بقلم : الأستاذة مارية الشرقاوي
رئيسة منتدى أسرة و رئيسة وحدة دراسات الأسرة و النوع الاجتماعي بمركز أطلس الدولي لتحليل المؤشرات العامة
قصة خديجة صرخة طفلة اغتصبت طفولتها و حرمت من طفولة طبيعية ، قصة خديجة غيض من فيض في بلدنا ، فهل من منصت معتبر؟
تشاء الأقدار أن ألتقي خديجة في الزمان نفسه و المكان عينه، بعد مضي سنة على لقائي بها في إحدى شوارع مدريد العاصمة الاسبانية ، ألتقيها ثانية في فترة استعداد الاسبانيين للاحتفال بأعياد الميلاد ، لكن المفارقة بين اللقاءين ، كوني في اللقاء الأول سافرت من أجل الاستجمام والراحة أما سفري الأخير فكان بعد خمسة أيام من وفاة أبي رحمه الله لغرض طبي ، وبمجرد أن سمعت خديجة بتواجدي بمدريد اتصلت بصديقتي عبر الهاتف و طلبت منها الحديث إلي ، أخذت الهاتف من صديقتي آسية ، فما أن قلت أهلا خديجة إلا وبدأت المسكينة تتحدث بصوت مرتفع وتثرثر، لا تدري خديجة أنها هده اللحظة تحدث امرأة قدمت إلى اسبانيا مثقلة بالهموم ، امرأة منهكة إلى درجة لا تستطيع معها سحق نملة ،فارغ داخلها ، بعد فقدانها لأعز الناس ، ورغم حاجتي حينها إلى السكون و الاختلاء بنفسي حتى أحاول ترميم ما تبقى مني ، إلا أنني أجدت الإنصات لخديجة ، كان حديثها كله شكر لي على تحقيق حلمها الذي لا يتجاوز سوى إيصال رسالتها للأسر المغربية وللمسؤولين على عدم تشغيل الفتيات القاصرات كخادمات في البيوت ، استمر حديثنا عبر الهاتف زهاء نصف ساعة انتهينا منه بتحديد موعد لنلتقي فيه ، وبما أنني لم أكن ارغب في الخروج ولا قدرة لي حينها على استحمال صخب شوارع مدريد حددت معها موعدا بمنزل صديقتي الذي أقيم فيه .
إنها الساعة السابعة والنصف مساءا ، رن جرس المنزل ، فتحت صديقتي ، و إذا بها خديجة تسال بصوت مرتفع ، أين الأستاذة مارية ؟ قمت من مكاني واستقبلتها بعناق حار شعرت حينها كأنني أضم ابنة لي لحبي لها و لصغر قامتها، بكينا في حضن بعضنا بكاءا مرا ، ترى أكنت أبكي عليها أم علي ؟ هل أبكي نساء وطني أم ابكي تيتمي ؟ اختلط بداخلي كل شيء ، مسحنا دموعنا وجلسنا صامتتين لفترة من الزمن ،فجأة قامت من مكانها وقالت لي : أستاذة لنخرج و نحتسي فنجان قهوة بإحدى مقاهي “كورمينال بييخو” لم أستطع رفض دعوتها شعرت بأنها ترغب في الجلوس بمكان في الهواء الطلق ، وفعلا خرجنا و أخذنا مكانا بمقهى على الشارع ،طلبنا فنجان قهوة لكل واحدة منا ، وأخذت بعدها زمام الحديث سائلة إياها عن أحوالها ،حينها تبسمت وقالت : أنا بخير وابني بخير ، اشتغل عند إحدى الأسر الاسبانية ، لأراعي امرأة عجوز ، وابني يدرس وقد أحرز على أول معدل بمدرسته ، فرحت عند سماعي لهدا الخبر وقلت لها : خديجة أنت تقومين بدور الأم على أكمل وجه ، استمري وقاومي وستحظي بحياة سعيدة مع ابنك ، وأنا أبادلها أطراف الحديث عيناي تسمرتا على أصبع يدها اليسرى ، فهو غير طبيعي ولا يتحرك كباقي الأصابع ، سألتها خديجة ما به أصبعك ؟ أخدت نفسا عميقا وأجابتني : هذه عاهة نتيجة محاولتي الانتحار ، حيث تحكي خديجة أنها رمت بنفسها من الطابق الثالث بشقة إحدى الأسر التي اشتغلت عندها ، كانت تبلغ حينها العاشرة من عمرها ونظرا للضرب والعنف الذي كانت تتعرض لهما رغبت في الموت وحاولت الانتحار ، إلا أن الموت أيضا رفضها كما رفضها حضن أمها ، لتحمل معها عاهة مستديمة تلازمها طيلة حياتها تذكرها ما حيت بطفولتها البئيسة ، لكن المؤلم في الموضوع هو حينما جاءت أمها كعادتها في نهاية كل شهر لتأخذ أجرة ابنتها فلذة كبدها ، تحكي خديجة وعيناها مغرورقتين بالدموع أنها بكت بكاءا حارا حينها وتشبثت بجلباب أمها راجية إياها بأن تأخذها معها وحكت لها ما تعانيه من طرف ربة هاته الأسرة و أنها حاولت الانتحار، إلا أن الأم نبع الحنان و الحب كذبتها وصدقت قصة السيدة بأن خديجة كانت تنشر الغسيل فسقطت في الشارع . وخديجة تحكي لي البعض من ماضيها البئيس ، قلبي ينفطر ويعتصر على طفولة حرمت من ابسط حقوقها ألا وهو حضن أم حنون ، ما أقسى الإنسان حينما يتنصل من إنسانيته ويتجبر ؟ أم فرقت فلذات كبدها على الأسر لتحصل نهاية كل شهر على دريهمات لا تسمن ولا تغني من جوع ،أي قلب هدا التي تحمل أم خديجة؟ أي جبارة هي؟ فخديجة لم تتعرف على إخوتها إلا حينما بلغت العشرين سنة من عمرها ، وكان عمها السبب في صلة رحم هؤلاء الإخوة الذين جار عليهم الزمن وكان قدرهم أن يولدوا من رحم امرأة قاسية لن ألقبها بأم لأنها لا تستحقه .
وتقول خديجة أن معاناتها مع الأسر التي اشتغلت عندها لم يقتصر على ما سبق ذكره بل وصل الأمر إلى زجها في السجن لمدة 25 يوما ، حيث اتهمتها سيدة إحدى البيوت بسرقة مجوهراتها لمجرد رفضها الاستمرار في الاشتغال عندها ، ولم يفك أسرها إلا حين قدوم ابن هاته السيدة من فرنسا فبرأها من الشكاية الكيدية وأطلق سراحها .
كثيرة هي معاناة خديجة ، لأنها في نهاية حديثها تنهدت قائلة : أستاذة مارية معاناتي تحتاج كتب ومؤلفات لسردها كلها ، معاناتي إن حكيتها كلها سيندى لها جبين كل مواطن حر ، سيبكي دما كل شخص يتوفر على ذرة من الإنسانية ،لكن غرضي من حكي قصتي هو إنقاذ بنات جلدتي مما قاسيته أنا ، و الرسالة التي أودها من هدا كله هو تحسيس الأسر بمخاطر تشغيل بناتهم في البيوت وأن مكان الفتاة الطبيعي هو المدرسة حتى تكون مستقبلا امرأة صالحة لنفسها ولمجتمعها .
كلام و حديث خديجة أبهرني ، قلت لها : خديجة تتحدثين جيدا و أفكارك رائعة أجابتني بابتسامة لم أميز كنهها هل تبتسم ساخرة من قدرها أم تبتسم فرحة برأيي في حديثها : أستاذة مارية أنت تعلمت في المدرسة والجامعة وأنا علمتني الحياة فالحياة أستاذتي أكبر مدرسة ، نعم صدقت فمهما تعلمنا ومهما درسنا تبقى الحياة مدرسة نتعلم منها الى أن توافينا المنية .
قصة خديجة و ما حملته معي إلى اسبانيا من هموم جعلتني أتقيأ ألما و حزنا و يأسا ، ما أتعسك خديجة وما أتعسني …ما أتعسنا حينما نفقد العطف و الحنان ، ما أتعسنا حينما يجور علينا الزمان ………..