ما أكثر صور معاناة شعوب المنطقة العربية المنكوبة التي يعتصر لرؤيتها القلب حزنا وألما! فما الذي يجعل صورة واحدة، صورة طفل لفظه البحر، تستحوذ على المشهد لتجعل الرأي العام الدولي يعبأ فجأة بواقع الشعب السوري المُهَجَّر؟ لماذا فشلت كل صور الدمار والخراب والموت السابقة في إيقاظ الضمير الإنساني وجعله يلتفت للمُهَجَّرين قبل اليوم؟ ألم توجد بين ركام الصور الأخرى صور تجسد بؤس إنسان هذه المنطقة وشقاوته وفقره وفظاعة ظروف عيشه في ظل الحروب المدمرة، صور تحرك الشجى والشجن، والحزن والألم؟
عند التأمل نجد أن الفرق بين الصور الناقلة لمعاناة شعوب المنطقة ليس فرقا من حيث القدرة على توصيل مظاهر الدمار المادي والخراب الروحي اللذين حلا بهذه الشعوب؛ بل إن ما أصبح يميز بين الصورة والصورة هو مدة صلاحيتها للعرض؛ فمن الصور ما يمر أمام العين مرور الكرام، مَثَلها كمَثَل قطرة ماء في سيل متدفق، يكاد الناظر لا يميز بينها وبين غيرها من القطرات؛ ومن الصور ما تُنتَشَل من هذا السيل المتدفق ليُكتَب لها عمر أطول، فتحظى باهتمام الناظرين وتركيزهم.
إن القوة التي تُخرِج الصورة من صبيب الصور المتدفق ليست قوة ذاتية؛ بل إن الصورة أصبحت تستمد قوتها من قوة العزائم المتصارعة من أجل الاستحواذ على الحق في تحديد مجال الرؤية وأفق الإدراك. فليس المالك الحقيقي للصورة هو من يلتقطها؛ بل هو الذي يملك أن يُوَسِّع لها ويُثبِّتها لأطول مدة أمام العين الناظرة. فالصورة قد تحولت في يد هذا المالك الحقيقي إلى وسيلة إخفاء أكثر منها إلى وسيلة إظهار، يستطيع بواسطتها أن يستغفل الوعي ويصرفه عن الإصغاء إلى سرديات الآخرين، كما يستطيع أن يوظفها لتجييش مشاعر الناظرين وعواطفهم، ولتحريك ساكنهم. لقد أصبح من يتحكم في الصورة يملك أن يوري الناس ما يريد هو أن يَروْه من المعاناة ومتى يريد؛ حتى أن الناس أصبحوا لا يَهبُّون لنجدة الغريق، أو لإغاثة المستغيث الماثل أمام أعينهم، في حين تجدهم يهرعون لنجدة وإغاثة الحالات التي تُثبِّتها الصورة.
لقد أدخلت ثقافة الصورة إنسان العولمة في زمن أخلاقي جديد؛ جعلته يختزل أخاه الإنسان في صورته التي يُخرجها المتحكمون في هذه الثقافة من بين ركام الصور؛ لذلك تجد الكثير منا يتقاعسون عن النهوض بواجبهم الأخلاقي تجاه القريب الذي يشاركونه الواقع اليومي، فيهبوا لنجدة البعيد الذي أصبح مجرد صورة في فضاء بصري. والعجب كل العجب أن ما يدفع إنسان الزمن الأخلاقي الجديد للتضامن مع الآخرين ونجدتهم صار هو الرغبة في أن يصبح بدوره جزء من الصورة. وإلا فكيف يمكن لمن لا يأبه بمعاناة القريب في واقعه اليومي، أن يأبه بمعاناة البعيد، لولا رغبته هذه في أن ينخرط بفعله في إطار صورة! ليس من المبالغة القول بأننا دخلنا عهدا جديدا، عهدا تحول معه مضمون الفعل الأخلاقي ومعناه؛ فبعد أن كان هذا الفعل يؤتى لذاته، صار يؤتى لغاية البروز والظهور. إن صور التضامن مع حالات المعاناة الفردية المثبتة في الصورة، على الفايسبوك مثلا، صارت المدخل لتقويض أسس التضامن الحقيقي مع آلاف، بل ملايين الحالات التي لم يكتب لها البروز إلى سطح المشهد، صارت المدخل لتقويض أسس التضامن الحقيقي بين الإنسان والإنسان، بعيدا عن عدسات الكاميرا وإغراءات الظهور.
يمثل طواف صورة الطفل السوري على السطح حالة جديرة بالقراءة والتحليل. ففضلا عما توحي به من دلالات قوية تؤشر على بؤس الإنسانية وعجزها، أمام ظروف حرب أهلية قاهرة، عن إنقاذ الطفولة البريئة من مخالب الموت المبكر، فهي كذلك تحبل بدلالات أخرى تحددها السلطة التي اختارت توقيت عرضها. يتم توظيف هذه الصورة بعناية فائقة في الخطاب الإعلامي الرسمي داخل أوروبا للقطع بين مرحلتين من الوعي بقضية الشعب السوري ومأساته: مرحلة ما قبل الوعي الأوروبي، ومرحلة ما بعد الوعي الأوروبي. فقبل الوعي الأوربي لم تكن مأساة المهاجرين شيئا يذكر، إنما تبدأ المأساة مع بداية وعي هذا الإنسان بها. وكأننا بهذه الصورة تؤرخ لحقبة جديدة تجب ما قبلها من الحقب؛ وكأن سردية الإنسان السوري الفار من ويلات الخراب الذي لحق وطنه تبدأ مع لحظة وعي الإنسان الأوروبي بها؛ وعليه فلا حاجة لمساءلة الضمير الأوروبي لماذا لم يكترث بالمأساة في وقت مبكر، ولماذا لم يضغط باتجاه حلها قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه، ولماذا لم يتحمل مسؤوليته الأخلاقية تجاه هذا الشعب قبل اليوم. يتم اللجوء إلى صورة الطفل بوصفها تمثل ذروة المأساة الإنسانية، مثابة النقطة التي أفاضت الكأس؛ والحال أنها صورة لا تختلف عن مئات، بل آلاف الصور مثيلاتها التي تدفقت أمام العين من قبل لترسو في قاع بحر النسيان.
تبرز مع طواف صورة الطفل السوري الغريق على السطح دلالات ومعاني جديدة، ذات أهمية بالغة في ترسيخ وعي جديد قمين بتثبيت مواقف استراتيجية كبرى تجاه المشرق العربي والإسلام. فقبول مسلمي الشرق الأوسط المقامرة بأرواح أطفالهم، فلذات أكبادهم، وهم يركبون البحر أمر يؤشر على قمة يأسهم من الطمع في الخلاص في عالمهم العربي والإسلامي، في فضائهم الجغرافي والحضاري والثقافي. وما غرق الطفل الذي يرمز للبراءة والطهر إلا عنوان على غرق عالم الإسلام في وحل الحروب وعجز الناطقين باسمه عن إيجاد صيغ لتدبير الخلاف بين مختلف مكونات المجتمع. فالمسلمون الفارون من الأوضاع في هذا العالم إنما يفرون من مسلمين آخرين. إنه الإسلام الفار إلى الغرب هربا من الإسلام المستحكم في الشرق، إسلام روحي خالص، في مواجهة إسلام مادي وتاريخي استنفذ أغراضه في تحقيق السلم والأمن الاجتماعيين. وأمام ظاهرة فرار العرب المسلمين من وضع الإفلاس الحضاري والانهيار الأخلاقي الذي حل بعالمهم، بحضارتهم، بشعوبهم ودولهم، لم يعد يسع أوروبا خصوصا، والغرب عموما، إلا أن يتحملا مسؤوليتهما الأخلاقية، فيشتريا من المسلمين الفارين أرواحهم. وكأننا بالغرب اشترى من المسلمين أرواحهم، بأن لهم الخلاص تحت سقفه الحضاري، في زمن انهيار مشاريع الإسلام السياسي، وتصدع الدولة القومية الشمولية، وعجز الأنظمة القائمة.
لا شك أن بعض صور التضامن الأوروبي مع المهَّجرين السوريين تجلي عظمة الإنسان وعلو كعبه في الأخلاق وسموه الروحي في مواجهة محن الآخرين. غير أنه لا شك كذلك أن لهذا التضامن وجها آخر تخفيه الصورة، وجها ذا صلة باستراتيجيات وسياسات كبرى تسعى من وراء استيعاب الروح الإسلامية، الذي يمثل الطفل الغريق أفصح عنوان لها وأنقى صورها، إلى استمالة عرب ومسلمي الشرق الأوسط ضد استراتيجيات وسياسات أخرى تحاول بدورها التحكم في مصير المنطقة. إن صورة الطفل الغريق وما استتبعها من صور تؤهل المخيال الجمعي في أوروبا للقبول بالانخراط في الصراع الجديد الدائر في الشرق الأوسط؛ الصراع الذي يُقدَّم بوصفه صراعا بين من يسند المستضعفين من العرب والمسلمين، وبين من يسند القوى الظالمة التي كانت وراء إخراجهم من ديارهم، أو بين المسلمين الطيبين، وبين المسلمين الشريرين. يمكن القول بأن صورة الطفل السوري لم تستعمل لإيقاظ الضمير الأوروبي لمواجهة مأساة المُهجّرين فحسب، بل استعملت كذلك لاستفتاح عهد حرب باردة جديدة، حرب تخوضها أوروبا والغرب بحجة الوقوف إلى جانب الإسلام الروحي الطاهر المتخلص من شوائب الأنظمة القائمة على إيديولوجيات شمولية مفلسة.