الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

 

لا يُمكن إسقاط المرجعية التاريخية من حسابات المعادلات الجيوسياسية والمتغيرات الدولية؛ فهي حاضرة في شكل تراكمات سياسية ومعرفية واستشهادات بأحداث تاريخية ومواقف لشخصيات قيادية. كما نجد هذه المرجعية حاضرة في تأثيث الفضاءات والأمكنة السياسية في شكل لوحات وبورتريهات وتماثيل لشخصيات تاريخية أو بنايات وجداريات أثرية؛ وحاضرة أيضا كمؤشر للحاضر والمستقبل من خلال التوثيق والتدوين سواء من خلال الإنتاجات المعرفية أو كتابات فلسفية وكتب الرحلات والأسفار وأيضا الحروب القديمة… وقد شهدنا حضور الثقل التاريخي في أكثر من حدث سياسي بارز، وفي أكثر من تصور يهدف إلى رسم خرائط مستقبل العالم السياسية والاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والإيديولوجية.

 

والملاحظ في أحايين كثيرة أن منطق المرجعية التاريخية يطغى على قُدرة أكبر الفاعلين السياسيين والاقتصاديين أنفسهم في تدبير الأزمات، وتكون العودة إلى التاريخ أساسية من أجل تقوية الحجة وبناء الموقف.

 

ولنا في الحديث الرائج اليوم وبقوة في أكثر من صالون فكري وداخل أوساط السياسة والإعلام والاقتصاد حول “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، أو ما يُعرف بطريق الحرير الجديد، بحيث اقترن التفكير في هذا المشروع الضخم أول الأمر بمن كان لهم السبق في رسم طريق الحرير والتعرف على الشعب الصيني؛ وعلى رأسهم كل من الرحالة الإيطالي ماركو بولو والرحالة المغربي ابن بطوطة، وهو ما يبرز قدرة المرجعية أو العامل التاريخي على صناعة حاضر ومستقبل الدول والشعوب؛ لذلك فالصين اليوم وبإطلاقها “مبادرة الحزام والطريق”، التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ سنة 2013 كمشروع إستراتيجي ضخم يدخل في “رؤية 2025″، سترسم معالم نظام عالمي جديد لخمسين سنة مقبلة.

 

العولمة الشرقية تمر عبر طريح الحرير الجديد:

 

لقد جاء الإعلان عن هذا المشروع الضخم في توقيت سياسي مفصلي تتداخل فيه مجموعة من المعطيات الجيوستراتيجية في مختلف دول العالم. ففي أوروبا يتسم السياق الحالي بخلافات حادة داخل دول الاتحاد الأوروبي، وبأزمة البريكسيت التي أضاعت وجهة بريطانيا، وكذا بالأزمة الداخلية لحلف الشمال الأطلسي، وتنامي ظواهر الإرهاب وتصاعد موجة الكراهية ضد المهاجرين والإسلام وفوبيا. أما في الضفة الأمريكية فالكل يتابع سياسات الرئيس الأمريكي ترامب المتسمة بالحماية ورفع التعريفات الجمركية والانسحاب من الهيئات الأممية لحقوق الإنسان ومن الاتفاق النووي ومن اليونيسكو؛ بينما لا تزال المنطقة العربية تعيش على تداعيات الربيع العربي على جميع المستويات، وتعرف فيه الدول الإفريقية هجرة جماعية وصراعات مسلحة وتقلبات مناخية ناهيك عن أزمات البطالة وارتفاع الدين الخارجي…

 

في هذا السياق العالم، يأتي العملاق الصيني ويطرح مشروع إحياء طريق الحرير الجديدة لرسم خريطة عالمية جديدة تحول اتجاه العولمة إلى الشرق، وتقدم الصين نفسها لتكون بديلا عن اقتصاديات الغرب التي أنهكتها سياسات التقشف وأعْيتها اللازمات الاقتصادية العالمية، وفشلت في التوصل إلى اتفاق حول الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي؛ كما تفرض نفسها بقوة في الأسواق المالية بإدخالها للعملة الصينية “اليوان” سنة 2016 في سلة المبادلات التجارية في الأسواق العالمية إلى جانب العملات الكلاسيكية كالدولار والأورو…، من دون أن ننسى الأدوار السياسية التي أصبحت تطلع بها الصين على الصعيد الدولي؛ وهو ما يجعلها أيضا تكسر موازين القوى المبنية على ثنائية القطبية وبعدها أحادية القطبية الموروثة عن سقوط جدار برلين.

 

من جهة أخرى، فإن مبادرة إعادة رسم النظام العالمي الجديد بقلم صيني تعني إعادة النظر في العديد من العلاقات والمؤسسات التي تأسست على مقاس المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ونعني بها ترتيبات جديدة داخل مجلس الأمن ومؤسسات الأمم المتحدة في حقوق الإنسان والبيئة والمجموعات الاقتصادية للدول السبع ولدول العشرين، وكذا قوانين الأسواق المالية ومؤسسات القروض البنكية.

 

تطلبت المبادرة الصينية سنوات عديدة من الترتيبات والجهد وأيضا تخصيص مبالغ مالية خيالية تقدر بحوالي 900 مليار دولار، بمعنى أوضح فإن الثورة الصناعية والتجارية التي تعرفها الصين تجعها في حاجة إلى البحث عن أسواق جديدة للمنتوجات الصينية؛ وهو ما يفسر اهتمامها بالدول الإفريقية في مناقشة “مبادرة الحزام والطريق” داخل “منتدى التعاون بين الصين وإفريقيا” ورفع شعار رابح – رابح، مما توج باستثمارات مهمة في تجهيز وتنويع البنية التحتية للدول الإفريقية خاصة التي تتمتع بالموارد والطاقة.

 

وهكذا، فقد جهزت الصين موانئ بكل من مصر والجزائر (ميناء الحمدانية)، وبنت مدنا في أنغولا، وتعهدت ببناء مدينة إدارية بمصر، وبنت المسجد الكبير بالجزائر وآلاف من الكيلومترات من الطرق والسكك الحديدية خاصة بين إثيوبيا وأريتيريا، كما لها مشاريع ضخمة في كل السودان وتونس والمغرب، كما رفعت من معدلات تبادلها التجاري مع الدول الإفريقية.

 

الحاجة نفسها إلى أسواق جديدة جعلت الصين تنفتح على العديد من دول أوروبا الشرقية وعلى روسيا ودول البلقان، وإشراكها في طريق الحرير الجديدة، وهو ما سهل لها فتح أسواق أوروبا أمام المنتوجات الصينية، بل أن حوالي 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي قد وقعت بالفعل اتفاقية طريق الحرير الجديدة وجعلت موانئها وسككها تحت سيطرة شركات الاستثمار والبنوك الصينية.

 

نحو حرب تجارية صينية أمريكية في الساحة الأوروبية؟

 

لكن حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روما، لتوقيع “اتفاقية تفاهم” مع إيطاليا يوم 22 مارس 2019، جعل من هذا الحدث محطة تأمل للعديد من الفاعلين في الاقتصاد والسياسة والقانون، وانقسم المحللون بين معارضين لهذا الاتفاق ممن يقولون بضرورة تفاوض الصين مع كل أوروبا وليس إيطاليا منفردة؛ لأن ذلك يهدد وحدة أوروبا ويضعف القوة التفاوضية لأوروبا أمام الصين، وتصبح إيطاليا بذلك حصان طروادة لغزو الأسواق الأوروبية انطلاقا من موانئ ترييستي وجنوة وباليرمو؛ وبين مؤيدين للاتفاق الرافعين لورقة المصالح الإستراتيجية الإيطالية، وحسنات جلب استثمارات وامتصاص البطالة وإعمال المصلحة الوطنية، ويتدرعون مصالح مشتركة ومبادلات تجارية ثنائية للصين مع كل من فرنسا وألمانيا، ويتهمون المعارضين للاتفاق الصيني- الإيطالي بالرغبة في توسيع هامش العزل المضروب على إيطاليا من طرف ألمانيا وفرنسا.

 

من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن 13 دولة من الاتحاد الأوروبي قد وقعت بالفعل في وقت سابق لاتفاقيات مع الصين، إلا أن بعض المحللين رجحوا الأهمية الخاصة لتوقيع إيطاليا لهذا الاتفاق مع الصين، وهي الأهمية التي تعود بالأساس إلى كون إيطاليا دولة عضو في مجموعة السبع، ومن مؤسسي الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي “الناتو”؛ وهو ما جعل حتى الرئيس الأمريكي ترامب يستشعر أهمية النفوذ الصيني عبر إيطاليا ووجه تنبيها إلى الأخيرة، وتأهبت كل من فرنسا وألمانيا لتقليص مخاطر انضمام إيطاليا إلى طريق الحرير الصينية بلقائها مع الرئيس الصيني نفسه يوم 26 مارس في قمة أوروبية صينية مصغرة بباريس بحضور أنجيلا ميركل وإيمانيول ماكرون، وكذا ورئيس اللجنة الأوروبي جون كلود جونكير، حيث دعت فرنسا إلى اتفاق صيني أوروبي وخلق ضوابط تحترم الاتحاد الأوروبي، وتحترم معايير أوروبا في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والبيئة..

 

ولعل قلق الدول الغربية من التقارب الصيني الإيطالي له ما يبرره، فالمعطيات المتوفرة تفيد بتوقيع فرنسا لاتفاقية تجارية مع الصين تفوق قيمتها 30 مليار دولار، أثناء زيارة الرئيس الصيني إلى باريس قادما إليها من روما، وبالمقابل فلم تتجاوز قيمة الاتفاقيات التجارية الصينية مع إيطاليا 2،5 مليار دولار فقط؛ وهو ما يعني أن غاية الصين من إشراك إيطاليا في طريق الحرير الصينية هي غاية سياسية وإستراتيجية أكثر منها تجارية.

 

فبفضل إيطاليا يمكن للصين أن تصل إلى قلب أوروبا، وتضع قدما لها في البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من الموانئ الإيطالية مثل باليرمو وجنوة، بمقابل ضخ استثمارات صينية تساعد إيطاليا في الخروج من أزمتها والرفع من معدلات صادراتها إلى الصين لتتجاوز المعدل الحالي أي 13 مليار دولار، وبالتالي التخلص من فكي جيرانها في الشمال ألمانيا وفرنسا، خاصة بعد توقعهما لاتفاقية أكْويسْغْرانا في يناير 2019. كما سيسمح لإيطاليا العودة إلى ساحة العلاقات الدولية كفاعل مؤثر في معادلة النظام العالمي الجديد، كما كانت أيام الفنيزْيانو ماركو بولو.

 

وإذا كانت التفاعلات السريعة للعلاقات الجيوسياسية تجعل من التكهن بمستقبل العالم مهمة صعبة بل مستحيلة، فالواضح أن العروض الاستثمارية المغرية للصين في إطار مبادرة الحزام والطريق وعزمها على غزو الأسواق العالمية، وسياسات الولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب وقوتها العسكرية والإعلامية، وأيضا تقدمها التكنولوجي الذي تقويه منطقة “السليكون فالي”، تفتح المجال لتوقع حرب تجارية بين العملاقين الأمريكي والصيني، ستكون الغلبة لمن يملك التكنولوجيا المتطورة ولمن يملك أكبر بنك للمعلومات ولمن يملك الطرق البحرية والبرية وكذا الرقمية ولمن يملك أكبر آلة إعلامية.

 

فالصراع الأمريكي-الصيني يعرف أكثر من ساحة ويشتغل على أكثر من أجندة ويستعمل أكثر من آلية، لذلك فإن المحللين يجعلون من تاريخ 8 و9 أبريل المقبل حيث تعقد ببيكين قمة الاتحاد الأوروبي والصين، وأيضا تاريخ ماي 2019 موعد الانتخابات الأوروبية، محطات مهمة في هذا الصراع بين عولمة الغرب بزعامة أمريكا وعولمة الشرق بزعامة الصين.

 

وبالعودة إلى ثقل المرجعية التاريخية الذي أشرنا إليه في البداية فالتساؤل المطروح سبق وأن طرحه نابوليون بونبارت في المشهد الصيني بقوله “ترك العملاق الصيني نائما، لأنه إذا استيقظ سيهز العالم”، وهو العنوان نفسه الذي وضعه السياسي والدبلوماسي الفرنسي ألان بيريفيت لكتابه الصادر سنة 1973 (منشورات فايارد) والذي جاء سنتين بعد زيارته للصين على رأس وفد برلماني فرنسي لإنجاز تقرير استقصائي عن الصين في أوج ثورتها الثقافية. لذلك، نقول بأنه لا يمكن إسقاط المرجعية التاريخية في عملية قراءة الأحداث الدولية والمعادلات الجيوسياسية.