أيوب بوغضن
شاءت الأقدار أن أصل إلى تيزنيت ساعات معدودة قبل بدء المهرجان الخطابي الذي استضاف الأستاذ عبد الإله بنكيران. لا أخفي أني لا أتعلق بالأشخاص كثيرا مهما كانوا، لكني في ذات الوقت أعلن باعتزاز أني أرتبط ارتباطا وجدانيا عميقا بالصادقين (و الصادقات) من الناس لأني ببساطة أرى فيهم معنى الإنسان و قبسا من روح الله.
حضر للمهرجان المذكور الذي استضاف حامل مشعل المصباح (ذ. بنكيران): حشد و أيُ حشد !حشد مخيف بكل صدق !
لم أتصور يوما –و أنا الذي كنت قريبا جدا من محيط المصباح- طيلة أيام الثانوية و الإعدادية بتيزنيت أن “العدالة و التنمية” قادر على تعبئة الجماهير بهذه الكثافة المنقطعة النظير. إنه الصدق يا سادة ! إنه خطاب الصادقين الذين لا يجيدون التصنع و الزخرفة و “التزويق” !
رغم أني لا أؤمن بحكاية ” الزعيم” ! إلا أنه – من دون شك- يبقى الأستاذ عبد الإله بنكيران في طليعة رجالات الوطن الكبار الذين هيأتهم العناية الإلهية لهذه المرحلة. هو –بلا مبالغة- وريث عبد الله إبراهيم و المهدي بنبركة و عبد الرحمان اليوسفي. بل ربما هو المنافس الشرس، الذي لا يشق له غبار، للمهدي بنبركة في القدرة التواصلية المذهلة و احتلال قلوب المواطنين.
إنه الصدق –مرة أخرى- يا سادة ! فلا يوهمن أحد نفسه بمكانة مرموقة في أوساط الناس و هو سالك طريق الكذب و الافتراء و التسلق و التملق و الخواء و الفراغ ! إنه الصدق –أولا و أخيرا- مع رب العالمين في المُرابطة على درب الصالحين و المصلحين ! إنه الصدق –ثانيا- مع الوطن و المواطنين في العمل – قدر المستطاع – على رفع الوهن عنهم و الارتقاء بأحوالهم و الوقوف ضد كل من يكيد لهم !
إن الرسالة التي لن يغفل النبهاء عن تلقُفها من وراء الحشود التي تحضر منتديات و مهرجانات المصباح؛ هي أن فكرة “العدالة و التنمية” و المشروع الحاضن لها هو رائد الموجة الثالثة من الحركة الوطنية الإصلاحية. فبعد الموجة الأولى مع حركة الاستقلال : و أشير في هذا الصدد أني لما وقفتُ بجوار المنصة التي اعتلاها الأستاذ بنكيران مع العديد من الشباب عادت بي الذاكرة إلى الذاكرة السياسية للمفكر العملاق محمد عابد الجابري التي سجلت (في “مواقف”) المهرجان الجماهيري الحاشد الذي أطره الراحل الكبير المهدي بنبركة –في إطار حزب الاستقلال- في الدار البيضاء لعله في سنة 1955 و شارك الشاب محمد عابد الشباب في حراسة منصته و هو إذ ذاك على مشارف العشرين (فهو من مواليد دجنبر 1935) التي بدوري أُطل على عتبتها في هذه الأشهر الجارية !
بعد الموجة الاستقلالية جاءت الحركة الاتحادية لتضفيَ على المشهد السياسي معان أخرى و كان قائدها في نسختها الثانية الوطني الكبير الأستاذ “عبد الرحيم بوعبيد” المحبوب لدى شريحة واسعة من المواطنين. و للأسف الشديد فقد حمل إدريس لشكر نعش الحركة الاتحادية إلى مثواها الأخير.
هكذا سنن التاريخ ! اقتضت أن يكون مشروع الإصلاح الذي يمثل “العدالة و التنمية” واجهته السياسية بمثابة خميرة للحركة الإصلاحية الجديدة التي تألقت بعد الحراك الفبرايري المجيد ! و الجميل أن هذه الموجة الثالثة استجمعت جواهر الحركة الاستقلالية (مقاصد الشريعة عند الفاسي) و درر الحركة الاتحادية (الوطنية الصادقة، الصلابة الأخلاقية و الديمقراطية). و بالتالي فكل رافض –هكذا بإطلاق- للحركة الإصلاحية الثالثة (بقيادة العدالة و التنمية) فهو معاند لسنن التاريخ و مُهمل للحقائق الساطعة في الواقع الراهن.
إن الوعي بالواقع السياسي الحالي يقول: إن حزب الاتحاد الاشتراكي انتهى ! و كل ارتباط بهذا الحزب إنما هو ارتباط بمنظومة رجل لا يخلو كلامه من مغالطات و أكاذيب و سفه و تدجيل. إن حزب الاستقلال، منذ مدة ليست قليلة، بات حزب الأعيان و الراغبين في الانتفاع بالمال العام و الاغتناء غير المشروع و هو حزب بلا بوصلة و لا مشروع يحكمه رجل: لا يختلف مواطنان حول جهله و دجله و خبله و سيلان لُعابه (للسلطة). أما أحزاب التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الدستوري و الحركة الشعبية (نسبيا) فهي أحزاب إدارية وظيفية أنشأها (المخزن) للتشويش على مسار الحركة الاتحادية خصوصا، غدت الآن في المشهد السياسي –للأسف فهذه هي الحقيقة- بلا وظيفة تذكر سوى توفير نصاب الأغلبية (و العدالة و التنمية مضطر للتحالف معها لأن المشهد أصلا مبلقن و لا خيار له في ذلك في انتظار تغير حقيقي في النظام الانتخابي يسمح بأغلبية تتشكل من حزبين : حزب العدالة و التنمية مع حزب كالتقدم و الاشتراكية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي) و هي –بلا شك- توظف أساليب بئيسة تنتمي للعهد البائد في العملية الانتخابية: المال الحرام و شراء الذمم… أما حزب البؤس و البؤساء (ليس”البؤس” بالمعايير المادية؛ فأغلبهم من اليسار الجذري الفاشل الذي انتقل من حب التحليلات العلمية ل”رأس المال” (الكتاب الأشهر لكارل ماركس)–حسب تعبير المناضل الوطني الغيور: عبد العزيز أفتاتي- إلى حب “المال” و الريع و الاغتناء غير المشروع و بحبوحة العيش على حساب الكادحين. بل أعني “بؤسهم” من ناحية فقرهم الأخلاقي و القيمي: فكل مشروعهم هو العداء للحركة الإسلامية و استئصال شأفتها و بالتالي العداء للديمقراطية و دولة المؤسسات و الحرية؛ أي في نهاية المطاف مشروعهم هو تكريس الفساد و تثبيت الاستبداد)؛ فهو حزب مخزني بامتياز جرائمه المتواصلة –في السر و العلن- بحق مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن تستدعي يقظة جادة من طرف كل المواطنين الغيورين.
لم يبق –إذن-من الأحزاب المُعول عليها سوى حزب العدالة و التنمية و هو حزب المرحلة. و بالمناسبة: الوعي بسنن التاريخ؛ يقتضي أن نفهم بأن لكل محطة رجالها و نساؤها و عنوان جامع لمشروعها: و بالتالي لا مناص مرة أخرى من الإقرار بأن مشروع الإصلاح الذي يقوده العدالة و التنمية –رغم كل الملاحظات التي قد تسجلها عليه- هو إجابة عن أسئلة المرحلة. و نحن واعون بأن صلاحية موجته ستنتهي في يوم من الأيام كما وُلدت كل الموجات و ماتت سواء بترهل في نضالية و قيم إنسان “المشروع” أو ظهور موجة جديدة من الإصلاح – و هذا مستبعد في المستقبل القريب- أكثر متانة و تماسكا و جاذبية. و من الجدير بالذكر كذلك أن المرحلة تتطلب أحزاب أخرى تكمل النقائص و تسد الثغرات و تتدافع أطروحاتها بشكل ديمقراطي راقي مع مشاريع و رؤى الحزب و أُقدر –و تقديري محدود- أن تكون فيدرالية اليسار الديمقراطي و أجنحة معتبرة من حزب التقدم و الاشتراكية هي الخطوط السياسية المرشحة لهذه المَهمة: فالانتقال الديمقراطي لا يحتمل طغيان لون واحد مهما كان، زد على ذلك أن التاريخ يسير دائما على أنقاض تدافع فكرتين. هذا ما أثبته كبار فلاسفة التاريخ.
إني هنا أتحدث في إطار الممكن و الواقعي و الموجود (من قبيل: واقعية “الجابري” مع الحركة الاتحادية الثانية، و خط “العروي” في الترشح باسم الاتحاد الاشتراكي سنة 1977). أما الحديث عن التماسك الداخلي لمنطق المشاريع و الصرامة المنهجية في التعبير عن الرؤى و الأفكار فذاك حديث آخر.