الجالية24/محمد بحسي

لم تكن الطفلة الصغيرة نجاة وهي تقطع المسافة بين بيت العائلة المطل على “البلايا” ومدرسة وادي المخازن تتخيل أنها يوماً ما ستكون ضمن تلك الجموع التي تخرج من ميناء طنجة لتنتشر عبر مدن المملكة المغربية بعد أن قطعت آلاف الأميال داخل الأراضي الأوروبية. لم تكن تتصور أن والدها سيقرر يوماً وبعد زيارة عائلية إلى أوروبا، أن يستقر بها ويجلب إليها أبناءه. لم تكن الشقراء الصغيرة التي أحبت قراءة مؤلفات جبران خليل جبران والمنفلوطي و غيرهما من الكتاب الذين كانوا نجوم جيل الستينات و السبعينات تعلم أنها يوماً ستغادر مدينتها التي أحبت حجرها وشجرها وأزقتها وشاطئها الذي يفتح المغرب على النسائم القادمة من أوروبا. ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان وغادر الوالدان مدينة طنجة بنية العودة يوماً ما بعد جمع قدر كاف من المال لشراء بيت يؤوي العائلة. ولكن تبين للوالد ان المقام قد يطول فقرر جلب أبنائه الذين كان قد أودعهم أمانة في كنف الجد والجدة. وصلت نجاة إلى بروكسل رغماً عنها فكان لزاماً عليها أن تواجه عالماً آخر لا يشبه في شيء عالمها، فلا الشوارع تشبه الشوارع ولا الجو يشبه الجو ولا حتى البيوت تشبه البيوت. ضباب بروكسل يحل محل صباحات طنجة المشرقة، هدوء ممل يزرع في قلبها شوقاً سريعاً إلى حركية وضوضاء أزقة وشوارع عاصمة البوغاز. فهمت الشقراء ذات الإثني عشر ربيعاً ان الوقت ليس للبكاء على الماضي وانها البنت البكر للعائلة وينتظر منها تحمل جزء من مسؤولية الأسرة وتحقيق مشروع الهجرة. وككل الأطفال كان عليها أولاً ان تلتحق بمدرسة الحي وأن تواجه النمط الدراسي الجديد وتتعلم لغة لا تعرف منها الا الأساسيات. هَمّ مساعدة الوالد وتحقيق مشروع الأسرة من الهجرة كان أقوى من الرغبة في الدراسة والتحصيل. قبل سن الثامنة عشرة وجدت نجاة نفسها تشتغل وبدأت تقبض رواتبها الأولى وتساهم في المسؤولية.. وبعد التنقل بين مجموعة من المشغلين لمعت في رأسها الصغير فكرة كبيرة: لماذا لا أكون أنا ربة العمل وكذلك كان وفي غضون سنوات أصبح اسم نجاة على كل لسان في بروكسل بل أصبح إشهار وكالة أسفر نجاة ضمن الإشهارات الأساسية في الإذاعة العربية ببروكسل. نجاة كانت تنظم عشرات الرحلات بين بلجيكا والمغرب ولكن كانت أيضاً تشتغل في ميادين أخرى كالتأمين والقروض العقارية والاستهلاكية وكثير من الأنشطة التي كانت لها علاقة بمغاربة بلجيكا. أخذتها الأعمال ومساعدة العائلة والهم في تحسين الوضع المعيشي لكل أفراد الأسرة حتى نسيت نفسها ولم تفكر في حياتها هي فلم تتزوج الا في سن 28 سنة بعدما كانت تؤجل مشروع الزواج مرة بعد أخرى. والزواج يعني البيت و مسؤوليات البيت ويعني مهمة جديدة، مسؤولية الاعتناء بالزوج والأبناء وكل ما تعنيه من تضحية وتفرغ. وبما ان نجاة لا تقبل بأنصاف الحلول ولا ترضى من الأعمل إلا بما كان منها متقنا فإنه كان عليها أن تختار بين عملها ومشاريعها وبين مسؤوليتها كزوجة ثم كأم ولم تتردد في ترك كل شيء والعودة إلى البيت وبداية مهنة جديدة اسمها مهنة ربة البيت. بعد الزواج جاء الأبناء الأربع تباعاً وهنا أيقنت نجاة ان الله قد وهبها أمانة لا بد لها من الحفاظ عليها وايصالها إلى منتهاها. وكان عليها في مرحلة من مراحل الطريق أن تكمل الرحلة وتتحمل أعباءها وحدها. و رغم قوة الطعنات وكثرة الخيبات وخذلان القريب قبل البعيد لم تستسلم ولم تتردد لحظة، لأنها تعلم أن مسؤولية البراعم الأربع على كتفها وان الطريق لا زال طويلاً. بعد إتمام الجزء الأهم من الرحلة ووصول الأبناء إلى المرحلة الجامعية واعتماد كل واحد منهم على نفسه نسبياً، بدأ التفكير في العودة إلى الساحة الثقافية والفنية والاجتماعية للجالية المغربية يراود الام المربية وبدأت تبحث عن الأنشطة الثقافية والفنية وتطرق أبواب الأعمال الخيرية الجماعية بعد أن كانت المبادرات شخصية تقتصر على سكان قريتها الواقعة بالمنطقة الفلامانية. هنا عادت بقوة موهبة سكنتها منذ الصغر ولم تفارقها يوماً وهي موهبة زرعها فيها والدها الراحل و بدأت تورثها لأبنائها. حين أخذت آلة التصوير ونظرت إليها سألت نفسها: وماذا لو ساهمت بهذه الآلة في التعريف بالأنشطة التي أحضرها وادخل السرور على من أصورهم واساهم بذلك في الحركية الثقافية والاجتماعية والفنية للجالية التي أنحدر منها. وسرعان ما استحقت نجاة لقب أميرة العدسة واصبحت الجمعيات والمؤسسات تسعى إليها لتستفيد من توثيقها الاحترافي والفني لأنشطتها. ورغم ان نجاة القاضي تحب أن تشتغل في الظل ووراء الكاميرا فإنها اليوم وبفضل إصرار الإعلامي محمد شاطر خرجت عن صمتها و سلطت الضوء على جزء من حياتها اغنية بالأحداث والمواقف.