عادة ما يكون تحديد مفهوم الهوية بمثابة إجابة عن أسئلة من نوع: ما هي هويتك؟ من أنت؟ من تكون؟ ما هي حقيقتك؟ وهكذا دواليك. بيد أن ذلك لا يكفي للإحاطة اللازمة والشاملة بماهية الهوية التي يحملها شخص أو مجتمع ما. لذلك فمن الضروري إضافة سؤال آخر يتعلق حول الكيف أو الكيفية التي يتم بها التعبير عن مسألة الهوية، وهذا يعني الانتقال إلى مستوى أرقى من الأسئلة؛ كيف تعبر عن هويتك؟ كيف تكون؟ كيف تتجلى حقيقتك؟ هكذا يتم وصل الهوية بالفعل؛ فعل الفرد في الواقع، ووظيفته في المجتمع، وإسهامه في السياق الذي ينتظم فيه.

ويجدر في هذا المقام التطرق إلى جانب الهوية في السياق الهولندي، حيث يكثر النقاش حول هوية الأصليين وهوية الأجانب، مما يجعل البعض يرى أن الهوية الهولندية في أزمة أو في خطر! وقد لاحظ الباحث بول شخايفر، في مقالته المشهورة (دراما التعددية)، أن ميل الأجانب إلى الاختيارات الدينية أمر مقصود، لكن يبدو أن المرء لا يسأل نفسه ما إذا كان هذا الاعتزاز بالهوية يتلاءم وهدف التحرر الذي يسعى إليه.( Het multiculturele drama, NRC Handelsblad, 29 januari 2000). وهذا ما يشير، بشكل أو بآخر، إلى أن التحرر يعني بالدرجة الأولى في هولندا وفي الغرب التخلص مما هو ديني؛ شكلا أو محتوى! وهذا ما تحاول تسويقه العديد من التيارات الأيديولوجية والحركات الفكرية. لكن ألا يترتب عن ذلك ما هو أفظع وأضر للمجتمع، لأن المواطن المتدين عندما يتخلى عن هويته الدينية ويتحرر منها، يعني ذلك أنه سوف يبحث عن هوية بديلة، وهذا غير ممكن لأن الهوية ليست قطعة غيار تستبدل أو تصلح عند أي ميكانيكي! أو سلعة يمكن اقتناؤها من أي محل تجاري! لذلك، فما هو الحل الأنجع لفك رموز هذه الإشكالية الاجتماعية؟

في الحقيقة، ليس من الإنصاف أن نربط مشاكل أي مجموعة بالدين الذي تؤمن به أو بالثقافة التي تحملها، وإنما بالطريقة التي تستوعب بها المضامين والأحكام الدينية، ومن ثم كيف تنزلها على الواقع الذي تعيش فيه. وهذا ما حصل للكثير من المسلمين الموجودين في الغرب، الذين يسقطون الديني على الواقعي بشكل غير سليم، إما انطلاقا من التأويل الحرفي، أو تأسيسا على بعض الفتاوى التي تفد من الخارج. مقابل ذلك، ينطوي المكون الديني على العديد من الإمكانات الروحية والأخلاقية والتشريعية التي من شأنها أن تعالج مختلف الانحرافات النفسية والاجتماعية، وهذا ما لم يتم بعد استثماره بصيغة علمية واحترافية، وقد تنبهت بعض الأوساط الرسمية والأكاديمية الغربية في الآونة الأخيرة إلى مدى أهميته في الرقي بهوية الإنسان المتدين، مما سوف يخدم لا محالة التعايش الاجتماعي والاستقرار الأسري.

ولعل رؤية الأميرة الهولندية ماكسيما لمفهوم الهوية الهولندية تتضمن أكثر من إشارة، قد تعزز مكانة الأجانب والمسلمين في النسيج الاجتماعي الهولندي، ليس لأنها أيضا تنحدر من أصل أجنبي (الأرجنتين) فحسب، وإنما لأنها عاشت نفسها تجربة الاندماج في المجتمع الهولندي، ومن ثم محاولة اكتساب الهوية الهولندية، ليس تجنسا (حمل الجنسية)، بل تكونا (اكتساب شخصية هولندية حقيقية). وتوصلت في آخر المطاف، إلى ما مؤداه أنه لا وجود لهوية هولندية حقيقية! وذلك في خطاب ألقته يوم 24 سبتمبر 2007، بمناسبة عرض تقرير المجلس العلمي للسياسات الحكومية حول مسألة الهوية الهولندية،2 حيث عبرت عن رؤيتها بخصوص موضوع “الهوية الهولندية” أو “حقيقة أن تكون هولنديا”. (NRC Handelsblad, 25 september 2007)

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا اختارت الأميرة أن تتحدث عن هذه القضية الحساسة؟ وما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟

إن الأميرة خصصت نص خطابها لتناول إشكالية شائكة تعتبر جوهر النقاش السياسي في هولندا، لاسيما في العقد الأخير. إذ لا تتعلق أهمية هذه الإشكالية بالموضوع الذي تتمحور حوله، وإنما بالكيفية التي يتم بها مقاربته وتحليله. فبعد رحلة من البحث استغرقت سبع سنوات، اكتشفت الأميرة أن “الهوية الهولندية لا وجود لها”! وهذه الرؤية تشكل يقينا وجهة نظر جد مهمة، يحملها شخص ينحدر من القصر الملكي، يرى أنه “أن تكون هولنديا” هي مسألة أوسع من “الهوية الهولندية”، التي لم تتمكن بعد الأميرة ماكسيما من العثور عليها، لأن هولندا ليست مادة ملموسة يمكن للإنسان أن يعثر عليها ويتملكها!  

وما يسترعي الانتباه، أن الأميرة تحاول ترسيخ رؤيتها بالاستناد إلى جملة من التجارب الشخصية التي عاشتها في هولندا، من بينها تجربتها مع حماها الأمير كلاوس، المنحدر من أصل ألماني، الذي لم يتمكن أيضا طوال حياته من أن يستوعب مسألة “أن تكون هولنديا” أو الهوية الهولندية! وتجربة زيارتها للمغرب رفقة مجموعة من الشباب الهولندي من أصل مغربي، الذين يوفقون بين الهويتين الهولندية والمغربية، وقد أعجبت بذلك كثيرا، لأنه، حسب رأيها، من الروعة بمكان أن تنتمي إلى ثقافتين، وتنتقل من ثقافة إلى أخرى بدون مشقة. ثم تشير إلى تجربة تلميذة هولندية من أصل تركي، تحكي أنها عندما نجحت في امتحان نهاية السنة، علقت محفظتها إلى عمود يحمل العلمين التركي والهولندي.

بناء على هذه التجارب الجميلة والمعبرة تحاول الأميرة أن تركز على أهمية المجتمع الهولندي المتعدد الثقافات والألوان، بدل مجتمع تقليدي منغلق وببعد أحادي. مما يجعل، الأفق الهولندي محدودا ومنكمشا، ومن ثم لا تمنح أي فسحة للأجانب والغرباء.

إن هذا الخطاب يشكل إذن، إجابة مفحمة على التصور المتطرف المناهض لكل ما هو أجنبي، ولعل هذا هو السبب الجوهري الذي حفز الأميرة ماكسيما على تقديم هذه الرؤية الجديدة، التي تساهم في طرح حل مثالي لإشكالية الهوية في هولندا، حيث تدعو إلى عدم التركيز على الاختلافات الشكلية بين الناس، وإنما إلى الاهتمام بالأهداف المشتركة بين مختلف شرائح المجتمع، وبالإسهامات الفردية الجيدة، وهكذا نتمكن من التخلص من الأحكام المسبقة. ثم إنه لا ينبغي الانشغال الدائم بالقواسم التي تفصل فيما بيننا، فمن التنوع والاختلاط نستمد قوتنا. لذلك يجب تفادي السقوط في ثنائية الأسود- الأبيض، التي تجعلنا نقلص من إمكاناتنا وإمكانات الآخرين، في حين أن للناس أبعادا كثيرة.

مما لا شك فيه، أن وجهة نظر الأميرة ماكسيما حول حقيقة الهوية الهولندية تحمل رؤية معقولة، من شأنها أن تقدم بديلا ناجعا وقيما لتعايش مختلف الثقافات والأديان داخل السياق الهولندي. وعلى هذا النحو، تسهم في الإجابة عن العديد من الأسئلة والمعضلات الإشكالية. غير أن السؤال العريض الذي يظل معلقا هو: إلى أي حد يمكن الاستجابة لهذا الخطاب بشكل إيجابي، لاسيما من قبل النخبة السياسية ووسائل الإعلام الهولندية؟