفها بشار الأسد.
وبالنسبة لإفريقيا فإن لروسيا علاقات قديمة مع الدول الإفريقية حيث أن تمثيليتها الدبلوماسية في تمتد إلى نهاية القرن 18 كما تربطها علاقات دبلوماسية مع إثيوبيا وجنوب إفريقيا، وأيضا المغرب حيث أن القنصلية العامة الروسية في طنجة الدولية ترجع إلى سنة 1898. وبعد الجمود في العلاقات تزامنا مع تفكك الاتحاد السوفياتي، عادت روسيا وابتداء من سنة 2006 للاهتمام بشكل أكبر بإفريقيا، وقامت ابتداء من سنة 2009 بعقد شراكات اقتصادية مع نيجيريا وناميبيا وأنغولا شملت أساسا قطاعات الثروات المعدنية والطاقة الذرية لتقوي بذلك روسيا حضورها في هذه القارة.
إن الرغبة في السيطرة الاقتصادية للصين والحنين إلى الماضي السوفياتي لروسيا يفرض ضغطا قويا على الدول الغربية التي تعمل من جانبها على توطيد حضورها في جميع الجبهات العالمية خاصة من الناحية الاقتصادية عبر كسب أسواق جديدة، ومحاولة الحد من النمو الصيني الروسي المدعوم بشراكة استتراتيجية ضمن مجموعة BRICS التي تضم بالإضافة إلى روسيا والصين، القوى الاقتصادية النامية في العالم (البرازيل والهند وجنوب إفريقيا) والتي تتوقع تقارير استراتيجية أنها ستتصدر الاقتصاد العالمي في أفق سنة 2030.
يمكن القول بأن العالم يعيش شكلا من اشكال الحرب الباردة متعددة الأقطاب تجعل من إفريقيا، التي مازالت جل دولها مرتبطة سياسيا واقتصاديا بالدول الغربية وبالقوى الكولنيالية التي استعمرتها في السابق، هدفا للتوسع والنفوذ لكل من وروسيا والصين، اللتان تعتمدان في ذلك على الاجتياح الاقتصادي وعقد شراكات تجارية مع الدول الإفريقية، في وقت لايزال الغرب يستخدم نفس الوسائل الكولونية المبنية على التبعية والإخضاع والحفاظ على موازين القوى لصالحه داخل الدول وهي استراتيجية شاملة تعتمد أيضا على الإعلام وتسريب الوثائق “الفاضحة” على المقاس كلما دعت الضرورة إلى ذلك.