الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

ونحن نقرأ زيارة  البابا فرانسيس الأول للمملكة المغربية  يومي 30 و31 مارس تلبية لدعوة كريمة من أمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله، قــد لا نُـضيف جديــدا بقولنا بأنها زيارة تاريخية لحظة إنسانية خالدة، لأن العالـم قــد وقف بالفعل على كل العناصر التاريخية والرمزية الدينية والروحية والفضاءات الإنسانية التي جعلت هذا الموعد يوما خالدا، وجعلت من الحديث عن أمير المؤمنين بشخصيته القيادية والإصلاحية وذكاءه في مخاطبة العالــم بأربع لغات عالمية انطلاقا من ساحة مسجد حسان بالرباط إلى جانب ضيفه الكبير الحبر الأعظم فرانسيس، مــادة دسمة لأكثر من تحليل استراتيجي في أغلب المحطات الإعلامية العالمية الكبرى.

 

إن قــوة اللقــاء وأهميته التاريخية جعلت كل التفاصيل التنظيمية مهمة وحاملة لرسائل رمزية، انطلاقا من اختيار ساحة جامع حسان وضريح محمد الخامس، ووصولا إلى توقيت الزيارة أي شهر رجب، بكل ما يحمله من رمزية دينية تحيل إلى أول موعـد تاريخي لحوار الأديان في التاريخ الإسلامي، أي لقاء وفــد عن الرسـول (ص) بالملك الحبشي المسيحي الذي لا يُـظلم عنده أحدا. كما أن أهمية هذه الـزيارة التاريخية تكمن أيضا في أنها جمعت بين بين أمير المؤمنين والجالس على الكرسي الرسولي بالفاتيكان، بكل ما يُـمثلانه من قــوة على مستوى التأثير الروحي والديني في العالــم، وقدرتهما على الدفع بالديبلوماسية الدينية كقنـاة للحوار في أكثـر الملفات الحارقة، مما يُبرر المتابعة الإعلامية غير المسبوقة للحدث وكـذا مرافقة 69 صحفي للبابا على متن طائرته البابوية.

 

زيارة رسمية بأهداف كونية:

 

هذا البعد الكوني يمكن استنباطه أيضا من الكلمتين اللتين ألقاهما كل من أمير المؤمنين والحبر الأعظم، وما تضمنتاه من تقاسم لملفات مشتركة تتعلق بالهجرة والبيئة وحرية المعتقد الديني والإرهاب وأهمية تعزيز سبل حوار الأديان وقبول الآخر، واحترام الاختلاف، وبناء مجتمعات تعتمد على التعدد والتضامن في إطار يحتكم إلى معيار المواطنة وليس إلى أي معيار جنسي أو عرقي أو ديني.

 

بالإضافة إلى ذلك، جعل عامل آخر من هــذا اللقــاء تاريخيا ومفصليا ومحطة تأمل وتقييــم في مسار حوار  الأديــان الـذي طال أمده، ألا وهو توقيت الزيارة الذي جاء بعد توقيع اتفاق الأخوة الإنسانية بالإمارات في فبراير 2019 ، وقبله سبقه توقيع الميثاق العالمي للهجرة بمراكش في دجنبر 2018، وقبل هذا وذاك مؤتمر الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة أو ما يعرف بإعلان مراكش سنة 2016، وأيضا المؤتمر الدولي حول البيئة (كوب 22) سنة 2016، مع التذكير بالزيارة التاريخية التي قام بها البابا جون بول الثاني ولقائه بجلالة المغفور له الحسن الثاني، في غشت 1986 بالدارالبيضاء.

 

 ومن جهة أخـرى، فقد تزامن هذا اللقاء مع سياق خاص بعد الهجمات الإرهابية التي غالبا ما تتخذ خلفية دينية، ويسقط فيها ضحايا مسلمين ومسيحيين ومـن ديانات أخرى، وارتفاع منسوب  الكراهية والحقد والعنصرية والفكر المتطرف عبر قنوات الإعلام و الإنتاجات الفنية والفكرية؛ وكذا وصول قوى سياسية متطرفة إلى السلطة في العديد من الدول الغربية والتي تبنت علانية سياسات عمومية اقصائية وعنصرية على أساس عرقي وديني، ورفعت شعارات القومية والسيادية…

 

البعد الإصلاحي قاسم مشترك بين الحبر الأعظم وأمير المؤمنين:

 

في ظل كل هذه الفوضى والعنف واليـأس كان لابــد من سـلك طريق جديــد وهــو طريق الأمل، بآليات جديدة وبفكر جديد وهو ما يستوجب مشاتل جديدة تتبنى الفكر الوسطي وتقبل الأخـر والتربية على قبول والعيش مع الآخر المختلف لونا و دينا و عرقا تحت عنوان الأخوة الإنسانية.

 

ولأن رفع شعار الأمل سيكون غير كاف من دون تبنيه من طرف مؤسسات دينية كبرى تمثل رمزية روحية تسكن قلوب وعقول سكان هذه الأرض، لذلك حرص كل من أمير المؤمنين محمد السادس والبابا فرانسيس الحبر الأعظم للمسيحيين الكاثوليك، خلال هذه الزيارة على الحث على الحوار والعيش المشترك والتسامح، وهو ليس بالأمر الجديد بالنظر إلى ما يتمتع به كلاهما من شخصية إصلاحية ومُجـددة في الحقل الديني و الديبلوماسية الدينية، كما يشهد على ذلك العالم.

 

لا يخفى على أحد مجهودات البابا فرانسيس في حل الملفات حارقة داخل الكنيسة الكاثوليكية مثل الملفات أسرية كالزواج والطلاق وإعادة زواج المطلقين،  والزواج المدني والكاثوليكي وزواج المثليين، وكذا مشاكل داخل الكنيسة الكاثوليكية مثل فضائح الشذوذ الجنسي، بالإضافة إلى منهجية تدبير مالية الفاتيكان… كل لم يمنع الجالس على الكرسي الرسولي من تحريك الديبلوماسية الدينية وجعلها في قلب الأحداث الدولية لأزمة سوريا وكوبا وفنزويلا  والكوريتين، و أيضا الانفتاح على الفيتنام والاتفاق التاريخي مع الصين حول تعيين الأساقفة والاعتراف بأن البابا هو رئيس الكنيسة الصينية سنة 2017 .

 

أما فيما يتعلق بملفات الهجرة واللجوء فقد كان البابا فرانسيس حاضرا في كل النقاشات الدولية التي تعرضت لهذه القضايا، فرفض السور الحدودي بين المكسيك وأمريكا، ونقل عبر الطائرة البابوية 12 لاجئا سوريا من إحدى الجزر اليونانية، كما ساهم بكل ثقله في صياغة والمصادقة على الميثاق العالمي حول الهجرة بمراكش في دجنبر 2018 بالإضافة إلى تبنيه لملف البيئة والتغيرات المناخية…. هذه إذن بعض الملفات التي اشتغل عليها البابا فرانسيس مع فريق عمله من المستشارين، بالرغم من المعارضة التي لقيها من تيارات محافظة داخل الكنيسة الكاثوليكية نفسها.

 

والملاحظ أن هذا البعد الإصلاحي هو إحدى النقاط المشتركة لبابا الفاتيكان مع أمير المؤمنين الملك محمد السادس، وهو ابعد الذي حرص جلالته على تعزيزه منذ جلوسه على العرش وفي مختلف المجالات خاصة الشأن الديني حيث عمل على مواكبة إصلاح شامل بدءا من مدونة الأسرة، مرورا بالمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الجهوية، مرورا بتقنين الإفتاء وإصدار فتوى عن الردة، والتأكيد في أكثر من مناسبة على نبذ العنف والإرهاب، بالإضافة إلى رعاية جلالته  الشخصية لمجموعة مهمة من المؤتمرات الدولية لحوار الثقافات والأديان، سواء بفاس أو المؤتمر العالمي الخاص بحماية الأقليات في المجتمعات المسلمة بمراكش…

 

أكثر من هذا فقد اختار المغرب تحت قيادة صاحب الجلالة وفي أسمى قانون في البلاد أي دستور 2011 التأكيد على حظر ومكافحة كل أشكال التمييز  بسبب الجنس أو اللون او المعتقد، (التصدير)، وكذا ضمان الدولة لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية (الفصل 3)، مما يعني أن معيار ” المواطنة ” هو المرتكز الأساسي في تعامل مؤسسات الدولة مع المواطنين، وليس معيار الدين أو الانتماء العرقي.

 

وللتعبير عن حرص جلالته على تحصين حرية الممارسة الدينية في المملكة لجميع المؤمنين فقد جدد التأكيد في خطابه ليوم 30 مارس 2019  أمام الحبر الأعظم، وأمام كل العالــم على أنه، وبصفته أميرا للمؤمنين، فإنه «مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية، وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين على اختلاف دياناتهم…

 

لقد كان عنــوان الزيارة البابوية إلى المملكة المغربية هو الأمل،  وهــو نفس الشعار الذي رفعه جلالة الملك ضد العدميين ومروجي الأفكار الهدامة، ورأى أن الأمل يعني المستقبل وتصحيح أخطاء الماضي؛ وهكذا تم إنشاء معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات كمشتل لرجال الدين وفقهاء مستقبل، يتبنون فكرا وسطيا يعتمد على الفكر المالكي  الوسطي والصوفية الاشعرية ضد كل أشكال التطرف الذي يقود إلى العنف والإرهاب. أبعد من هذا فقد أصبح ذات المعهد المفتوح في وجه الطلبة والطالبات من إفريقيا وأوروبا، مصدرا لنموذج منفتح ووسطي ويحترم قواسم العيش المشترك، وهو ما دفع الحبر الأعظم على زيارته والتعرف على تفاصيله، والتعبير عن أهميته بقوله “إننا ندرك في الواقع مدى  أهمية التنشئة الملائمة للقادة الدينيين في المستقبل ».

 

إن ما يجمع كل من أمير المؤمنين الملك محمد السادس والحبر الأعظم فرانسيس هو أجندة إنسانية مشتركة، وتقاسم الإيمان بنفس القيم الروحية الفاعلة التي تنشد خدمة الصالح العام، وتوافقهما أيضا على أن المشكل ليس في الدين ولكن في الجهل بتعاليم الـدين، الأمر الذي يسهل من تشخيص الهدف، أي محاربة الجهل بالدين عن طريق التربية، لأن «الدين هو نور ومعرفة وحكمة…» كما قال أمير المؤمنين محمد السادس في حفل استقبال بابا الفاتيكان يوم 30 مارس 2019.