عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، ومباشرة بعيد اغتيال الفنان و السينمائي الهولندي المعروف ” تيو فن خوخً”، على يد شاب مغربي متطرف بإحدى ضواحي مدينة أمستردام الهولندية، انهالت عشرات الدراسات والأبحاث لمراكز البحوث والجامعات، بله دراسات أجهزة المخابرات الأمنية للسلطات الهولندية في القضايا المتعلقة، بأصول فكر الجماعات السلفية وتطورها في بلد أوربي كهولندا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت دراسة: “النفوذ السعودي في هولندا،العلاقات بين الدعوة السلفية وأنظمة الغلو والتطرف الاسلامي” في سنة 2004 ثم دراسة أخرى بعنوان: “الدعوة الى الجهاد، التهديدات المختلفة للتطرف الاسلامي لأنظمة الدولة الديموقراطية والفضاء العام” و ذلك سنة 2004 ثم دراسة صدرت سنة2007 بعنوان “الدعوة المتطرفة في تغير، صعود ما بعدالاسلام المتطرف” و دراسة بعنوان “دراسة المقاومة و قوة العكس، التطورات و التغيرات الحالية للسلفية في هولندا” و أخيرا و ليس آخرا دراسة مريون فن سان عن جامعة إرسموس بروتردام، بعنوان ” الذاهبون الى سوريا، بنادق حرب ام أبطال الأراضي المنخفضة” عن مركز دراسات التعدد الثقافي فوروم 2014
ان المتأمل في هذه الدراسات و الأبحاث السالفة الذكر، يخلص الى أن هذه الدراسات، ليست ترفا فكريا، او هواية امتطاها مجموعة من الباحثين الشباب قصد نيل شهادات عليا، بل إنها تعكس هلعا و خوفا عميقين من هذه الجماعات ومن تأثيرها خاصة في صفوف الشباب المسلم من الأجيال التي ولدت في هولندا، هوءلاء الشباب الذين فقدوا الأمل في الفضاء العام للمجتمع الهولندي، جراء عمليات الميز العنصري و غياب الآفاق في مستقبل كريم، و تنامي سياسات العداء للأجانب و خاصة المسلمين منها.
تجدر الإشارة الى أن هذه الدراسات و الأبحاث إتسمت بسمة الصرامة العلمية و الجدية المبالغ فيهاأحيانا، سواء من جانب تحليل و تفسير ظاهرة الجماعات السلفية أو من جانب المنهجية المعتمدة لمقاربة هذه الظاهرة 0فعلى الرغم من أن هذه الأبحاث تشير الى غياب دواعي الخوف من هذه الجماعات، و طمأنت الأجهزة الٱمنية بناء على مبدإ أساس، يكمن في نبذ هذه الجماعات للعنف، واعتمادها الطرق التربوية، التعليمية والدعوية لإيصال أفكارها الى المتلقي، لكن هذه الدراسات لم تغفل أهمية و ضرورة صياغة سياسات وقائية تعتمد المتابعة المستمرة و اللازمة لتحركات أفراد هذه الجماعات و قياداتها و علاقاتها بالخارج. ووجوب الحد من نفوذها الذي يتضاعف يوما بعد يوم 0وهذا ما تضاعف بشكل ملفت للانتباه مباشرة عقب وفاة شابيين مغربيين منتميين الى احدى الجماعات السلفية على الحدود مع دولة كشمير.
بيدأن الأحداث التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة، من ثورات الربيع العربي، وما آلت اليه هذه البلدان من حروب و معارك بين الأنظمة السياسية والثوار، جعلت العشرات من الشباب المسلم والمغربي خاصة، المتأثر بٱفكار الجماعات السلفية الجهادية لايتردد في نصرة جماعات الجهاد في سوريا، والالتحاق بها بهدف اعلان راية الجهاد هنالك 0.
كان هذا دافعا أساسيا لبروز ا لمزيد من الدراسات و الأبحاث في هذ ا الموضوع خلال الأشهر الأخيرة. من هذه الدراسات التي صدرت قبل أيام قليلة 2014، دراسة الباحثة الأنتربولوجية بجامعة أمستردام، `إنيكا روكس` بعنوان:” يعيش كأنه النبي في هولندا” التي نالت من خلالها درجة الدكتوراه من نفس الجامعة، و” دراسة السلفية بين المبادىء الطوباوية و تعنت الواقع و الممارسة” 2014، التي أشرف عليها فريق من الباحثين بجامعة راد باوت بمدينة نيميخن، و ذلك بطلب و دعم من المرصد الوطني لمكافحة الارهاب بهولندا، والذي يعنى بتقديم الدراسات والبحوث وتقييم سياسيات الدولة في القضايا المتعلقة بمكافحة الارهاب، هذا فضلا عن التفكير في تطوير صيغ التعاون الأوربي و الدولي المشترك في هذا الملف 0
الكتب الذي بين أيدينا هي ثمرة دراسات ميدانية مضنية، قام بها باحثون متمرسون من مختلف الجامعات الهولندية طيلة السنوات الأخيرة، اذ حاوروا هؤلاء الباحثون وقت إنجازهم لهذه البحوث عددالا يستهان به من أعضاء ورموز الجماعات السلفية، وتتبعوا أنشطتهم وكثيرا من مؤتمراتهم والندوات التي ينظمونها على صعيد الوطن، هذا بالاضافة الى أهمية القسم النظري المساعد للإنسان الهولندي على فهم أسس و ثوابت النظم المعرفية التي تؤسس لايديولجيا الجماعات السلفية الجهادية هاته. هذاما نلمسه بشكل ملفت للانتباه خاصة في الكتاب الذي صدر قبل أيام قليلة تحت عنوان السلفية: بين المبادىء الطوباوية و تعنت الواقع و الممارسة، إذ خصص الجزء الأكبر من الكتاب لمدارسة القضايا المفاهيمية و النظرية من قبيل، مفهومي العودة الى السلف الصالح و الجاهلية و الجهاد و أهل السنة و الجماعة غيرها من المفاهيم المعتمدة في فكر جماعات السلفية المعاصرة، مع التأكيد من طرف هؤلاء الباحثين على خطورة هذه الترسانة المفاهيمية على الديمقراطية الاوربية و مبادىء الدولة القطرية الاوربية، هذا فضلا عن دراسة الجانب التاريخي لولادة السلفية المعاصرة في الحجاز، و التي تلقي بظلالها على مراحل بعيدة تصل تجربتها المعاصرة بتجربة السلف و النبوة.
وتجدرالاشارة الى أن بعض هذه الدراسات انجزت بالتعاون مع مراكز بحث و دراسات الهجرة و الإثنيات المعروفة. و خصصت لها ميزانية ضخمة. تهدف هذه الدراسات برأي هؤلاء الباحثين، الى كشف الحجب وازالة الغطاء وتفكيك عالم غير معروف، لدى المجتمع الهولندي. فجدار الدراسة العلمية سرعان ما يتحطم، أمام الأفكار المسبقة و الصور النمطية السائدة عن هذه الجماعات في المجتمعات الأوربية، لكن الأخبار والنداءات وصور المآسي الفضيعة التي تدولتها شبكات العالم الافتراضي، و التواصل الاجتماعي الذي يوظفه شباب الجهاد ذو الاصول الهولندية، جعل السلطات و المخابرات الهولندية تدعم البحث الأكاديمي في مثل هذه المواضيع بشكل كبير،و تعلن حالة إستنفار قسوى، خاصة بعد أحداث متحف بروكسل الأخيرة التي خلفت ضحايا بشرية، و بعد أن أثبتت السلطات البلجيكية أن الجاني فرنسي الجنسية شارك في معارك للجماعات الجهادية في سوريا.
تخلص بعض هذه الدراسات، الى جملة من الخلاصات المفيدة التي سأذكر بعضا منها :
ـ تعرف الجماعات السلفية في هولندا، ديناميكية و حركية مستمرة، فهي في تغير دائم على مستوى طرائق التعامل مع الثوابت التي أسست عليها طريقة تفكير أعضائها.فضلا عن تطور وسائلها المعتمدة ان على مستوى تبليغ الفكرة أو على مستوى إستقطاب الأعضاء و تهيئة الأرضية التي تراها سليمة وآمنة لعملها 0
ــ تثبت بعض هذه الدراسات على عكس ماهو سائد لدى فئات عريضة من المجتمع الهولندي، أن أعضاء الجماعات السلفية من أكثر الجماعات إندماجا في المجتمع الهولندي، لكن مع الحفاظ على المقومات الذاتية من ملبس و مظهر و تعنت دونما إبداء إية مرونة تجاه القيم و المبادىء الأوربية، إندماجها اعتمادا على مؤشرين أساسيين يكمنان في إتقان اللغة و الاستقلالية المالية للأفراد والمؤسسات، هذان العاملان بالاضافة الى عامل بساطة و تسطح فكر هذه الجماعات، يجعلها تكاد تكون الجماعات الاسلامية الٱكثر استقطابا للشباب المسلم من الجيل الثاني والثالث، وللشباب الأوربي المسلم أو ما يصطلح عليهم بالمسلمون الجدد0
ـ توظيف الجماعات السلفية للتقنية الحديثة و لوسائل الاعلام و الاعلام الجديد، وباللغة التي يتقنها أبناء هذا البلد، عنيت اللغات الأوربية، و اعتمادها ايضا لهذه الوسائل كمصدر موثوق فيه للإستفسار في قضاياالدين و الفتوى الشرعية، و ايضا لمساندة و مؤازرة الشباب المجاهد في ساحة الوغى و الذود عنهم أيضا و إبطال حملات المشككين في شرعية و أولوية الجهاد في أرض الشام، هذا فضلا عن اعتماد هذه التقنيات للترويج لهذه الأفكار خاصة لدى فئات الأناث من الفتيات القاصرات، و قد شهدت الأيام الأخيرة محاولات لمجموعة من الفتيات المغربيات ،اللآئي حاولن أن يلتحقن بالشام قصد مؤازرة المجاهدين.هذه الأسباب و غيرها جعلها من أكثر الجماعات نفوذا في الوسط الشبابي الهولندي.وقد كانت للمؤهلات المالية الضخمة لبعض الجماعات السبب الأساس اللذي يسر مهمة تأسيس قنوات اعلامية ومواقع الكترونية بشكل حرفي باهر0
ـأبانت هذه الجماعات عن قدرات تنظيمية وإدارية باهرة طيلة السنوات الأخيرة. خاصة ما يتعلق بتنظيمها للمؤتمرات الدولية و الندوات العالمية ،التي يستدعى فيها كبار شيوخ و علماء هذه الجماعات ،خاصة من دولة المملكة العربية السعودية ،وبعض تلامذتهم الأوفياء من أقطار أخرى من العالم الاسلامي، هذا بالاضافة الى قدراتها المشهود لها، في التشبيك الاجتماعي وتوثيق العلاقات بين أفرادها على مستوى واسع جدا و توطيد أواصر الأخوة و المحبة بينها، مما يفرز عوائل و مجتمعات صغرى يسهل من خلالها، الحفاظ على الفكرة، و يستعسر إختراقها من الخارج. إنها أشبه ما تكون بلوبيات مغلقة، ذات لغة و عادات متفرد 0
ـأبدت هذه الجماعات أحيانا عن مرونة واضحة ،و أظهرت برغماتية ملفتة للإنتباه، تجاه موقفها من الديمقراطية و المشاركة السياسية وتقبلها للأعراف السياسية الأوربية و العمل إذا إقتضت الضرورة ذلك من داخلها. فالجدير بالذكر، أن هذه الجماعات تدعو الى المشاركة السياسية، وتحشد قواها كاملة للتأثير في العملية الانتخابية، إن كان يرى شيوخ هذه الجماعات أن في ذلك جلب مصلحة أو دفع ضرر ما و هذا مايفسر أيضا تباين فتاوى شيوخ السلفية من حين لآخر.
بكلمة، تظل هذه الجماعات في هذا البلد الأوربي الصغير، السؤال اللذي يؤرق السلطات السياسية و الٱمنية، كما أنه يظل مادة دسمة لكثير من الدراسات و الأبحاث ،و يشد إليه فضولية كثير من الباحثين و المهتمين بالمسألة الإسلامية بهولندا على وجه أخص و بأوربا على نطاق أعم
*باحث مغربي مقيم بهولندا، مهتم بقضايا الأقليات المسلمة و الهجرة في هذا البلد