كأسراب الطيور المهاجرة الباحثة عن الدفء..
فصل شتائي..برودة..امطار..ثلوج..ورياح باردة ..
فصل يَقصر فيه النهار ويطول فيه الليل … وتهاجر فيه الطيور من بلاد إلى بلاد .
وطيور بلادي اختارت وجهة أخرى..نحو الساحل التركي وعبره إلى الجزراليونانية القريبة..لتبني اعشاشها قريبا من هناك.
عيونها على ألمانيا وهي التي شرعت ابوابها لهم بعد ان اتبعت سياسة الباب المفتوح أمام الجميع…وخاصة امام جميع الخطاطيف اللاجئة من سوريا ومن اماكن اخرى قريبة وبعيدة .
وياليتها مافعلت !!!
فدفئ الشمس في فصل “حراكة” بلدي الشتائي لم يدم طويلا … ففي الوقت الذي بدأت الشمس تشيح بوجهها هناك، متوارية خلف غشاء رمادي من الغيوم،كانت غشاوة مماثلة تنسدل في عيونهم.
شباب وأطفال في عمر الورد..هربوا من بلد قالو عنه لم ينصفهم ومن واقع مأساوي قالو عنه حطم احلامهم وامانيهم..ليلاقيهم مصير مأساوي آخر بل واكثر مأساوية في رحلة العبور من بلادهم .
توالت أحداث وأحداث بعد الهجرة … حملت معها رياحا عاتية جرت بما لم تشتهيه قواربهم المهترئة ، بعد اتفاق بلد الابواب المفتوحة مع البلد الام المُصنف بلدا آمنا، بترحيل لاجِئي “البلدان الآمنة” الى بلدانهم الاصلية . حراكة لاجِئين (قيل عنهم) “استغلوا” استقبال البلد للسوريين الفارين من الحرب من أجل العبور إلى ألمانيا بصفتهم سوريين… تبخرت الاحلام قبل حتى ان تكتمل صورها ..اعطت وزارة داخلية البلد تعليمات لمكتب الهجرة لاعطاء الأولوية لدراسة طلبات اللجوء من “البلدان الآمنة”، إجراءات سيتم بمقتضاها إعادة الأشخاص الذين رُفضت طلباتهم في أسرع وقت إلى أوطانهم…أشخاص سيُعتبرون مقيمين بطريقة غير قانونية، وعليه سيتم ترحيلهم نحو المغرب دون تأخير !!
هي -طبعا- طبيعة الاجراءات في مثل هذه الحالات .. بمعنى انه حين تدرج دولة ما ضمن الدول الآمنة ، فطلبات اللجوء تتم دراستها بأسرع وقت، بل ولا يتم حتى الاستماع للحالات الفردية الخاصة، ليبقى المُتاح للمُرحل هو فقط الحق في تقديم طلب اللجوء من جديد!!.
هي خطوات -يقال- انها لم تأت من فراغ بل هي استجابة لأصوات داخل ألمانيا تدعو حكومة برلين إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد طلبات اللجوء “غير المبررة”…خاصة بعد أن ارتفع عدد طالبي اللجوء من المغرب مثلا والجزائر بشكل كبير وملفت، حيث بلغ عدد الطلبات من هذين البلدين في يونيو الماضي نحو 1215، وفي شهر ديسمبر الماضي كان عدد الطلبات وصل الى 5192.
لكن برغم هذه الارقام المرتفعة “فالحقائق” والاحداث تؤكد ان اهتمام الدولة بهؤلاء الحراكة اوبطالبي اللجوء هؤلاء لا علاقة له بهذه الارقام.. بل ان الامر مرتبط أساسا بأحداث ليلة رأس السنة الاخيرة بمدينة كولونيا الألمانية ، خاصة وان اغلب المشتبه بهم في عمليات التحرش بالنساء وأعمال السرقة شباب من أصول مغربية، حسب ما قيل على لسان الشرطة الألمانية..
رغم أن المدعي العام في محكمة نفس المدينة أورد مؤخرا أن غالبية الأشخاص الذين وجهت لهم تلك التهم ، هم من المقيمين فوق التراب الألماني ومنذ مدة، وليس بينهم سوى عدد قليل جدا من الذين طلبوا اللجوء والذين لا يتعدى عددهم القليل…القليل..بل لا يتعدى عددهم ثلاثة أشخاص!!!.
هي فعلا أمور وأخرى كثيرة تثير في النفوس الغضب والألم والحسرة .. وتساؤلات كثيرة !!
خاصة وان الامر لا يتعلق فقط بهؤلاء “الحراكة” الجدد بل ان الخوف من خوف آخرين من “المغاربة” الذين يتواجدون منذ سنوات فوق الأراضي الألمانية في وضعية غير قانونية . والبلد إن اقدمت على هذه الخطوة لترحيل هؤلاء فسيكون ذلك في اطار خطة تشمل جميع من لا يتوفرون على حقوق الإقامة في ألمانيا، بمن فيهم طبعا “الاقدمون”..وعلى الجميع مغادرة البلد. فهنا الكل يتشابه..كلهم “مهاجرين غير نظاميين” جدد كانوا ام قدامى.
وحتى الاعلام الالماني وضع جميع هؤلاء في سلة واحدة، محاولا عكس صورة رمادية عنهم لدى الرأي العام ، بل وعن مغاربة المانيا ، وهو ما يعتبر بشكل أو بآخر تحريضا على العنصرية والعنف. (وطبعا حينما نتكلم عن مغاربة ألمانيا اول ما يخطر على البال ، منطقة الريف )
فهل هي نهاية رحلة..هؤلاء؟
وخوفهم من “رحلة موت” سابقة لا تزال تفاصيلها المرّة عالقة في أذهانهم …
ام هي بداية لرحلة أخرى ؟
وقصصهم مع سماسرة و مهربين لترتيب عبورهم في زوارق متهالكة.. ركوبها محفوف بالمخاطر من ساحل الى ساحل لا زالت جراحها لم تندمل بعد.
وهل …وهل …وهل ..
الكثير من الهاءات والتساؤلات تؤرقنا وتؤرقهم أكثر ، تحتاج لاجابات شافية ومواقف إنسانية جادة وفاعلة…و تحتاج الى إعادة النظر في القرارات الرسمية الشحيحة تجاه وقف هذا النزيف وهذه المعاناة.
هو في كل الحالات خوف وقلق من مستقبل مبهم ينتظرهم …
كأسراب الطيور المهاجرة الباحثة عن الدفء.. تحولو بين عبور وعبور ، من أهل وأصحاب وطن الى لاجئين “مؤقتين” يطمعون بفرصة نجاة أو بحياة أفضل بعيدا عن ويلات البلد .
لم يكن يظن أحدهم ان يوما ما سيأتي ويجد نفسه في ذاك الوضع. يشعرون بالخجل وكأنهم متسولون…بل هم كذلك بالفعل…كما الآن يقولون.
طالت رحلتهم..من مدينة الى مدينة…ومن دولة الى دولة..ومن عبور الى عبور..
فيا مدن بلادي..ألا زالت مداخلك المتعرجة حاضنة للسفن الشراعية العائدة واللاجئة إليك هرباً من عاصفة هوجاء و خوفاً من ريح عاتية.
هم عائدون..من نزيف الرحيل الى حضن الأوجاع..
فهل من مكان…؟
“لما تنته الطريق بعد كي يعلنون عن بداية الرحلة
كل طريق توصلهم إلى بداية أخرى، والخروج مثل الدخول مشرّع على المجهول”..
محمد بوتخريط . هولندا