كنت أعرف بجمال المناظر الطبيعية لهذه البلدة. جئت السنة الفارطة لاكتشافها، بعد قراءتي لمقال نينا نيوز. لكن تاريخها وبصرف النظر عن حقيقة نظام ريها، الذي يعود تاريخه الى أكثر من ٢٠٠٠ سنة مضت، لم أكن أعرف عنه شيئا تقريبا.
مشينا لمسافات بعيدة، نتسامر فيها دردشة طويلة مع السكان المحليين، الذين قدموا لي لوحة لحضارة إنسانية، كلمة استثنائية في حقها لا تفي بالمعنى، وأنا أعتقد أنها عملة نادرة، ليس فقط في فلسطين، بل وفي العالم على حد سواء.
هي حضارة مصنوعة من الطبيعية والعلوم والثقافة، الذين ارتبطوا ببعضهم البعض عبر القرون. كانت هذه الحضارة مهددة بالتفكك من طرف ذاك الوحش الإسمنتي، الذي كانت الغطرسة الإسرائيلية تريد بناءه أيضا هنا. لحسن الحظ، تم الاعتراف ببتير مؤخرا كتراث عالمي من طرف اليونسكو، هذا ما منع الجدار من مصادرة وتشويه هكتارات أخرى من الاراضي الفلسطينية، أراضي مكونة من وديان وتلال، رغم السياق العام، ماتزال البلدة تدهش زائرها بما تزخر به من كنوز على الرغم من الأضرار التي تكبدتها بتيرفي السنوات الاخيرة، سواء على مستوى المناظر الطبيعية او على مستوى السكان، فارتفاع نسبة البطالة يعد بالتأكيد إشارة على ذلك.
اليوم، خارج فلسطين، القليل من يعرف عن هذه البلدة ذات ٤٥٠٠نسمة، ومع ذلك، الى حدود سنة ١٩٦٦، كانت هناك محطة للسكك الحديدية، تربط القدس بلبنان والاًردن، مما جعل من بتير مركزا فلاحيا وتجاريا ذا أهمية كبيرة من شأنها ان تجعل منها زنبيل فلسطين والاْردن.
” نكبة ٤٨” دمرت المحطة لكنها أبقت على السكك الحديدية، بل ومن المفارقات، أنه لا يمكن استعمالها من قبل أصحاب الارض التي تمشي فوقها السكك، على الرغم من أننا في فلسطين، فإسرائيل لا تسمح بذلك. لا زال هناك من يستغرب للأمر، ومن بعناد لا يزال ينكر أو ببراءة يبرر هذه الانتهاكات.
اليوم، السكك الحديدية التي تمر ببتير، وتربط تل ابيب بالقدس هي رهن الاستخدام من طرف أي شخص يمكنه الدخول لإحدى هاتين المدينتين. وكما هو معروف فالفلسطينيون ما لم تكن لديهم تصاريح خاصة، ليست لديهم أي حرية في التنقل في أراضيهم. وبالتالي فالنتيجة أن القطار يرونه فقط عندما يكون عابرا من هنا.
أخبروني أنه حتى سنة ٤٨، في المحطة التي شيدت في زمن الامبراطورية العثمانية وجددت خلال الانتداب البريطاني، كان القطار يمرعلى رأس كل ساعة، بالإضافة الى قطار السلع المخصص لنقل المنتجات النباتية الذي كان يغادرها مرة في اليوم على الساعة ٤ زوالا. كان يصل المسافرين من جميع قرى المنطقة للتوجه الى القدس، لان القطار كان يستغرق فقط ١٠ دقائق. أما اليوم، فسكان بتير الذين بحوزتهم تصاريح للذهاب الى القدس، يمكن لهم فعل ذلك فقط بالسيارة مستغرقين أكثر من ساعة.
بقي خط السكك الحديدية القديمة دون محطة محلية، تلك التي نراها في الصورة أعلاه كدائرة حول التل، الاًن أصبحت تستغل حصريا من طرف إسرائيل، هذا بعد أن قطعت بالضبط حوالي ٣٠ في المائة من أراضي البلدة. وبعد أن أسست اسرائيل مستعمرة أخرى محيطة بأطلال قلعة بتير بدافع أنه كان سنة ١٣٥ قبل الميلاد معقلا للثورة اليهودية ضد الرومان تحت امبراطورية “أدريانو” الذي كان يهدف إلى فصلها بصريا عن بقية المناظر الطبيعية، وذلك عن طريق “حمايتها” بواسطة جدار. فوفقا للاتفاقيات التي شهدتها المجتمعات المحلية والتي أخدت على عاتقها الدفاع عما تم مصادرته من أراضي البلدة! تم إيقاف جدار “حماية” القطار.
أصدقائي الجدد، أخبروني بأن سكان بتير ربطوا الحب والعمل في الأرض بالثقافة والعلم بشكل دائم، بالفعل هذه البلدة تعتز بنسبة عالية جدا من الخريجين وهم في نفس الوقت بينما يمارسون تخصصهم المهني كمحامين أو مهندسين أو مسؤولين عن هيئات مختلفة، يمارسون بعشق وتفان أنشطتهم الفلاحية ليس فقط كهواية، بل كعمل مهني.
.
أبو هناء، رجل مسن من بتير، كان معلما للعديد من الأجيال، لكنه متقاعد منذ سنوات عدة، قال لي عبارة جميلة، على الأرجح ترن هكذا: “رجل بدون أرض هو رجل عديم القيمة “، ثم يضيف ” بأن الارض تعكس شخصية صاحبها، لهذا، فالرجل الذي لا يعتني بأرضه، لايجب أخده بعين الاعتبار”. أحاول أن أسأله ما إذا كان هذا سائرا على المرأة أيضا (الجنس البشري الذي التقيته بصعوبة أثناء محادثاتي هاته). وجوابه هو ” أن النساء يشاركن فعليا في الممتلكات وفي العناية بالأرض”، لكن أكثر من هذا لم أتمكن من معرفته. ومع ذلك، في إشارة الى النساء، حكى لي أبو هناء، ” بأن زوجات والده الاثنتين (إذن، كان لوالده أكثر من زوجة! كما يسمح بذلك القرآن) كانتا كالأختين، يتشاركان كل شيء بما في ذلك العمل في الحقول “. وفي هذه الأثناء يتدخل أخوه أبو أمجد، الذي يكبره بعشر سنوات، ليقول ” بأن الإخوة أيضا يتشاركون في مزاولة جل الأعمال وفي انسجام كبير”. يبدو لي أنني وجدت نفسي أمام أسطورة، لا أدري كيف يمكن لكل هذا أن يكون صحيحا، ولكن ستكون لدي تأكيدات أخرى خلال الثلاثة الأيام التي سأقضيها في بتير. سأكتشف كذلك بأن الأبناء الاخرين من أبيهم فقط، هم في الواقع اخوة فيما بينهم (ولكن أيضا أولئك من أباء أخرين مع زوجات متعددة، وهي ثقافة حاضرة بقوة في نسيج مجتمع دأب إلى إعطاء الحق للرجل في تعدد الزيجات) باختلاف هوية ثقافتنا الغربية. باختصار، تعدد الزوجات الذي يحكون لي عنه، يمكن مقارنته ” بالأسرة الموسعة ” الهادئة والمتحضرة، التي تمثل نموذجا حديثا وغير مألوف في إنجازات الحضارة الغربية.
عن القصص التي سأسمع عنها خلال هذه الأيام، بالإضافة الى جمال هذه البلدة الريفية، تجعلني أعيش في عالم سرياليّ. اكتشفت بأن المنطقة كانت في الماضي وجهة للجولات السياحية لمسيحي القدس، الذين كانوا في بعض الأحيان، يأتون مشيا على الأقدام قاطعين بذلك ١٣ كيلومترا. ابوأمجد المسن، يشرح لي بأنهم كانوا يأتون الأحد، لأنه يوم عطلة بالنسبة للمسيحيين. اليوم، على عكس ذلك، يحكي لي بنبرة ممزوجة بقليل من الحنين” بسبب وجود المستوطنات التي يجب تجنبها، إضافة إلى الجدار الفاصل وجميع الأضرار الناتجة عن الاحتلال، الأشياء قد تغيرت، “.
أسألهم كيف كانت الحياة في عهد الانتداب البريطاني، والأخوان المسنان يجيباني بأنه لم يكن لديهم أبدا أي مشكل. مما استفز ذهولي، لكن بتير قرية خاصة ولن ألح في الأمر. أخبروني بأن الثقافة الدينية السائدة في البلدة كانت ثقافة اسلامية باستمرار، وأنه حسب ذاكرتهم لم تكن هناك أسر مسيحية أو يهودية تعيش هنا. بل يأتون فقط للاستمتاع بالطبيعة أو لتبضع الباذنجان الأكثر شهرة في الشرق الأوسط. لم أكن أعرف عن هذه الخصوصية، هنا لكل بلدة ميزتها الخاصة بها. وبتير بصرف النظر عن الباذنجان، فهي تفتخر بميزة حقيقية، بل أعتقد الوحيدة في العالم: نظام الري الجوفي والسطحي المحفور مباشرة في الصخر، ثمرة هندسة الهيدروليات التي تعود إلى ألفي سنة والتي لا تزال تشتغل بإتقان.
نظام الري في بتير، جميل المنظر، فهو أكثر من مجرد توزيع المياه على الحقول: يعد قاعدة لحضارة مجتمعية ذات أهمية استثنائية. غسان عليان، مؤلف لعدة كتب من بينها كتاب “دولة ديمقراطية واحدة” وعضو مجلس الجماعة المحلية، يشرح لي بأن نظام الري له أدوات ومعايير شكلت أساس التعايش المدني لهذه البلدة لأكثر من ألفي سنة، وهكذا اكتشف أن أسماء بعض الأدوات وبعض المفاهيم المرتبطة بآلية توزيع المياه تخفي وتبوح بأشياء أكثر من توزيع عقلاني لموارد المياه: بل ويمثل الأساس الهيكلي للعلاقات المدنية بين سكان بتير.
هذا النظام يستعمل لألاف السنين ويتم توارثه من الأب الى الابن أو البنت. فهو من وجهة نظر هيدروليكي أو نظام السوائل، يعتمد على تحويل بعض منابع المنطقة إلى حوض كبير مستطيل الشكل، (نفسه الذي يستعمله الأطفال للغطس، مستفزين بذلك الحارس الذي يحاول إبعادهم، الا أنه لحسن حظ الأطفال (الاشقياء) يصل دائما متأخرا بعدما قد استمتعوا بالغطس في جو من المرح. ولضخامة الحوض يطلقون عليه اسم المسبح، هذا بطبيعة الحال يثير رغبة الأطفال في الاستحمام، لأنهم محرومون من الذهاب إلى البحر بسبب سياسية الاحتلال الزجرية. هذا الحوض يمثل القاعدة لقياس المياه التي تخصص لكل قطعة أرضية.
يتم القياس باستعمال “عصا” مصنوعة من نبتة محلية، التي يتم الاحتفاظ بها بعناية في مكان لا يصل إليه الا البالغين من مزارعي البلدة. لا تسمى “عصا” بل “المعدود” يعنى بها الحصة أو النصيب، لأن وظيفتها الدقيقة هي تحديد حصة الماء المخصصة لكل واحد، والتي توزع حسب دوران عقارب الساعة وفقا لجدول زمني لا يسمح بتوزيع الفضل، يتم التناوب عليها كل ثمانية أيام، حيث ان المزارعين الذين حصلوا في الأسبوع –”أوتيمانة” يسمى هكذا الاسبوع في بتير- الأول على حصتهم من الماء في الصباح، في الأسبوع الثاني سيستفيدون بعد الظهر و في الأسبوع الثالث في المساء اعتمادا على تقويم لتوزيع ديمقراطي مطلق.
تعلمت أن المدرجات الحجرية تسمى “جينان” التي لا تعني فقط بستان أو جنينة، بل تعني شيئا أكثر أهمية بكثير، والتي تعطي الاحساس بالاحترام والحب اتجاه الأرض المعتني بها بنوع من القدسية. فعلا جنان يمكن تقريبا “ترجمتها بالبستان الصغير الساحر أو بالجنة” مما يحول فائدة الزراعة الى مجال ينتمي الى الجمال، وذلك بربط كلا الوقتين الاول بالثاني.
في الوقت نفسه، تعلمت أن في هذا التقسيم الدقيق للماء والوقت، لا يتضرر من عن طريق الخطأ أو بحكم الضرورة، تغيب عن دوره، حيث تنطلق “العونة”، مفهوم وفكرة وأمر عملي يستعمل دائما بين أهالي البلدة، والذي يعني التكافل، حيث حينما يتغيب الفلاح عن دوره يستبدل بآخر للقيام بواجبه دون أن يضيع الماء اللازم للنباتات، وهذا المفهوم في حد ذاته إيجابي، بكونه ” تطبّع” في قاموس المجتمع، مما يجعل التضامن ممارسة اجتماعية مشتركة لا عملا استثنائيا.
تعلمت أن آخر مزارع يستفيد في هذا التقسيم، له الحق في “النفل” أي حصة إضافية حتى لا يتأثر بالهامش السلبي. وتعلمت أيضا بأنه عند غروب الشمس، ومع أذان صلاة المغرب، يتوقف توزيع المياه، فتبدأ المنابع بملء الحوض لليوم التالي. فإذا كان آخر المزارعين قد استعمل الماء بعد غروب الشمس، سيبدو كما لو أنه ارتكب سرقة في حصة التوزيع المخصصة لليوم التالي، الأمر الذي سيجعل منه محتالا في عيون المزارعين الآخرين، وسلوكه سيدان بشدة من المجتمع.
وفي الأخير تعلمت أن نظام القوانين هذا، يأخذ بعين الاعتبار مسألة أن الاراضي الأقل حظا من حيث الموقع، لها الحق في إضافة محسوبة رياضيا، تسمى “الوصية” يمكن ترجمتها بـ ” اتفاق تسوية”.
هنا، يتم ضبط كل شيء لأزيد من ألفي سنة، بدقة العمليات الحسابية والمرونة اللازمة ليجعل من القاعدة أداة للإنصاف والعدالة. هذه الالية كانت ولا تزال لتكون وظيفية مشتركة، الى حد أن أصحاب كل “جينان” يرتبون القنوات بشكل موسمي ويقومون بجميع الأعمال الضرورية لصيانة وحماية المدرجات حتى وإن لم يزرعوها. الأشياء الوحيدة التي تغيرت على مر القرون هي استعمال البركة كحمام، بينما كانت تستعمل قديما من قبل المزارعين للاغتسال، و تعويض الظل (ظل الشمس) بساعات ميكانيكية لحساب الوقت. أما الشيء الذي لم يتغير تماماً هو الحس المجتمعي المتضامن والديمقراطي العميق، الذي يميز بتير، والذي يجد في هذا النظام المائي قاعدته التاريخية. وذلك مثل “ميشاكيب”، أي القنوات الطينية التي تسقي وتفصل القطع الارضيّة الصغيرة، ولكن في الوقت نفسه توحدهم في مجموعة والتي يطلق عليها “جنة بتير”، وبالتالي فان قانون الجماعة هومن يرسي التوزيع المنفصل للمياه، التي تعتبر ملكية مشتركة بامتياز، والتي يؤطرها انسجام نظام ديمقراطي معترف به ومحترم من طرف البلدة بأكملها.
لن أدخل ضمن تفاصيل تقنية محضة خوفا من ملل قرائي، لأنني أعرف تماما أن التعلم الملموس على أرض الواقع، رغم أنه متعب: كأن تذهب تحت أشعة الشمس لمشاهدة البركة والقنوات وتدوين كل شيء وسط جمال الطبيعة بمرافقة عبارات المرشد السياحي المحلي، هو شيء مختلف عن قراءة تقرير معد سابقا. أريد فقط أن أضيف بأن ما أطرحه بوضوح هنا هو دليل على حضارة ديمقراطية عظيمة، قائمة على نظام توزيع مشترك للمياه، وأقوله لسكان بتير، الذين يعتبرونه أمرا طبيعيا.
نتمنى فقط ان “مكوروت” والتي هي شريك ل “أتشيا” الإيطالية، ألا تنجح في وضع قدمها في هذه البلدة.
نحن هنا تماما بمحاذاة الخط الأخضر برفقة الأخوين المسنين، فتنت بأحاديثهما الشيقة والممتعة، أخبروني عن شخص، حسب قولهما، قد خلص بتير من قبضة اسرائيل، هو بطل ٤٨، لم اسمع عنه من قبل، ولكنني أدركت أنه يعتبر”هنا أسطورة” حسنا، أريد أن أعرف عنه الآن المزيد. فاكتشفت أن الشخص المعني بالأمر، هو عّم غسان عليان، الشخص نفسه الذي شرح لي عن آلية توزيع المياه، والذي ختمت معه الأمسية في جنينته بينما نتجرع لترات من الشاي ونأكل كيلوغرامات من الفاكهة المحلية المنتجة عضويا بدقة. هو نفسه من تحدَّثت إليه وناقشنا معا مستقبل فلسطين وحل الدولة الديمقراطية الواحدة، الان يقول لي أنه تعب من الحديث عن دولة واحدة أو دولتين، وقرر تأييد نظرية “ثلاثة دول” أدرك أنه بقوله هذا يستفزني، ولكنه يبدو جديا. ويتابع حديثه بان النظرية هي بالتأكيد استفزازية، لكن إذا فهمت كلامه، علما أننا نتحدث باللغة الانجليزية دون الاعتماد على مترجم -إذا أنا في خطر-في استيعاب المعنى المبتغى من حديثة، فهي نظرية يريد بها المضي قدما، ويشرح لي السبب. كلامه ينطلق على أساس ديني، ليس لأنه يرغب في دولة أو أكثر على أساس طائفي، ولكنه يرغب في أن يدخل في هذا التناقض واستخدامه وفقا لمعيار الأغلبية الحسابية التي تستخدم كمعيار للديمقراطية. وبعدها يقول لي” فوق هذه الأرض، مر الجميع” لو فقط أردنا التوقف على الأديان التوحيدية الثلاثة، سنقول إن هذه الأرض لها الحق أن تكون لليهود وللمسيحيين وللمسلمين. إذن فلننظر ماذا سيحدث، ديمقراطيا نتحدث (يعني نتحدث حسابيا) لو أن جميع أولئك الذين مر أسلافهم من هنا، يرغبون في العودة؟ ثم يسألني: هل تعرفين كم عدد المسلمين والمسيحيين واليهود في العالم؟ جيد، فلنقسم الأرض حسب معيار الأغلبية، نفسه الذي يستحضرونه الديمقراطيون! لطيف جدا غسان، لم استوعب إذا كان يمزح أم لا. لكنه يختم حديثه بمثل عربي يقول” عندما يكون الجهل نعمة فمن الحمق أن تكون حكيما. ويبدو أن النقاش حول عدد الدول يندرج في هذا السياق. الجو بارد والحرارة التي امتصها جسمي تحت أشعة الشمس تركت مسام جسدي. أترك الجميع وسأعود غدا لمعرفة قصة حسن مصطفى، بطل ٤٨ الذي خلص بتير من قبضة الاحتلال الاسرائيلي.
باتْريسْيا تْشيكّوني
ترجمة رشيدة رزوق
آخر يوم في بتير. حسن مصطفى، بطل 48’، مجهول عند الكثيرين، لكنّه معروف عند طفلة من الشجاعيّة، إحدى ضواحي غزّة.
الضّاحية الّتي ارتكبت فيها إسرائيل في 22 يوليو الماضي المجزرة الّتي روّعت العالم بحقّ المدنيين. رعب فعلا ، انتهى بالوهن نتيجة تضخّم التّقتيل المتبادل لمدّة شهر كامل.
عندما ذهب مراسل من قناة الجزيرة إلى المستشفى لإجراء مقابلة مع الباقين على قيد الحياة و المُنهكين من الجروح، النّاجين من موت محقّق بعد تعرّضهم للقصف الإسرائيلي، سأل بنتًا صغيرة عن الشيء الّذي يمنحها الشجاعة الكافية لكي لا تستسلم، أجابته بأنّها تعرف حكاية حسن مصطفى و هذا يعطيها اليقين بإمكانيّة الانتصار.
هذا ما حكاه لي أمس أبو هناء، بعد أن شاهده و سمعه على التلفزيون في منتصف يوليو. و قال لي أنّ حسن مصطفى، بالرّغم من كونه ميتا منذ أكثر من خمسين عاما، يظلّ مثالا لمقاومة مدنيّة أبيّة و منتصرة على الدّوام، ولكن القلّة من تعرفه خارج بتير. لهذا- أضاف المعلّم المسنّ – يجب على كتب التّاريخ أن تتحدّث عنه. ربّما لهذا السبب، أودّ بدوري أن أضيف، أنّ كتب التّاريخ المُتواجدة تحت الرّقابة الإسرائيليّة لا تتحدّث عنه.
حول شخصيّة حسن مصطفى، بناء على ما قيل لي البارحة مساء، بالإمكان أن تُعرض مسرحيّة. فقد يكون أيضا عرضا ممتعا، لأنّ المهارات الاستراتيجيّة و هيبة هذا الرّجل أوقفا زحف الجيش الاسرائيلي القويّ بقيادة موشيه دايان بطريقة إبداعيّة نوعا ما، و قد قيل – على أيّة حال يقسم أبو أمجد – لدايان أنّه لو كان هناك إثنان من حسن مصطفى لخسرت إسرائيل الحرب!
فمن المعروف أنّ بعض الشّخصيّات، و لو أنّها معزولة في التّاريخ الهامشيّ و غالبا ما تُستدرج فقط في التّاريخ الشِّفاهِيّ، يحيط بها نسيم أسطوريّ يجعلها شبيهة بأساطيرالأدب اليوناني. مع أنّ الأسطورة الّتي تتبعهم هيّ وليدة قيمتهم الفعليّة، قصص اللّيلة المُنصرمة بحاجة إلى إسناد، ممّا جعلني أقضي اللّيلة بأكملها في البحث عن معلومات تاريخيّة موثّقة.
الشّيء الأوّل الّذي لفت نظري هيّ الصّورة. رجل جَسيم ذو مظهر مَهول ما يسمح لي بالقول، هَزلاً، لأرعبنّ العدوّ بمجرّد الوقوف أمامه. كمثل ميلو الكروتوني ذو القوّة الأسطوريّة الّتي تَفرُّ الأعداء.
هذا التّشبيه يستهويني بعض الشّيء. كما يستهويني تصوُّر أنّ الرّياضيّ و القائد اليونانيّ، 500 سنة قبل الميلاد، كان يُرهب جيوش داريوس الكبير، و أنقذ فيثاغورس و أتباعه خلال زلزال ماسكا سقف المنزل الّذي كان سيدفنهم لا محالة.
جيّد، مصطفى، 2500 سنة بعدُ أنقذ تقريبًا جميع دِيار بتير من كارثة أَسوأ من الزّلزال: الاحتلال الاسرائيليّ. هذه ليست أسطورة، و قد تأكّدتّ من ذلك من خلال عِدّة مُستندات بما فيها دِراسة المؤرّخ جواد البطمة الّذي نظّم إنجازاته.
نظرت طويلاً في صورة حسن مصطفى لأنها تذكّرني بصورة أخرى، لكنّني لم أستطع تحديدها جيّدًا. بعد كلّ شيء، بحسب موضة العصر، جميع أولئك الّذين لديهم مميّزات متماثلة يتشابهون بعض الشّيء. ولكن هذا الصّباح أدركت لمن كان يشبه مصطفى، حسب رأيي على الأقلّ. فهمت ذلك بربط بين أفكار اِسترجعت بها ذاكرة ميلو، المنتصر في معركة مدينة سيباريس، البطل الأولمبي الممجّد من قبل خصومه نفسهم، قائد تنسحب أمامه الجيوش بدون قتال، هو، ميلو الكبير الّذي منحته الآلهة الذّكاء و القوّة الخارقة، وفقا للأسطورة مات مُفتر سا من طرف وحوش شرسة بينما كانت يداه عالقتان في جذع شجرة.
كان الرّبط بين الوحوش الشّرسة هو ما أعاد إلى ذاكرتي الصّورة المثيلة لمصطفى. هي صورة رجل لم أستطع معرفته، إذ أنّه فارق الحياة سنوات عدّة قبل ولادتي، و لكنّه “عاش” في بيتي خلال روايات أبي، الّتي قد تكون أسطوريّة أحيانًا. لم يسمّيه باسمه أبدًا، بل بكنيته فقط، الّتي كان معروفا بها في التّنّور بِڤالّى (وادي) أوريليا بروما، أو ڤالّى إنفارنو (وادي الجحيم)، عندما كان والدي طفلا، كان الرّجل شبيه مصطفى راشدًا مناهضًا للفاشيّة ذو القوّة الخارقة، القادر على مخاصمة – وفق روايات أبي – عشرة فاشِيّين لوحده.
في بيتي كان يعرف باسم “ايل موريتّو” أو “مور”. اِسمه الحقيقيّ كان البرتو دي دجاكومو، اِكثسفته عندما كنت أقوم ببحث حول المقاومة الرّومانيّة. هنا رجع إلى ذاكرتي بسبب الوحوش الشّرسة. “ايل موريتّو” قتل في ماوتهاوزن، وبالتّحديد في هارتيْم التّابعة لها. أحاديث والدي عنه زرعوا في نفسي مفهوم الصّداقة “الخالدة”، المرتبطة بتضامن الممكن قراءته على أنّه علاقة جماعيّة و في نفس الآن سياسيّ و إنسانيّ. و لكن سأتطرّق لهذا لاحقًا، الآن أودُّ فقط شرح لماذا الصّورتين المتجانستين من حيث الجسد لديهما قاسم مشترك آخر. هو ما يسمّى بالعربيّة بالتّكافُل الّذي تعلّمته من قواعد توزيع المياه الّتي – هنا في بتير – تعتبر بدون شكٍّ خيرًا عامًا مشتركًا.
نجح حسن مصطفى في الحفاظ على مفهوم التّكافُل و اِحيائه في القرية بأكملها، و هكذا لم يتميّز بانتصاره في الحرب فقط، بل بالمحافظة عليه في السّلم أيضًا.
مصطفى مات بمرض في السّتّينات، موريتو مات سنة 1944، مفترسا من طرف وحوش شرسة على زيّها العسكريّ صليب معقوف، بعد أن حاول إنقاذ صديقه المدسوس بركلات الوحوش. حياتهم هي بمثابة حلقات تاريخ “هامشيّ”، ولكنّها حلقات لديها كلّ الحقّ في أن تكون قطعة من تلك الفسيفساء الّتي هيّ التّاريخ وتاريخ الشعوب.
والآن سأحدّثكم أفضل عمّا كان هو و عن ماذا قدّم حسن مصطفى لبلاده.
وفقا لتقاليد بتير، الأرض والثّقافة يسيران جنبا إلى جنب، و فعلاً هذا الرجل، خرّيج كلّية علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كان أحد المؤسّسين، و عضوًا نشيطًا في نادي “مثقّفون ريفيّون” الّذي تمّ تأسيسه في القدس سنة 1945 بهدف إنجاح القضيّة الرّيفيّة، الّتي لم تكن تحظ باهتمام النّخبة المثقّفة، هدفٌ نجح لطالما لم تصل “الكارثة”.
هذا يعني أنّ في فلسطين 1945 طُرحت مواضيع لم تجد مكانًا لها في إيطاليا سوى منذ بضع سنوات فقط.
مصطفى لم يكن محبوبًا من طرف السّلطات البريطانية، الّتي خلال اِنتدابها كانت تدعم الطّموحات الصّهيونيّة، فقد خلقت له بعض المشاكل، لكنّه مضى قُدما على أيّة حال. من الجدير ذكره أنّ الهولوكوست جاء في وقت لاحق لتبرير كلّ شيء، و أنّ قبل نهاية الحرب العالميّة الثّانية كانت الصّهيونيّة تضع خطّتها، في حين أنّ البريطانيّين، بطريقة أو بأخرى، كانوا رعاة لهذا التّخطيط. و مصطفى كان على وعي بهذا. ربّما لهذا كان ” مُزعجا نوعا ما”، فقد كان له برنامج إذاعيّ وكان يكتب في بعض الصّحف والمجلاّت محذّرا ممّا كان يعرف بأنّه سيقع في وقت وجيز. ثمّ كان له هذا الهوس لكونه “مثقّف ريفيّ”، الّذي كان يجعله مدافعا شرسا عن المجتمعات الريفيّة و عن أهميّة تنميتها دون تغيير طبيعتها.
في عام 1947، قبل نحو عام من ذلك اليوم المشؤوم الّذي كان من شأنه أن يمثّل “الكارثة”، هيّأ سكّان بعض القرى لحراسة البساتين. بهذا التّدبير كان يحاول خلق اليقظة و روح الوحدة كشكل من أشكال المقاومة المدنيّة، و في نفس الوقت كان يحاول إعداد القرية للدّفاع على أفضل وجه ممكن. و كان على دراية كيف أنّ الصهيونية كانت تتقدّم في المدن السّاحليّة، و على الرّغم من وجود علاقات جيّدة مع المقاومة الفلسطينيّة، لم تكن لديه ثقة كبيرة في تنظيمها، الشّيء الّذي كان يراه غير ملائم و ضعيف جدًّا لمواجهة المشروع الصهيونيّ.
يقول أبو أمجد أنّ أبا حسن كان شيخ قبيلة بارزة و ثريّة، وعندما فهم الوضع ذهب إلى مصر مع عدد قليل من الرّجال الموثوق فيهم و اشترى 18 مدفعيّة للدّفاع عن البلاد. كان الأب والابن يعرفان أنّ المقاومة المدنيّة هيّ أمر ضروريّ، ولكنّه غير كاف، و كانا على علم بالمصير المحدق بأيّ بلدة تقع تحت سيطرة القوّات الاسرائيليّة. في حين أنّ الأخوين الإثنين يحدّثانني على صغرهم، غسّان، الصّديق الّذي عرّفني بهما (صاحب نظريّة “الدّول الثّلاثة”) يؤكّد بحركة من رأسه بأنّه يعرف القصّة بأكملها، وهكذا أعلم بأنّ حسن مصطفى كان عمه، و بذلك يعرفه، ليس فقط كأحد رجال بتير، بل كأحد أفراد عائلة بطل القرية.
تقريبا عن كلّ ما حُكي لي وجدت تأكيدًا في الوثائق الّتي استطعت الحصول عليها، بما في ذلك الجزء الأكثر تسلية، أي الحيلة الدّفاعيّة الحقيقيّة الّتي سمحت لبتير بأن لا تُضمّ بشكل كامل لإسرائيل.
ولكن ما هيّ هذه الاستراتيجيّة؟ قبل كلّ شيء كانت تتمثّل في التّصدّي لهروب السّكّان، جرّاء هلعهم ممّا كانت تقوم به إسرائيل، سواء بالجيش المنظّم بداية من 1948، أو بالجماعات الإرهابيّة (الّتي تمّ لاحقا دمجها في الجيش) قبل 1948. على الرّغم من تأثيره فشل مصطفى في إبقاء العائلات المذعورة في المنازل من تقدّم القوى الّتي أبادت و دمّرت قرًى بأكملها، و بذلك كان بإمكانه ألّا يعوّل الّا على القلّة من الشّجعان الّذين قرّروا البقاء. إنّ بعض الأسر المسلّحة حاولت الدّفاع عن البلاد، و لا سيّما سبعة أشخاص نصبوا خدعة جديرة بفيلم كاپا و سپادا (وِشاح و سيف، أي نوعيّة أفلام المغامرات)، حكاية مدهشة لو عرفنا مدى وحشيّة و نوعيّة الآليّات الّتي كانت في متناول الجيش الإسرائيليّ منذ ذلك الحين.
السّبعة رجال هم مصطفى و ستّة من الشّباب الّذين كانوا يتبعونه بثقة عمياء. كان هؤلاء في كلّ ليلة يتّجهون نحو المنازل الفارغة لإشعال الشموع لإيهام الجيش، المتمركز على بعد بضعة مئات من الأمتار، بأنّ البلدة مأهولة ومصمّمة على الدّفاع عن نفسها. في الصباح، تُخرج جميع الحيوانات من الاسطبلات. يتمّ نشر الغسيل بارتجال على مرأى العدوّ، ويقول لي أبو هناء بأنّه في بعض الأحيان كانت تطلق بضع طلقات لإظهار أنّ السّكّان كانوا مسلحين. سكّان، في الواقع، لم يكن لهم وجود.
لم يبق في البلدة سوى عدد قليل من النّاس، و مع ذلك كانوا قادرين على تنظيم خدعة باهِرة، وبهذا يكونوا قد احتالوا على جيش مجهز تجهيزا عاليا، و يتمتّع بتنظيم رفيع، الّذي عجزت جميع جيوش الدّول العربيّة عن إيقافه. بضعة أسلحة، دهاء، عزم و شجاعة، ثمّ تنفيذ ذلك المفهوم الشّهير، أي التّكافل الّذي كان بمثابة الرِّباط، و الّذي بقي حيّا حتّى بعد الحرب.
لكن بتير كانت تقع على الخطّ الأخضر. خصوبة أرضها و سكّتها الحديديّة، كلاهما كانا لقمة لذيذة أسالا لعاب إسرائيل لكي تفوّت فيهما. الشّجاعة و الحنكة و التّكافل ليسوا كافين، فعاجلا أم آجلا سيدخل الجيش إلى البلدة. حتّى و لو باع الشّجعان القليلون حياتهم بثمن باهض، لكان مصير البلدة نفس مصير الخمسمائة و إحدى وثلاثين بلدة أخرى احتلّت ودمّرت في ذلك العام الرّهيب، المُحتفِل به في إسرائيل خلال يوم من أيّام شهر مايو، مثلما يحتفل الأميركيّون بيوم كولومبوس، يعني يوم بداية أكبر إبادة في تاريخ البشريّة.
إذًا، و على وعي بهذا، عمل حسن مصطفى على مستوًا ثانٍ وهو المستوى الدّيبلوماسي. حافظ مصطفى على علاقته مع الضبّاط المصريّين والأردنيّين و مع المسؤولين الأردنيّين في القدس، وتحدّث مع الجميع، محاولا لمس إحساس الكرامة و بالعار بالتّضحية لاسرائيل بالآلاف من الإخوة زيادة على السّكّة الحديديّة الّتي كانت جوهرة المنطقة بكاملها. شرع في هذا العمل الحسّاس، المعتبر من قبل الكثيرين عديم الفائدة و غريب، اِستخدم الكاريزما و حسن الخطابة، وشرح لجميع المسؤولين والضّبّاط الّذين تعرّف عليهم بأنّ العمل الفرديّ هو من سيقرّر مصير إخوتهم الفلسطينيين.
كان مصطفى على يقين من شيئين: أوّلا، أنّ القرية لم تسقط بعد، و أنّه مسلّح و مستعدّ للدّفاع. ثانيا، أنّه كان واثقا على أنّ القرارات النّهائيّة ستؤخذ في عمان، و مستقبل بتير سيعتمد على الاتّفاقيّات بعد الهدنة بين إسرائيل والأردن. كان على علم بأنّ العديد من المسؤولين و الضبّاط الأردنيّين ليسوا سعداء بما تسير عليه الأمور مع إسرائيل، وحاول التّحدّث مع أولئك الذين كانوا أعضاء اللجنة الّتي ستضع شروط الهدنة. مصطفى درس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وعرف العديد من الضّبّاط في تلك السنوات. حسب أبو هناء، موشيه دايان كان زميلاً له في الدّراسة. حول هذا لم أتمكّن من العثور على وثائق، و لكن من اليقين أنّهما كانا يعرفان بعضهما. ولم أستطع العثور على أدلّة تُثبت أنّ موشيه دايان قد اتّصل به ليتحدّث معه، و لكن يبدو لي شيئًا مرجّحًا. كان دايان “سابرا”، أي يهوديّ ولد في فلسطين، و من المعروف بأنّ لديه مِزاج مُميّز. دايان أرسل أيضًا في ٱستدعاء الشّاعرة فدوى طوقان ليخبرها بأنّ أبياتها أبهرته و لهم فاعليّة أقوى من عشرة فدائيين، فلا أستغرب إن كان قد دعا مصطفى أيضا. و أجابه مصطفى، كما أثبت الأخوان العجوزان الّلذان سردا الحكاية لي، بأنّ بتير لا تقبل أوامر بالإخلاء، حتّى و لو جاء الأمر من ملك الأردن نفسه، لأنّ بتير لا تنتمي إلى الأردن بل إلى مَعشرها.
في بتير، الجميع متأكّد من أنّ الأمور سارت على هذا الشّكل. في بيت لحم يعتقدون أنّ الحكاية خياليّة بعض الشّيء. ومهما يكن من الأمر فإنّ الإخلاء تمّ إلغاؤه. وجد اِبن غوريون في شروط الهدنة مقترح السّكّة الحديديّة من طرف الأردنيين دون طلب أيّ شيء كمقابل. في ذلك الوقت كان هذا كافيا له. المحطّة لم يعد لها وجود، و السّكّة الحديديّة أصبحت إسرائيليّة. ستّة عشر منزلا بالقرب من السكّة صار تابعًا لأراضٍ، إذا جاز التّعبير، “إسرائيليّة”، و لكنّها بقيت ملكا لأصحابها.
حسن لم يكن سعيدا، كان يريد الحفاظ على السّكّة و على القرية بكاملها. يقول المسؤولون الأردنيّون بأنّهم خُدعوا من قبل ديان، و لكن ربّما كانوا متواطئين معه بكلّ بساطة. أو، ربّما، كانت القوى على السّاحة غير متكافئة، بحيث أنّ “اِبن القرية”، كما كان يُلقّب مصطفى، لم يستطع الحصول على أكثر. قال أبو أمجد أنّه عندما وصل الضّبّاط برفقة الفنّيين لضبط الحدود سلّم مصطفى على زوجته قائلا لها بأنّه من الممكن أن لا يرجع أبدًا، لكنّه سيبذل قصارى جهده لإنقاذ أرض بتير. دعا أصدقاءه الستّة و ٱتّجهوا نحو اليهود.
يقول أبو أمجد أنّه لم يخشع أمام وصول العديد من الإسرائيليّين المسلّحين و، بكلّ جرءة، قال لهم بأنّ القرية مسلّحة ومستعدّة للدّفاع عن نفسها. وهم يضحكون بينما كانوا ينقلون إليّ هذا الجزء من الحكاية. ضحكت بدوري و لعلّ مصطفى كان يضحك هو الآخر عندما طلب مقابلة القائد لمعرفة تفاصيل ما يريدون القيام به على أرضه و أنّ جميع السكّان كانوا مسلّحين وعلى ٱستعداد للقتال بدلا من أن تُغتصب منهم الأرض.
و قد وجدت بين الأوراق المُطلّعتُ عليها أنّ هذه الـحكاية حقيقيّة. لا أعرف إن كانت الكلمات المَلفوظة و اللّهجة هما بالذّات كما حُكيا إليّ، و لكن أعتقد بأنّهما صحيحتان. قرأت بأنّ هذا حدث في 2 مايو 1949 بالضّبط، وبأن ديان جاء من القدس لإعطاء تفسير لذلك. و في تلك المناسبة فعلا تحدّث مع مصطفى. و أوضح أنّه وفق الاتّفاقات مع الأردن سيأخذون السّكّة فقط لأنّها تهمّهم، كما يهمّهم أمن القطارات.
في ما يخصُّ ذلك “الأمن” بالذّات رجعت إسرائيل في سنوات لاحقة لتوظيفه كذريعة لتطويق السّكة، الّتي ترونها في الصّورة، بجدار وسرقة المزيد من الأراضي، ولكنّ اليونسكو منعت مشروعها ذاك.
حسن مصطفى تعذّر عليه الحفاظ على السكّة ولكنّه اِستطاع إنقاذ بتير.
أرسل “اِبن القرية” شاحنات لإرجاع النّاس إلى ديارهم، الآن بعد أن بدت الحياة تستئنف مجراها. و لكنّ نتائج التّقسيم وعدم إمكانية الوصول إلى القدس و مصادرة السّكّة و العزلة من الخارج كان لهم أثر وخيم على روح القرية.
منذ ذلك الحين شرع حسن مصطفى يعمل على برنامج التّنمية الاجتماعيّة. اِشتغل مع الأونروا لإعادة هيكلة إمدادات المياه والصّهاريج الرّومانية القديمة، و عمل على بناء أوّل مدرسة للفتيات وتأكّد من أنّ جميع الفتيات بإمكنهنّ الحضور متحدّثا مع والديهنّ لإقناعهم بالسّماح لبناتهم بالدّراسة وتأجيل زفافهنّ بعد التّخرّج؛ وضع برنامجا لمحو الأمّيّة للكبار؛ عمل على بناء أوّل قاعة سينما وأوّل عيادة وأوّل ملعب كرة قدم (الّذي افتتح بمباراة بين شيوخ القرية)، عمل أيضًا على زراعة 16.000 شجرة، و لكن قبل كلّ شيء عزّز الأمل مستندًا إلى مفهوم التّكافل الّذي يوحّد الجماعة ويمنحها القوّة. وهذه هي الرّوح الّتي تميّز اليوم بتير.
هناك قصص مقاومة مدنيّة لا تُعرف لأنّها مستترة داخل النّزاعات المسرودة من التّاريخ، لأنّها جزء من تلك البطولات الهامشيّة الّتي لا يذيع صيتها. إنّها ثروة تنتمي إلى من تمكّن من أن يتمتّع بها والتي تصل بعيدًا في بعض الأحيان، غير متوقّعة تحمل بذرة، في هذه الحالة، بذرة من كرامة المقاومة الّتي تجاوزت الستّة والستّين عاما والعديد من المجازر. لدرجة أنّها وصلت إلى فتاة من غزّة النّاجية من مذبحة الشّجاعيّة.
كان حسن مصطفى العظيم، ليس مُخطّط خلاص بتير من “الكارثة” فقط، ولكن إحيائها حول مفهوم المساعدة المتبادلة والتّضامن و الصّداقة الّتي تربط الجماعة جاعلة إيّاها جسدًا واحدًا. ذهبت اليوم لزيارته في قبره. يبدو لي تقدير اِستحقاق. هي ليست بمقبرة حقيقيّة حيث يقع قبره، فهي بمثابة ترّاسا بين الكثيرين، الذي يطلّ على بركة رومانية، الّتي تُستخدم لريّ “الجُنَيْنات” أي “قطع صغيرة من الجنّة”. أساسيّ و هائل تماما مثل الشّكل في صورته. هي الصّورة الّتي أرجعت إلي ذاكرتي موريتو دي جياكومو الّذي لن أرى قبره أبدًا.
كان موريتو قويّا لدرجة أنّه اِستطاع قلع مزلاج عربة القطار المُحكم لكي يهرب جميع رفاق البَليّة ماعدا واحد، صديقه ورفيق الكفاح، جسيم لكي يمرّ من خلال نافذة صغيرة بالنّسبة لجسمه. موريتو لم يُرد تركه لأنّ الصّداقة ثمينة كالحياة، وهكذا ذهب معه إلى ماوتهاوزن. ولم يستطع الرّجوع.
من يدري، إن كان قد عاد، أعتقد أنّه سيستمرّ في العيش وفق ذلك المفهوم المسمّى في بتير “التّكافل”.
أقوم بآخر نزهة عبر أحد المنتزهات الطبيعيّة. غدا أغادر هذه الأرض، والآن أترك بتير حاملة في العينين جمال هذا المنظر و في العقل جميع القصص الّتي صاحبتني.
بقلم: پاتريتسيا تشكّوني
ترجمة: ربيع ونّيش
15 أيلول (سبتمبر) 2014