خلال اليوم الثالث لمهرجان الفيلم الدولي بمراكش في دورته الثالثة عشرة تم تكريم المخرج والكاتب والسيناريست الياباني “كوري إيدا هيروكازو” بقصر المؤتمرات وفي كلمة بالمناسبة أبدى كوري إيدا هيروكازو سعادته بلقاء الأحبة السينمائين والمخرجين بالمهرجان وباعتزازه في أن يحظى بهذه الجائزة القيمة وشكر منظمي المهرجان من أعماق قلبه على تفضلهم باختياره من بين المكرمين في هذه الدورة حيث أضاف أنه وبعد زهاء عشرون سنة من العمل والعطاء في مجال التصوير والإخراج الفلمي لم أجد جوابا عن ماهي السينما وإني لأتسلم الجائزة كإشارة أمل للمستقبل.
ولد كور-إيدا هيروكازو سنة 1962 بطوكيو (اليابان)، وتخرج من جامعة واسيدا سنة 1987 ليلتحق بشركة الإنتاج المستقلة “تي. في. مان يونيون”، حيث تخصص في العمل في مجال الفيلم الوثائقي. في العام 1995، فاز أول أفلام الروائية الطويلة مابوروزي بجائزة أوسيلا الذهبية في مهرجان البندقية السينمائي، فضلا عن العديد من الجوائز العالمية الأخرى، فكان نتيجة ذلك أن أصبح المخرج الشاب القادم من بلاد الشمس المشرقة معروفا لدى العالم بأسره. فاز فيلمه الموالي، الحياة الآخرة (1998) بالجائزة الكبرى لمهرجان القارات الثلاث بمدينة نانت الفرنسية،كما حظي بالتتويج بمهرجان السينما المستقلة ببيوينس أيرس بالأرجنتين، وكان الفيلم قد عرف نجاحا جماهيريا كبيرا وتم توزيعه في ثلاثين بلدا.
في سنة 2001، شارك فيلم مسافة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، تماما كفيلم لا أحد يعرف سنة 2004، والذي بات من خلاله الممثل الرئيسي ياكيرا يويا أول ياباني وأصغر ممثل ينال جائزة أفضل أداء رجالي، ليتصدر مباشرة بعدها الصفحاتِ الأولى لجميع صحف العالم. في سنة 2006، أخرج كور-إيدا فيلم الأزياء هانا. وبعدها بعامين، لقي فيلم ما زلت أمشي استحسانا كبيرا في اليابان وخارجه، ونال العديد من الجوائز في أوروبا وآسيا، قبل أن يوقع الرجل سنة 2008 على فيلم وثائقي عن جولة المغني الياباني كوكو. في سنة 2009، استجلى بفيلمه دمية الهواء مجالات ظلت غامضة من خلال نقل مانغا يوشي كودا إلى عمل سينمائي، وقد عرض هذا الفيلم في إطار البرمجة الرسمية لمهرجان كان السينمائي (قسم نظرة ما)، إضافة إلى مهرجانات أخرى مثل تورونتو وشيكاكو وأمستردام.
في سنة 2011، فاز أ فيلم تمنى – رغباتنا السرية بجائزة أفضل سيناريو في المهرجان التاسع والخمسين لسان سيباستيان. قبل أن يُمنح هيروكازو من قبل لجنة تحكيم مهرجان كان لسنة 2013، التي ترأسها المخرج العالمي ستيفن سبيلبرك، جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه الأخير؛ الإبن سر أبيه.
فضلا عن كل ذلك، شارك كور-إيدا هيروكازو في إنتاج عدد من الأفلام من إنجاز مخرجين شباب؛ أمثال نيشيكاوا ميوا في التوت البري (2003 ) و صواي (2006 )، و سونادا مامي في ملاحظة أخيرة : وفاة البائع المتجول الياباني (2011 )، وهو فيلم وثائقي مؤثر يرصد الأشهر الأخيرة من حياة رجل أعمال وهب أكثر من 40 سنة من عمره في خدمة نفس الشركة، وعلِم مباشرة بعد بلوغه سن التقاعد أنه مصاب بسرطان غير قابل للعلاج
من بين “السينمائيين – المؤلفين” اليابانيين المعاصرين القلائل الذين استطاعوا الوصول إلى شاشاتنا، دون الحديث عن شاشات المهرجانات، يعد هيروكازو كور-إيدا بلا شك أكثرهم شهرة، إلى جانب زملاءَ له، قد يختلفون معه أو حتى يُناقضونه، أمثال كيوشي كوروزاوا ، تاكيشي كيتانو، تاكاشي ميكي، أو يُعدون الأقرب إليه، أمثال ناومي كاواسي ونوبوهيرو سوا، وذلك بغض النظر عن رأينا في أعمالهم. والواقع أن الوصف الأمثل الذي ينطبق على كور-إيدا كونه سينمائي مؤلف، تماما كما يمكن تصوره لدى مجمع النقاد وعشاق السينما. فهو على خلاف المخرجين الذين عملوا في النظام، أمثال كيوشي كوروزاوا ، تاكيشي كيتانو أو تاكاشي ميكي، لم يضحي ولو للحظة واحدة بسينما النوع، إلا إذا استثنينا فيلمه هانا (2006)، وهو فيلم تاريخي متفرد تم إنجازه تحت الطلب.
فإلهامه كمخرج هو إلهام السينمائي المتفرد. لقد انطلق هيروكازو في مسار الإبداع من العمل في التلفزيون (لدى شركة الإنتاج مان يونيون) ومن إنجاز عدد من الأفلام الوثائقية، التي وإن كانت قد عرضت في فرنسا في إطار جد محدود، لكن حضورها كان قويا في مهرجان فيزول الدولي للسينما الآسيوية لسنة 2012، قبل أن يتحرر سنة 1995 في فيلم روائي تلميحي شخصي، سرعان ما استهوى دائرة المهرجانات والنقاد وعامة الجمهور الياباني. ففيلم مابوروزي، (أو بالأحرى مابوروشي، إن تم نطقها حرفيا، وتعني “وهم” أو “حلم”)، أول أفلامه الروائية الذي استوحاه من عمل أدبي لتيرو مياموتو، يحكي مسار رحلة أم وابنها على درب البحث عن فقيد، حيث يفسح السرد الكلاسيكي المجال للبحث عن أسلوب دمِث يتخلله الكثير من الإيحاء والضوء الذي يزعج فضاء الفرجة، وهو ما أشار إليه الناقد السينمائي يان توبين في مقال له بمجلة بوزيتيف في نونبر 1999 : “إن المخرج يستخدم بمهارة عالية مصادر الضوء الطبيعي، وشاعرية خارقة تبرُزُ من المواجهة بين الأضواء والأجساد ومحيطها “. فالنبرة-الأسلوب تبدو مُعلنة بشكل واضح، وهي الغالبة في مقابل سردٍ يأتي في المرتبة الثانية. إن كور-إيدا الذي عالج من خلال أفلامه الوثائقية الوثائقية التلفزيونية مجموعة من المواضيع المختلفة – مثل عمل الوقاية الاجتماعية إثر عملية انتحار في فيلم بالرغم من ذلك (1991)، وتدجين عِجلٍ لُقب باسم لولا (لا علاقة له مع جاك ديمي أو بريونتي ميندوزا…) في فيلم دروس من عجل (1991)، والعنصرية ضد الكوريين في فيلم أردت فقط أن أكون يابانيا (1992)، والخلل في الذاكرة في فيلم بدون ذاكرة (1996)، أو أول إعلان عن حالة الإصابة بالإيدز في اليابان في فيلم شهر أغسطس من دونه (1994)- ليس، أو بالأحرى، يرفض أن يكون راوِياً بارعا كما كيوشي كوروزاوا، بل يزاول فنا شخصيا للإيحاء و”للضبابية الفنية” هو أقرب إلى نهج ناومي كاواسي، دون يُعطي للتحليل النفسي، الذي تُعنى به هذه الأخيرة إلى أقصى الحدود، إسهاما قويا
في فيلمه الروائي الثاني، الحياة الآخرة (في النسخة الأصلية” حياة رائعة“، 1998)، يتحرى كور-إيدا موضوعين من مواضيعه المفضلة؛ الموت والذاكرة: أموات في الانتظار ملزمون بإقرار (أو إبتداع ؟) اللحظات الحاسمة من حياتهم في شكل من الأعراف البيروقراطية قبل الوصول إلى جنة افتراضية، حيث يضعنا المخرج في “عالم عائم ” يحظى بمكانة هامة في التقليد الياباني، ولكن بطريقة متجددة. فالشعر والمهارة الفائقين يَلُفان الفيلم في سحابة عائمة، بفضل صورة أثيرية من إنجاز ليوتاكا يامازاكي، أحد مديري التصوير المفضلين لدى المخرج. وتتعقد الأمور بعض الشيء في فيلم مسافة (2001)، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، حيث يعود كور-إيدا بطريقته الخاصة إلى “مسرح الجريمة”، وهو مقر طائفة سياسية انتحارية، بمعية الرفاق السابقين [الضحايا] الذين يذهبون مرة أخرى في رحلة الحديث عن ذاكرتهم من خلال غابات وبحيرات غاية في الرمزية، لكنها حقيقية. ليدرك فن عدم قول كل شيء ذروته، إلى درجة التشويش على المتلقي الذي ليس في علمه شيء. لقد نال الفيلم من خلال التنويم المغناطيسي ما فقده في وضوح السرد، وذلك بفضل المشاهِد الرائعة التي تصور الشخوص وهي تائهة في الغابة،… ويبلغ هذا “التشويش في المسارات” أوجهُ في فيلم لا أحد يعرف (2004)، الذي يستند إلى خبر عرَضي تافه، حيث يتم التخلي عن أربعة أطفال بعد ضياع والدتهم (شخصية أخرى”بعيدة المنال”). لقد استطاع هذا الفيلم أن يمنح انطباعا حِسيا غريبا بما يتجاوز الواقعية، خاصة بفضل أداء الممثلين الأطفال، بمن فيهم الشاب أكيرا، الذي شخصه ياكيرا يويا، (ذو الأربعة عشر ربيعا آنذاك)، والذي نال جائزة غير منتظرة لأحسن أداء في مهرجان كان، كما حقق هذا الفيلم إقبالا جماهيريا كبيرا. وبعد النجاح “التجاري” لفيلم هانا -الذي يعود فضل إنتاجه بلا شك إلى ما حققه فيلم لا أحد يعرف من نجاح-، يستند كور-إيدا إلى شكل “كلاسيكي” من أشكال السرد في فيلم ما زلت أمشي (2008)، أحد أكثر أفلامه كمالا، حيث تُذكرنا العلاقات الأسرية بين الآباء وأبنائهم ببعض أفلام أوزو، وهو ما يستند عليه في فيلم مابوروزي. وفي سنة 2009 أخرج دمية الهواء، وهو خرافة بين الجد والهزل حول رجل ودمية تُنفخ كالبالون، وهو الفيلم الذي ناقش من خلاله حالات الاغتراب النفسي والكبت الجنسي والاجتماعي لدى الشباب الياباني، فيما يمكن اعتباره تجربة جديدة بالنسبة للمخرج
وبعد سلسلة من أربعة أفلام تلفزيونية حول موضوع الأشباح بعنوان الأيام الموالية (2010)، حيث يبدو مجددا ميله الواضح لتغليب اعتماد الصور على الحوارات، ورفضه آثار أسلوب الخيال البصري (الحاضر بقوة في الحلقات الثلاث)، يعود كور-إيدا إلى موضوعاته المفضلة في فيلم أتمنى (أو كيزيكي / “معجزة”، 2011) الذي يحكي قصة أخوين يخوضان مغامرة رحلة غير متوقعة تُقلِّهما على متن القطار الياباني فائق السرعة “شينكانسن” في اتجاه جزيرة كيوشو على أمل أن يُوفَّقا في جمع شمل والديهما المنفصلين، وإذا كنا لم نبتعد تماما عن فيلم لا أحد يعرف، فقد تم ذلك بنبرة أخف وأكثر “تفاؤلا“. وهو ما يعد من دون شك نقطة تحول في مسار المخرج. إن عطاءات هيروكازو، التي تبقى محدودة نسبيا (15 فيلما رغم كل ذلك !)، هي عطاءات “مُلتبسة” بالمعنى الذي يمكن تفسيره بعدة أوجه، فتتجلى من خلال ذلك أهميتها، ولكن أيضا محدوديتها. فالمخرج يصور يابانا يعيش في حالة من الشك، يابانا هامشيا في غالبا الأحيان، بعيدا كل البعد عن يابان النصر الاقتصادي للجيل السابق. لكن هذه العطاءات تترك من دون أدنى شكٍّ بصمةً شخصية واضحة ومتفردة في فضاء هو في حد ذاته غير واضح، فضاء السينما اليابانية المعاصرة، حيث المواهب المختلفة تغزو الشاشات اليابانية والعالمية.
وبعد التكريم كان للمشاهدين مع فيلم للمكرم وهو آخر فيلم له الذي يحمل إسم ” الإبن سر أبيه” وهو خارج المسابقة الرسمية للنجمة الذهبية للمهرجان.