زهير داودي*صحافي*

 

 

كل من تابع الخطبة “الفايسبوكية” العصماء التي ألقاها السيد عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق، مساء يوم الإثنين 21 يناير الحالي، أمام جمع من شبيبة حزبه (فرع العدالة والتنمية بمدينة الفقيه بنصالح) حَلَّ ضيفاً عليه في بيته بحي “الليمون” بالرباط، يخرج باستنتاج واحد: بنكيران أصبح متجاوزاً، ويَخْبِطُ خَبْطَ عشواء في كل الإتجاهات الداخلية والخارجية.

 

ما أثار انتباهي، وأنا أتابع أكثر من ساعة ونصف الساعة هي مدة البث المباشر لخطبة بنكيران على “الفايسبوك”، هو أن الرجل أصبح فقيهاً قانونياً يُفْتِي في شؤون الدستور، ويضرب بمقتضياته عرض الحائط من أجل خدمة أجندته الشخصية والسياسية وتبرير بعض المواقف الغريبة عن المجتمع المغربي.

 

هل تَنَاسَى رئيس حكومتنا السابق أن السياسة الخارجية للمملكة المغربية كانت دائماً عبر التاريخ، وفق مقتضيات الوثيقة الدستورية والأعراف الدبلوماسية والممارسة الفعلية، بيد رئيس الدولة. فجلالة الملك محمد السادس، ارتكازاً على منطوق وروح الدستور، يتمتع بصلاحيات حصرية يُحَدِّدُ من خلالها طبيعة ومتانة العلاقات الثنائية مع أي بلد شقيق أو صديق، على أن تحرص الحكومة بكل مكوناتها على الإلتزام بالتوجه العام المحدد من طرف جلالته، ذلك أن السياسة الخارجية ترسم العلاقات وتستشرف المستقبل ومصير الأمم، وهي مرتبطة بالرؤية الإستراتيجية للدولة التي تختار تحالفاتها بقرار سيادي مستقل.

 

وحتى في الديمقراطيات العريقة والحديثة ظل هذا الثابت الدستوري على المنوال ذاته، إذ تُقَرَّرُ السياسة الثابتة للدولة على المستوى الخارجي من طرف رئيس الدولة مهما تعاقبت وتغيرت الحكومات المشكلة بإيديولوجياتها السياسية المختلفة.

 

والراجح أن رئيس الحكومة السابق يعلم جيداً أنه في فرنسا وإسبانيا، على سبيل المثال لا الحصر، ورغم تعاقب الحكومات اليسارية أو اليمينية، فإن المواقف الكبرى والعلاقات الإستراتيجية تبقى ثابتة في بنيتها العامة، مع هوامش ضيقة تعمل في إطارها الحكومات للتعاطي مع بعض المستجدات والأحداث التي لا تمس بالمصالح العليا للدولة من قبيل تطوير الإطار القانوني للتعاون والشراكة في مجالات مختلفة مع البلدان الشقيقة والصديقة.

 

وعليه، فإن الدستور (أسمى وأعلى مصدر للقانون) مَا وُضِعَ إلاَّ من أجل تنظيم الصلاحيات في الدول، وذلك لتفادي وقوع أي تضارب أو تناقض في المواقف الرسمية.

 

إن خطبة بنكيران الأخيرة بَيَّنَت، للأسف الشديد، أن المغرب لم يعد يتوفر على رجالات دولة يراعون واجب التحفظ ويضعون المصالح العليا للوطن فوق مصالحهم الشخصية الضيقة.

 

فما معنى أن يُهاجم رئيس حكومتنا السابق دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، ويقول إن بها أشخاصاً “يتحرشون بنا”؟

 

من المحقق أن السيد بنكيران يعلم جيداً أن العلاقات مع أبوظبي، أو مع مختلف العواصم الخليجية، ليست محكومة بمنطق المصالح الضيقة والمنافع العابرة. إنها علاقات متجذرة تستند إلى أخوة صادقة وراسخة وعمق إستراتيجي وتاريخي بأبعاد إقليمية وجهوية وحتى دولية.

 

وإذا كان هناك من تصفية حسابات على خلفية أن دولة شقيقة وصديقة للمغرب هي الإمارات العربية المتحدة، لا تُخْفِي مناهضتها العلنية وعدائها الواضح لتيار سياسي/ديني معين كتيار “الإخوان المسلمين”، فإنه لم يكن من الأجدى تماماً أن يقوم رئيس حكومة سابق بدور “محامي الشيطان”، ويهاجم هذه الدولة الشقيقة لا لشيء سوى لإرضاء رؤساءه في “التنظيم العالمي للإخوان المسلمين” والدول الداعمة للتنظيم؟!

 

وعلينا أن نُذَكِّرَ عبد الإله بنكيران، والذكرى تنفع المؤمنين، أنه حَلَّ عام 2016 ضيفاً معززاً مكرماً على الإمارات العربية المتحدة، وكانت المناسبة حضوره مؤتمراً حول الطاقة عقد في العاصمة أبوظبي. كما أن أبناءه وقادة الحزب يترددون باستمرار على هذا البلد الخليجي، وآخر مثال هو الزيارة الأخيرة للسيد عبد العزيز الرباح، وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة، إلى أبوظبي بمناسبة انعقاد الجمعية العمومية التاسعة للوكالة الدولية للطاقة المتجددة “إيرينا”.

 

كثيرون من الناس العقلاء يعتقدون ويقولون إن الأمر يتعلق بتوجيه من “التنظيم العالمي للإخوان المسلمين” للتشويش المقصود والمغرض على العلاقات الإماراتية – المغربية، وذلك عبر خرجات إعلامية مدروسة لرجل انتهت صلاحيته السياسية وفقد الكثير من بريقه ومصداقيته بعد إعفاءه من رئاسة الحكومة وإبعاده عن التحكم في قيادة الحزب.

 

والواقع أن فشل السيد بنكيران الذريع في الدفاع وتبرير ما لا يُبرر بخصوص “فضيحة الصور الباريسية” للبرلمانية أمينة ماء العينين وهي بدون حجاب، ما هو إلا ترجمة ملموسة لفقدانه البوصلة والإتزان في مجال الممارسة السياسية والحزبية.

 

كفى عبثاً. إن هذه الخرجات توضح، بالملموس، أن السيد بنكيران أصبح يكرر الكلام نفسه الذي فقد كل معناه وكل صداه، ولم يعد يمتلك ما يقوله لأنصاره في حزبه. وهذا التخبط في الكلام، بمناسبة وبدون مناسبة، ماهو إلا تعبير عن فشل مشروعه السياسي كأمين عام سابق لحزب العدالة والتنمية.

 

كفى عبثاً. وَاهِمٌ من يعتقد أن مثل هذه الخرجات الإعلامية غير المحسوبة، والتي تفتقد للحد الأدنى من اللياقة في القول واختيار الأسلوب اللائق للتعبير عن الأفكار والمواقف، يمكن أن تُسِيءَ للدولة من خلال محاولة يائسة للنيل من الروابط الأخوية والإستراتيجية القوية بين الرباط وأبوظبي. إنها في حقيقة الأمر تُسِيءُ لهؤلاء الأشخاص، ومن يعتقدون أنهم يمثلون حزباً سياسياً “كبيراً” قادته ظروف معينة إلى مقاعد البرلمان ورئاسة الحكومة.

 

إن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من الخروج الخطابي للسيد عبد الإله بنكيران، عبر تقنية المباشر على “الفايسبوك”، هي أن المطلوب اليوم من الجميع هو الإحتكام إلى خصال التبصر والحكمة والتعقل والرزانة. ومن فَاتَهُ الركب، فلا داعي أن يَتَقَمَّصَ دور “نيرون” ويَحْرِقَ كل شيء.. فقط لأنه لم يعد في الواجهة وفَقَدَ كرسي القيادة على مستوى المسؤولية الحزبية والحكومية.

 

ومن المفيد، في هذا الصدد، أن نُذَكِّرَ رئيس الحكومة السابق أن ما رَاهَنَ عليه من فشلٍ لزملاء له في الحزب لا يشاطرونه توجهاته السياسية وطموحاته الضيقة، تعرض للإخفاق الكبير بشهادة حتى من المقربين منه.

 

وعلى ضوء هذا النموذج السلبي في الممارسة السياسية، أصبح لزاماً على الدولة والمجتمع معاً أن يتخذا مواقف صارمة إزاء هؤلاء المشوشين الذين لا غاية لهم إلا الحرص على تحقيق المآرب الشخصية والحزبية ولاشيء غير ذلك.

 

إن الدولة التي انتشلت مثل هؤلاء من رفوف النسيان وأعادت لهم الإعتبار داخل المجتمع وفي الفضاء السياسي، لا تنتظر منهم مقابلاً سوى أن يُحَكِّمُوا، ولو لمرة واحدة، ضميرهم ويرجعوا عن غَيِّهِم.. حتى لا يتم تَسْفِيهُ السياسة أكثر مما تم تَسْفِيهُهُا حتى الآن.

 

إن المغرب، كدولة صاعدة تَبْنِي نموذجها الديموقراطي والتنموي بثبات وهدوء، لا يَتَّسِعُ لا للسياسة الشعبوية ولا للشعبويين، بل يَتَّسِعُ لكل من يُشَمِّرُ على سَاعِدَيْهِ ويعمل بجد ومسؤولية من أجل الإسهام في دينامية رقي المملكة ومواصلة تكريس إشعاعها الإقليمي والجهوي والقاري والدولي.