الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

أصبح خطاب عيد العرش المجيد مناسبة وطنية تحمل أكثر من دلالة، بين الاحتفال والاحتفاء بالجالس على عرش المملكة الشريفة أمير المؤمنين الملك محمد السادس، إلى تجديد البيعة والولاء والعهد المتبادل على الوفاء الدائم لثوابت المغرب ومقدساته والتضحية في سبيل وحدته واستقراره… كما أصبح خطاب عيد العرش مناسبة للنقد الذاتي و”مُكاشفة سياسية” صريحة بين أفراد العائلة الواحدة وتحت سقف البيت المشترك والوطن الواحد الموحد.

 

وقد حمل خطاب العرش في نسخته التاسعة عشرة أُسُس مقاربة اجتماعية جديدة وتصور إستراتيجي عابر للحكومات يهدف إلى النهوض بالأوضاع الاجتماعية للمواطنين التي لا تقبل التأجيل أو الانتظار، في إطار مشروع اجتماعي استراتيجي أكبر من مجرد برنامج حكومي وأكبر من رؤية قطاع وزاري أو فاعل حزبي أو سياسي.

 

لقد عوّدنا خطاب العرش على الجُرأة في انتقاء المصطلحات والجُرأة في المعالجة والسبق في النقد الذاتي والذي يعتبره فضيلة وظاهرة صحية تسُد الطريق أمام كل أصحاب النوايا السيئة ودعاة العدمية وبائعي الأوهام، الذين يهدفون إلى نشر الفوضى ويستهدفون أمن المغرب واستقراره مستغلين بعض الاختلالات مع تبخيسهم للإنجازات..

 

جُرأة لغة الخطاب تعني أنها وصفت الأشياء بأسمائها؛ كالخصاص الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والمجالية وتجديد النموذج التنموي … وأنه لا مفر من العمل الجماعي والتخطيط والتنسيق بين كل الفرقاء، خاصة بين الحكومة والأحزاب المكونة لها والترفع عن الخلافات الظرفية … لأن الهيئات السياسية الجادة هي من تقف إلى جانب المواطنين..

 

ولا بأس أن نستحضر هنا إسقاطا ذكيا للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بقوله أمام الكونغريس الفرنسي، في قصر فيرساي شهر يوليوز الجاري، فيما معناه: إذا أردنا اقتسام “الكعكة” فإن أول الشروط هي التوفر على هذه “الكعكة”…

 

بمعنى أوضح إنه اذا أردنا اقتسام “الكعكة” (وهنا يمكننا إسقاطها على لائحة طويلة تشمل كلا من الثروة والمنافع والارتقاء الاجتماعي والتطور والتنمية البشرية والمشاريع التنموية وفرص الشغل والعيش الكريم والاستقرار والأمن…. وغيره) فهذا يعني أننا مدعوون جميعا إلى توفير الظروف والشروط المناسبة لضمان تعاقد جديد، بين المواطنين والهيئات السياسية، يكون مضمونه هو التنمية الاجتماعية والاستقرار والوحدة والأمن…

 

وبلغة واضحة لا تحتاج إلى كثير تفكير، جعل خطاب العرش لسنة 2018 من الرفع بالشأن الاجتماعي هدفه الأسمى وحدد الفاعلين من أجل الارتقاء به كما حدد الآليات لذلك… وهو ما يبرر تخصيص الخطاب للأحزاب السياسية بحيز زمني، داعيا إياها إلى ضرورة استقطابها لنُخب جديدة وخاصة من الشباب، وتحديث آليات اشتغالها وتفاعلها مع الأحداث بشكل استباقي…

 

كما تضمن الخطاب أكثر من دعوة إلى الحكومة، كالإسراع بإعادة هيكلة عميقة وشاملة للبرامج والسياسات الوطنية في مجال الدعم والحماية الاجتماعية… والإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي والاجتماع بالنقابات العمالية كواجب لا بد منه، بغض النظر عن نتائج هذا الحوار…

 

ونادى خطاب العرش بإصدار “ميثاق اللاتمركز الإداري” بشكل ينسجم مع ورش الجهوية المتقدمة، وكذا الإسراع بإخراج “الميثاق الجديد للاستثمار” وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، بالإضافة إلى اعتماد نصوص قانونية تتضمن إصلاحات إدارية تتعلق بمجال الاستثمار وتستهدف محاربة التماطل والرشوة والارتقاء بالتنافسية وغيرها وتتعلق بتفعيل مبدأ المحاسبة…

 

وضوح لغة الخطاب تتجلى في واقعيته وملامسته لجراح مجتمعية من خلال تركيزه على استعجالية برامج دعم التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي والمطاعم المدرسية والداخليات…

 

ومن خلال إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ودعم الفئات في وضعية هشة، ومن خلال تصحيح اختلالات برنامج التغطية الصحية “راميد”، وأخيرا من خلال إنجاح الحوار الاجتماعي بين مختلف الفرقاء الاجتماعيين..

 

كما حرص الخطاب على زف خبر المبادرة الاجتماعية الجديدة المتمثلة في “السجل الاجتماعي الموحد”، وهو نظام وطني لتسجيل الأسر قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي؛ وهو سيمثل بداية واعدة لتحسين مردودية البرامج الاجتماعية…

 

إن هذه المبادرات المستعجلة والتدابير وكذا دعوات الحكومة والفرقاء السياسيين والاجتماعيين إلى استحضار المصلحة العليا والتحلي بروح المسؤولية كل تهدف إلى بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام يضمن من جهة تنافسية المقاولة، ويدعم القوة الشرائية للطبقة الشغيلة من جهة أخرى..

 

ويؤكد الخطاب في هذه النقطة أنه لا يمكن توفير فرص الشغل أو إيجاد منظومة اجتماعية عصرية ولائقة إلا بإحداث نقلة نوعية في مجال الاستثمار ودعم القطاع الإنتاجي الوطني…

 

وهُنا يبرز الملك محمد السادس عن اقتناعه الراسخ بأن “… أسمى أشكال الحماية الاجتماعية هو الذي يأتي عن طريق خلق فرص الشغل المنتج، والضامن للكرامة”…

 

ولذلك يبقى الهدف المنشود، إذن، هو الارتقاء بتنافسية المقاولة المغربية، خاصة المتوسطة والصغيرة، وبقدرتها على التصدير وخلق فرص الشغل، والخروج من حالة الانتظارية السلبية إلى المبادرة الجادة المشبعة بروح الابتكار… وتكوين وتأهيل مواردها البشرية، هذا مع الحفاظ على الموارد الإستراتيجية للبلاد وفي مقدمتها الماء وضرورة مواصلة سياسة بناء السدود…

 

ومن جهة أخرى، فالخطاب تضمن قراءة نقدية للشأن الاجتماعي، هدفت إلى نقلة اجتماعية نوعية في شكل “تعاقد اجتماعي” جديد، تتطلب توفير شروط وتدابير استعجالية ومرحلية، وأخرى استراتيجية عابرة للحكومات وأكبر من كل فاعل سياسي وحزبي، وتتميز بالتحلي بروح الوطنية الصادقة والمواطنة المسؤولة.