الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

نراقب بكثير من الاهتمام الشأن السياسي الغربي عموما والأوروبي بصفة خاصة، لما له من تأثير بشكل أو بآخر على الصعيد العالمي وعلى أكثر من مستوى، سواء تعلق الأمر بالتكتلات الاقتصادية والسياسية، أو الوسائط المجتمعية (النقابات المهنية والجمعيات…) أو المؤسسات السياسية كالأحزاب السياسية، ودون إغفال الدور المفصلي لوسائل الإعلام ودورها في التوجيه والإعلام، بالموازاة مع دور النخب داخل المجتمعات الغربية في صناعة الرأي العام والتأثير فيه.

 

وقد نتفق مع العديد من القراءات السياسية للمشهد الأوروبي، والتي تذهب في اتجاه تراكمي مفاده أن أوروبا تعيش حالة “نقطة نظام سياسية”، كأن الأمر يشبه “محطة انتظار” لمرحلة سياسية نوعية مقبلة، قد تعصف بكل الأدبيات الكلاسيكية وتعلن قانون المرحلة السياسية الجديدة؛ بل إن “حالة الانتظارية” هاته جعلت المواطن الأوروبي مستعدا نفسيا للقبول بكل الآليات والوسائل للخروج من عنق الزجاجة.

 

ولا يحتاج الأمر ربما إلى كثير من الجُهد للوصول إلى هذه الخلاصة، خاصة مع تراجع الأحزاب التقليدية بأوروبا، والتي كانت غالبا عبارة عن “حاضنة ” لإيديولوجيات فكرية وسياسية، وتصور مجتمعي لأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لكن هذه الأحزاب سرعان ما تآكلت وتقلصت وانصهرت في أحزاب تشبهها أو تقترب من أدبياتها، وتبنت أسماء جديدة كأحزاب الوسط مثلا، سواء تعلق الأمر بأحزاب اليسار أو اليمين على السواء. وبالمقابل من ذلك، توجد أحزاب أخرى قبلت بأسماء جديدة من قبيل الأحزاب الراديكالية أو المتطرفة، لنصل أخيرا إلى مسمى جديد أي الحركات والأحزاب الشعبوية.

 

يتفق أكثر من ملاحظ على أن ظهور الشعبوية في أوروبا هو نتيجة لتراجع دور الأحزاب السياسية التنظيمي وتراجع إيديولوجياتها الفكرية وتصوراتها المجتمعية؛ ناهيك على كون أغلب تلك الأحزاب التقليدية تعيش على القيادة الأفقية، كما أن فساد النخب السياسية وحالات الاختلاسات المالية والتهرب الضريبي ودعاوي الرشاوي وسياسات التقشف… كل ذلك عجل بتأزم أوضاع هاته الأحزاب الأوروبية، وأسهم في ظهور حركات أو أحزاب شعبوية قامت على أنقاضها ورفعت شعارات محاربة “قوات التحكم” أو مواجهة “الجهات النافذة ” أو غيرها من الأسماء.

 

وأمام هذا الوضع السياسي والمجتمعي الجديد، استشعرت الأحزاب التقليدية، سواء من اليسار أو اليمين، خطر اقترابها من النهاية؛ فسارعت إلى القيام بعمليات “تجميل سياسي” وتغيير أسماء الأحزاب أو تبني شعارات جديدة من خلال برامجها الانتخابية من أجل كسب المزيد من الناخبين، وتحريك آلية الصحافة الحزبية وتسليط المزيد من الاهتمام على مُنظريها، والقيام بتحالفات وتكتلات سياسية عند كل تمرين انتخابي، بالإضافة إلى تبني خيارات جديدة في توجهها السياسي مثل “الطريق الثالث” لطوني بلير بالنسبة إلى اليسار في بريطانيا، والذي كان الهدف منه هو توسيع قاعدة الناخبين قبل أن ينتهي بهم الأمر إلى الابتعاد عن الملفات التي بنت مجْد اليسار وأسهمت في قوته، أي ملفات حقوق العمال والدفاع عن الفئات الهشة وتشجيع الهجرة واللجوء والتوزيع العادل للثروة….

 

ونتيجة لكل هذا التدافع السياسي، وجد الناخب الأوروبي نفسه في وضع يصعب معه التمييز بين برامج أحزاب اليسار عن أحزاب اليمين، خاصة أنهم بنوا هاته البرامج على مسألة الخوف: الخوف من البطالة، والخوف من المرض، والخوف من التقاعد، والخوف من المهاجر المسلم ومن اللاجئين، والخوف من فقدان كل مظاهر الرفاه الاجتماعي، والخوف من التطرف والخوف من الإرهاب. والخوف من الإسلام…

 

لذلك فقد كان من الطبيعي أن تظهر حركات سياسية ومدنية تُعلن تخلصها من الانتماء الإيديولوجي إلى اليسار أو إلى اليمين، وقدمت نفسها بديلا جديدا لكل التمثلات الحزبية الكلاسيكية، أشهرها حركة “خمس نجوم بإيطاليا وحركة “بوديموس” بإسبانيا وكذا حركة “الجمهورية إلى الأمام” بزعامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وغيرها من الحركات التي غيّرت من رتابة المشهد السياسي ونخبه، من خلال ضخ وجوه جديدة، وطريقة جديدة في التواصل وفي الخطاب مع استغلال مفرط للثورة الرقمية.

 

وتفرض هذه المعطيات الواقعية على الأحزاب الكلاسيكية ضرورة إعادة الاعتبار لعملها الحزبي واستعادة وظيفتها التنظيمية والتأطيرية، بشكل يوافق تطور العصر انطلاقا من تغيير لغة الخطاب إلى الابتعاد عن التجييش المجاني في مواضيع تزرع الخوف والكراهية في نفوس الناخب الأوروبي…

 

وقد رافق هذا التحول في بنية الأحزاب الكلاسيكية حالة من “البلوكاج السياسي” أصبحت تشهده مجموعة من الدول الأوروبية مباشرة بعد كل تمرين انتخابي؛ فكلنا يتذكر تعثر مفاوضات تشكيل الحكومة البلجيكية بين الأحزاب السياسية سنة 2011 والذي دام حوالي 535 يوما، وكلنا يتذكر تعثر مفاوضات تشكيل حكومة هولاندا سواء بعد استحقاقات سنة 2010 حيث دامت المفاوضات 4 أشهر، أو بعد استحقاقات أكتوبر 2017 حيث دامت 7 أشهر؛ التعثر نفسه عرفته حكومة ميركل سنة 2013 والتي استغرقت 86 يوما، وكذا استحقاقات سنة 2017 والتي انتهت بالتوافق على “الائتلاف الحكومي الكبير” بعد أشهر من المفاوضات، والأمر نفسه تعيشه إيطاليا الآن بعد استحقاق 4 مارس 2018 فما زالت المفاوضات في بدايتها…

 

وإلى جانب التدافع السياسي على المستوى الحزبي، يشهد مجال الثقافة والفن عودة لافتة للقارئ الأوروبي إلى زمن الإصدارات الأدبية للزعامات والأيديولوجيات التي غيرت مجرى التاريخ،؛ ففي سنة 2016 تجاوزت مبيعات كتاب “كفاحي” لأدولف هتلر 80 ألف نسخة بعد سقوط حقوق الملكية بمرور 90 سنة على نشره للمرة الأولى سنة 1925.. بالإضافة إلى النجاح الجماهيري الذي حققته العديد من الأشرطة الوثائقية والأفلام الطويلة عن هتلر وبينيتو موسوليني فيلم “لقد عُدْتُ”، وفيلم “الشاب كارل ماركس” الذي يتناول حياة ماركس وصداقته بالفيلسوف فريديريك إنجلز وأثرهما الكبير في تغيير العديد من مفاهيم الحياة الإنسانية وميلاد المذهب الماركسي…وهي رسائل سياسية واجتماعية لا يمكن القفز عليها بل ربما تسعفنا في استشراف المقبل من الأيام والسنوات.

 

إن الاهتمام بالشأن السياسي الأوروبي ودراسة “ميكانيزماته” هو غاية مفيدة، نظرا لإقامة حوالي 80 في المائة من مغاربة العالم أوروبا، وكذلك لارتباط حاضر ومستقبل المغرب بالعديد من دول أوروبا من خلال شراكات اقتصادية وبرامج تنموية، وأيضا لأن أغلب دول أوروبا هي شريك إستراتيجي للمغرب في العديد من الملفات الكبرى كالهجرة ومحاربة الإرهاب والتعاون الأمني والقضائي؛ وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية.