الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

تأثر المنتدى الاقتصادي العالمي، المنعقد في منتجع دافوس بسويسرا في طبعته الـ49 بين 22 و25 يناير الحالي، بواقع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية، وهو ما برر اعتذار زعماء دول قوية اقتصاديا ومؤثرة سياسيا، مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكذا الرئيس الصيني شي جين بينغ، بالإضافة إلى الرئيس الهندي، وكذا الروسي بوتيـن.

 

وقد أثر هذا الغياب في مناقشة ملفـات ساخنة مطروحة على أكبر منصة اقتصادية ومالية في العالم، مثل ملفات العولمة والثورة الصناعية الرابعة والتغيير المناخي والقرصنة الرقمية والحرب التجارية والشعبوية… فغياب أكثر من رئيس بسبب أزمات داخلية هو عنوان كبير لما يعيشه النظام العالمي من مخاض سياسي واقتصادي وبيئي، ولمرحلة انتقالية تشبه حالة القطيعة مع الماضي، وبداية البحث عن أجوبة لأسئلة جديــدة.

 

وتتجلى صعوبة الظرفية الراهنة في أحداث مهمة قلبت توازنات أقوى الدول العالمية، من أزمة “الإقفال الحكومي” الأطول في تاريخ أمريكا، عقب رفض ترامب التوقيع على الميزانية الفيدرالية ما لم تُخصص أموال كافية لبناء الجدار الحدودي مع المكسيك، مرورا برفض البرلمان البريطاني المصادقة على خطة تيريزا ماي لمغادرة الاتحاد الأوروبي (البريكسيت)، إلى أزمة السترات الصفراء الفرنسية، التي دفعت ماكرون إلى فتح حوار وطني كبير لتجاوز الأزمة الداخلية العاصفة، وصولا الى ركود الاقتصاد الصيني، والتحضير للانتخابات في الهند وغيرها…

 

ورغم صعوبة السياق الدولي، فقـد انعقد ملتقى دافوس 2019، بحضور حوالي 3000 مشارك من 100 دولة. كما عرف حضور وجـوه جديـدة كالرئيس البرازيلي الجديـد بُولسُونارُو، وأخرى أصبحت معتادة مثل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، وأمير موناكو، بالإضافة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي حظيت باستقبال كبير، وبتغطية إعلامية مهمة تعبيرا عن قيمة ميركل السياسية، وبالنظر إلى قوة ألمانيا اقتصاديا وسياسيا، بخلاف بعض القادة الذين حضروا في قاعة شبه فارغة.

 

وفي كلمتها خلال منتدى دافوس، انتقدت ميركل صعود التيارات الشعبوية، ودافعت عن هندسة العولمة والنظام متعدد الأقطاب. كما تحدثت عن علاقة بلادها بأمريكا والصين، وعن غاز روسيا، وعن إفريقيا التي سيصل عدد سكانها إلى مليارين بحلول سنة 2050، وعن حلف الناتو وانتخابات ماي 2019، وعـن جي 20، وكذا السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.

 

من جهة أخرى، عـرفت ممرات قاعة الاجتماعات بدافوس العديد من اللقاءات الثنائية، كان من أبرزها لقاء ميركل بكُونتي رئيس الحكومة الإيطالية، حيث تبادل الطرفان الحديث عن الهجرة والموانئ المغلقة، والمشاركة في “عمليات صوفيا”، والتحالفات الحزبية في أفـق انتخابات ماي 2019.

 

أنجيلا ميركل وإن كانت تمثل تيارا أوروبيا وحدويا، فإن تدخل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، عبر فيديـو مسجل، تموقع في الضفة المقابلة لميركل عندما تحدث عن رياح جديدة تهب على العالم، وتطرح أسئلة لم تطرح من قبل، مشيدا في الوقت نفسه بتجارب البرازيل وحركة “خمسة نجوم” وكذا “البريكسيت” ببريطانيا، معتبرا إياها إشارات لـقطيعة إيجابية.

 

وتشاء الصدف أن يتزامن افتتاح منتدى دافوس يـوم 22 يناير مع توقيع ماكرون وميركل “اتفاقية أكْويسغْرانا”، التي تتضمن تعاونا وتكاملا اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا بين فرنسا وألمانيا، وهي اتفاق تكميلي لـ”اتفاقية الإليزيه” ليوم 22 يناير 1963.

 

ولم يكن اختيار مكان التوقيع على “اتفاقية أكويسغرانا ” محض صدفة، فمنطقة أكويسغرانا أولا هي منطقة حدودية بين أكثر من دولة أوروبية (ألمانيا، فرنسا، بلجيكا وهولندا)، مما يفسح المجال لانضمامها مستقبلا لهذه الاتفاقية؛ وثانيا، فالمنطقة هي مكان لحدث تاريخي، حيث تم فيها تعيين شارلمان أو شارل الثالث إمبراطورا للإمبراطورية الرومانية المقدسة، بمباركة بابا الفاتيكان ليو الثالث، وكانت العاصمة هي آخـن وليست روما الإيطالية.

 

هذا التعاون بين ألمانيا وفرنسا ستسعى من خلاله باريس إلى طلب مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي لألمانيا، وهو ما يعارضه ضمنيا الإيطالي كونتي، الذي يرى بأن المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي يجب أن يكون من نصيب الاتحاد الأوروبي وليس برلين وحدها.

 

ولعل ما يدفع إلى التأمل في هذه الاتفاقية بشكل دقيق هو عزم بريطانيا، بعد التصويت على “البريكسيت”، الاعتماد على محور دول الكومونويلث والولايات المتحدة، وبالتالي فقدان الاتحاد الأوروبي دولـة لها مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي، وبقاء فـرنسا ممثلة وحيدة لأوروبا في مجلس الأمن.

 

وقد لمح العديد من المراقبين إلى أن “اتفاقية أكْويسغرانا” الجديـدة ستكون إما مقبرة للاتحاد الأوروبي أو ستخلق اتحادا بسرعتيْـن مختلفتيْـن، خاصة إذا عرفنا أن الاقتصادين الفرنسي والألماني يشكلان 50 بالمائة من ناتج منطقة الاتحاد الأوروبي، كما أن ألمانيا هي أول شريك تجاري لفرنسا، وثاني أكبر مستثمر أجنبي في فرنسا بحوالي 4000 مقاولة، وتوفر أكثر من 300 ألف منصب شغل، بـرقم معاملات يصل إلى 140 مليار يورو؛ في حين أن فرنسا هي ثاني شريك تجاري لألمانيا بعد أمريكا. كما توجد حوالي 2700 مقاولة فرنسية بألمانيا، وتخلق أكثر من 360 ألف منصب شغل.

 

أما على المستوى التنسيق السياسي، فإن ميركل وماكرون عبرا في أكثر من مناسبة عن تمسكهما بنظام الاتحاد الأوروبي وسياسة التضامن والتعاون الاقتصادي، مما يجعلهما في مواجهة تيار اليمين المتطرف وكذا تيار الشعبوية والحمائية الوطنية.

 

وإذا كانت أشغال منتدى دافوس قد طبعتها الانقسامات السياسية والحرب التجارية والاختلاف في تدبير مشاكل التغير المناخي والعولمة والشعبوية، فهل “اتفاقية أكـويسغرانا”، الموقعة بين ألمانيا وفرنسا في يوم افتتاح منتدى دافوس، تعني، مثلا، التوقف عن توسيع رقعة الاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن اعتبارها طريقة للالتفاف على مطالب تغيير اتفاقيات الاتحاد الأوروبي كماستريخت ودبلـن؟ وهل هي إجراء احتياطي قبل انتخابات ماي 2019 واحتمال وصول اليمين المتطرف والتيار الشعبوي إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي؟ وهل ستكون هذه الاتفاقية السقف الآمن في حالة انهيار الاتحاد الأوروبي؟ وهل تم دفن الاتحاد الأوروبي يوم توقيع الاتفاقية في مكان ميلاد الإمبراطورية الرومانية المقدسة؟

 

لا يتعلق الأمر هنا بقراءة فنجان العلاقات الدولية، وإنما هي مجرد تساؤلات كتمرين فكري يسائل المعطيات السياسية على ضوء الوقائع التاريخية.